من وصيّة حيوان
كل شيء سيختلف، لن يعود بيننا من يقول: يداً بيد أو:
كتفاً إلى كتف.
ثم من سيتباهى ببابه المفتوح (على مصراعيه)؟
المجد لرتاجاتها، تقدّس الباب المغلق، النجاة في إحكام إغلاقه.. فجراً أو في الظهيرة، ستكون كل النوافذ مغلقة، الهواء شديد الخطورة، لا تدعه يتساقط فوق كتفيك.. الهواء شديد الخطورة.. دع بينك وبين الهواء مسافة أمان.
لست في زمن الناقة.. أنت الإنسان الأخير، وعليك الاعتذار عن كل ما مضى:
ـ الاعتذار عن غزو الفضاء.. عن الهندسات الجينية.. عن يقظة الكهف فيك، عن سيادة المصارف وبيوت المال، عليك الاعتذار من الغابات وقد طالتها الحرائق، كما الاعتذار من النهايات السعيدة.
لقد كانت رؤيته ثاقبة، وها نحن نحتفل بها، وقد تنبأ بالصدمة الكبرى، بالمصيبة التي تتلو مصيبة:
ـ انهيارات في بيوت المال..
بالنسبة لك :فليكن، وبالنسبة لي كذلك.
وبالنسبة لهم، ملامسة المال (وقد تقدّس) سره بات مكيدة إن لم يغسلوه بالصابون والمعقّمات شديدة التأثير على الفايروس، ولابد أن يغسلوا أيديهم من ورائه..
أولئك الذين لم يغتسلوا من الدماء من أجله، باتوا يغسلون أيديهم منه.
ـ أية مفارقة هذه؟
إنها انهيار الهيكل، وهي تعني فيما تعنيه، انهيار النظام العالمي الجديد، ذاك النظام الذي بني على جثث 65 مليون قتيل، وملايين المغتصبات، ومعسكرات أفران الغاز، وسقوط النازية، ونشأة هيئة الامم المتحدة، وبناء قاعة المنتصرين، ملوك العالم الجديد، وها أنت وقد أصبحت في زمن آخر، بوسعك أن تدعوه:
ـ ما بعد النظام العالمي الجديد.. زمن الكورونا.
زمن ما من منتصر فيه يلتقط صورة تذكارية مع منتصر آخر، ولا قتيل منه يدفن قتيلاً فيه، فالموتى هنا لايدفنون موتاهم.. الموتى هنا يتدبرون شؤونهم بمفردهم، يتدحرجون إلى مقابرهم بمفردهم، أما المنتصرون فلن تجمعهم صورة تذكارية واحدة أسوة بتلك التي جمعت العجوز ونستون تشرشل، مع الحائط جوزيف ستالين، وثالثهما فرانكلين ديلانو روزفلت وقد كان يتنقل بين الخنادق على كرسي مدولب يجره ثور أمريكي.
ثلاثة عجائز يقصون الشريط الحريري للنظام العالمي الجديد.. حدث ذلك ما بعد حرب عالمية طاحنة، ضحاياها أرقام على قطع رخام، وربما قطع نحاسية مغروزة على رصيف كما يمكنك ملاحظتها في فيينا وبرلين.
ثلاثة عجائز أدخلوك إلى النظام العالمي الجديد.. عجائز؟! نعم عجائز.
ما بعد النظام العالمي الجديد، مع انهياره، لامكان للعجائز، كورونا كفيلة بتخليص العالم من عبء سعالهم.. سلسهم البولي.. روائحهم التي هي أشد شبهاً برائحة التيوس، وقد تدلت حفنة من الشعيرات من أنوفهم.
سيكون عالماً للشباب.. وحدهم الشباب سيمكثون في هذا الكوكب، أقلّه لمئة سنة قادمة ريثما ينهار نظام الكورونا، هذا إن لم يفترس الكورونا الجميع، ولا أظنه سيفعل ذلك، لا رحمة منه، بل لأن الكوكب لم يمل من الدوران بعد.. لم يقفل أبوابه على الأفلاك الأخرى كما نفعل نحن،
ـ نحن الذين لم نكن نعلم.
لم نكن نعلم ماذا؟
لم يكن يخطر لك أو لي، أن المال وسخ على هذا النحو.
ـ وماذا أيضاً؟
ـ وناقل للفايروس أيضاً.
لم نكن نعلم أن الأبواب.. جميع الأبواب ستكون مقفلة، وأن قيمة الأبواب سترتفع على هذا النحو، باستثناء بوابات الروح.. ستكون بوابات مهجورة.
لن يكون لها مطرقة..
سيكون لها تلك العين الساحرة.. العين التي تتقصّى من يقف وراء الباب.. وسنكون كما الحيوانات في الزرائب، فيما زرائب الحيوانات تتحوّل إلى محارق للحيوان، وقد بات عبئاً علينا نحن البشر اللاحمين المختبئين وراء أبوابنا خوفاً من أن تلتهمنا الحيوانات غير المرئية، الحيوانات الشرهة التي لاتُرى سوى بالتلسكوبات الضخمة التي تلتقط دبيب النملة في المجرّات البعيدة.. أقلّه في المجرة التي ندور فيها وأعني درب التبان.
لن يكون ثمة حدائق حيوان.
عمال حدائق الحيوان في عطلة طويلة.. ستخرج الحيوانات من حدائق الحيوان وتهرع في الشوارع.. شوارع المدن الفارغة.. في الطرقات الفارغة، تحت إنارات نيون تضاعف من أعدادها فظلالها على الأرصفة سيضاف الى حشودها الحزينة، المنكسرة، الضالة، الخائفة وقد استعادت حريتها لتقع في مصيدة الموت.
ـ وكأنه (الموت) يساوي حريتها.
أتذكرون "قصة حديقة الحيوان"؟ مسرحية إدوارد آلبي التي تحكي عن الإنسان الوحيد المنعزل؟
قد يكون استحضارها اليوم ممكناً، وكنّا قد اأغيناها من الذاكرة، ما بعد زواج ريغان / تاتشر، ذاك الزواج الذي أنجب لنا النيوليبرالية، فعشقناها باعتبارها، تفكيك قبضة (الدولة) الصارمة على مقدراتنا وأرواحنا، وها نحن نصغي إلى بوريس جونسون، وهو يخاطب البريطانيين بقوله:
ـ استعدوا، ستفقدوا الكثير من أحبائكم.
ولكن في الوقت نفسه لا يغلق المدارس، ولا يَعد العمال بأية تعويضات في حال تغيبوا عن العمل!
ـ موتوا براحتكم.. بكل الحريّة.
ولا ينقصه سوى أن يصرخ، كما لو ميل غيبسون في (قلب شجاع):
ـ freedom
دون أن ينسى أن واجبه الأول هو أن يصون احتياطي الخزينة من أن يتسرب إلى شعبه.. إلى سرير إنعاش أو منفسة.
فيما الصين (الدولة)، دولة المنجل والمطرقة التي كرهناها، تُوقف كل نشاط تجاري وصناعي، وتتكفل بكل التعويضات، الفحوصات والعلاج مجانية بالكامل.. على المواطن فقط أن يبقى في منزله، ومن يخرج متسبباً بنقل العدوى، فرصاص الجيش سيتكفّل بقتله.
مع الليبراليين الجدد بات المطلوب إغلاق حدائق الحيوان.. الحيوان الذي سبق وكان مواطن شرف في دولتهم، ومع إغلاقها مطلوب:
ـ سرية من مطلقي الرصاص، متخصصين بالقتل الرحيم.
ثمة قتل رحيم يستوجب ممارسته على البشر.. هو القتل وقد تزيّن باللغة.. بأناقة اللغة.. ببحبوحة احتيالاتها.
لن نقف على مفترق الطرق.. كل الطرق مقفلة، ووحده طريق الفايروس مفتوح.
ربما على الفلسفة،
فلسفة التفكيك.. تفكيك كل شيء:
ـ العقائد، القبائل، وكل أشكال الاستقطاب السابقة على فحص حرارة أجسادنا.
ـ سنغادر مملكة الله، وقد ندخل مملكة فوكوياما وقد بشرنا بنهاية التاريخ.
ـ سيكون الأمر كذلك.
سنتبرع في إهداء كلمة "العيب" للغيب.
ليس عيباً أن لاتصافح ابنك.. أن تمتنع عن احتضان حفيدك.
أن تغسل يديك بالكيروسين، بماء النار إن عانقت رفيقة دربك.
وستكون أيامك.. ساعاتك.. ثواني ما تبقى من عمرك من ثقب الباب.
الموسيقى تأتيك من ثقب الباب.
الوجبة اليومية من ثقب الباب.
مفتاح الأرض ومفتاح السماء من ثقب الباب.
والضمائر لن تُرى سوى من ثقب الباب.
والكل في مهب ثقب الباب.
وسيتحوّل الباب إلى تاج مملكتك.
وكل الأبواب موصدة.
ماجدوى التاج إذا ما دفن في التابوت؟
أنت ملك من مِلح يذوب في ماء الرئة.
أنت الملك في وحدته.
ملك العزلة.
أنت الملك وأنت الجارية في بلاطك.. بلاط مملكتك الخالية سوى من الرؤيا الخلاّقة، وقد هبطت عليك لتنبشك بأظافرها.
رعاياك مقتولين أو قاتلين.. تفتك بهم أو يفتكون بك.
ستكون :
ـ ملك الخوف من كائن ليس فيه حياة، يتكاثر فيك لينتزع منك الحياة.
إنه الحق المنسي.
ثمة من يطرق بابي في هذه اللحظة.
ليلى" على الباب.
سأفتح لها الباب.ما أزال خارج الـ (سين).
(سين) مايستقبل من الزمن.
اقرأ للكاتب: