info@suwar-magazine.org

فيلم "البائِع المتجوّل" إسقاطات بصرية لمجتمع مُنهار ومُتصدِّع في باطنه

فيلم "البائِع المتجوّل" إسقاطات بصرية لمجتمع مُنهار ومُتصدِّع في باطنه
Whatsapp
Facebook Share

 

 

لم تكن يوماً التّصدّعات الحاصلة في كيان عُمران إحدى المدن إلّا كناية واضحة عن حجم الكارثة المخيفة التي تحصل في بنيان أنظمتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسيّة وتعكس بوضوح الواقع الذي أصبح أكثر خطورة من انهدام ذاك البناء على حياة الأفراد وأرواحهم، ولم تستطع السينما إنكار ملابسات ذاك الانهيار الاجتماعي، ونقل الرؤية الواقعيّة السوداويّة لطبيعة هذا المجتمع.

 

أجاد المخرج الإيرانيّ أصغر فرهادي، الحائز على جائزة الأوسكار، في فيلمه (رجل المبيعاتE ) الذي ينقل لنا حكايةً حصلت في العاصمة الإيرانيّة طهران عبر رحلةٍ مع عائلةٍ صغيرةٍ مكونةٍ من زوجٍ يُسمى عماد (شهاب حسيني)، وزوجته رانا (ترانة عليدوستي)، يعيشان وسط زحام مدينة طهران، وضجيجها.

 

القصّة والنّص التي استمدّهما الفيلم من مسرحيّة مأخوذةٍ عن نص آرثر ميلر،  بعنوان "مقتلِ بائعٍ جوّال"، لتكون على شكل نسخةٍ فيلميّةٍ إيرانيّة الصنع عن موتِ بائعٍ مُتجوّل.

 

عماد ورنا، زوجان من الطّبقة الوسطى،  يعملُ عماد مدرساً للأدب في مدرسة ثانويّة، ويتمتّع بمحبّة وصداقة طلَّابه، وليلًا يعملُ ممثلاً مسرحيَّاً في فرقة متواضعة، كذلك رنا تعمل ممثّلةً في نفس الفرقة، وخلال ذلك الوقت كانا يجهّزان مع زملائهما لإطلاق مسرحيّةٍ تحمل نفس العنوان.

 

يبدأ الفيلم بمشهد مبنى متصدّع في مدينة طهران، نشاهده آيلاً للسّقوط في أيّة لحظة. فيما سكّانه يهربون من منازلهم خوفاً على أنفسهم، الكاميرا المحمولة التي استخدمها المخرج فرهادي تركّز وتتابع الهلع والخوف والتّراكض، الذي يحلّ بالسّكان، ومحاولتهم الهرب إنقاذاً لأنفسهم،  والتّركيز على سرعة الأرجل في الحركات المتتابعة، وكذلك متابعة ما يفعله عماد ورنا وهما يُنقِذان ما يمكنُ إنقاذه، من ثيابٍ وأشخاصٍ، ويساعدانهم على الخروج  خارج البناء المهدّد بالسّقوط.

 

ينقلنا المخرجُ إلى مشهدٍ تُطلّ فيه الكاميرا من نافذة إحدى الشّقق إلى أسفل البناء، لنكتشف حفّارةً تعملُ على وضع أُسس بناءٍ بجانبِ العمارة التي يتواجد فيها عماد ورنا وتكونُ في طَور التّشييد. حيث نشاهدهما وهما يستيقظان على أصواتِ أعمال حفرٍ وإنشاءاتٍ صاخبةٍ تجري بجوار المبنى الذي يقطنان فيه، فتهتز عمارتهما السّكنية، وتبدأ في التّصدع، ويسمعان صوت زجاج النّوافذ وهو يتكسّر.

 

يُسارع الزّوجان لمغادرة المبنى فوراً، تاركين كلّ شيءٍ وراءهما، ونتعرّفُ من بداية الفيلم على مدى شهامة الزّوج عماد الّذي يعود من أجل مساعدة سيّدة مسنّة على نقل ابنها المعاق لخارج المبنى الّذي قد ينهار في أيّة لحظة.

 

يُصبح المبنى خطيراً وغير قابلٍ للسّكن فيه، فيجد الزّوجان أنفسهما في الشّارع دون سكن، إلا أنّ زميلهما الممثّل باباك يساعدهما لإيجاد شقّةٍ شاغرةٍ، تقعُ في الطّابق الأخير من عمارة سكنيّة مكتظّةٍ بالسّكان، وبعد الانتقال، يُخبرهما صديقهما أنّ المستأجرةَ السّابقة خزّنت أغراضها في غرفةٍ موصدةٍ في تلك الشّقة، إلى حينِ استئجار شقّة جديدة، وقد تحتاج عدة أيام لتأتي من أجل نقل أشيائها.

 

يُستفزُّ عماد من هذا الأمر، ويفتح الغرفة وينقل أغراض السّيدة إلى السّطح، ويغطيها بمفارش بلاستيكيةٍ سميكةٍ ليحميها من المطر، إلا أنَّ السّيدة عندما تعلمُ بالأمر ، تُعرب عن غضبها الشّديد، مُهدّدة بأنها لنْ تسمحَ بأنْ يمرَّ الأمر بسلام، وهنا تبدأ ضغوطات الحياة في المدينة المزدحمة المتكاثفة العمران، المفكّكة اجتماعياً، بملاحقة الزّوجين.

 

وتظهر هذه الضّغوطاتُ بشكلٍ جليٍّ عندما يصوّر لنا الزّوجين، وأنّهما دوماً يبدوان دائماً في حالة شرود، وفي مكانٍ آخر ولحظةٍ أخرى غير المكان والزّمان الحاليّين، تخنقهما حياة الطبقةِ الّتي ينتميان إليها في طهران، الّتي تعني الزّحام، والتّكدّس، وأزمة السّكن، والقيود الدينيّة الّتي تحكم المجتمع الإيراني وتحيط بهما كفنانين، إضافةً إلى الضّغط النّفسي الممارَس عليهما كزوجَين محرومَين من إنجاب الأطفال.

 

وتسير الأيّام  ببطء والزّوجان في عملهما إلى أن يتغيّر مجرى القصّة والأحداث كليّاً، ففي أحد الأيّام يرنّ جرس الباب ورنا وحيدةً في المنزل، تظنّ أنَّ عماد أسفل العمارة، فتفتح باب الشّقّة وتدخلُ الحمّام لتستحمّ ريثما يصعدُ عماد. بعد ساعاتٍ يعودُ عماد للمنزل فيجد زوجته ممدّدة على أرضِ الحمّام والدّماء تسيلُ من رأسها، يهرع بها مع أصدقائه من الفرقة إلى المُستشفى.

 

ورغم نجاةِ رنا من الحادث الّذي لم يترك أضراراً جسيمةً على جسدها سوى بضعةِ جروحٍ بجوار حاجبها وعينها، إلّا أنّه في المقابل ترك جروحاً غائرةً في نفسها وروحها، أصبحت كثيرة البكاء، وتخاف البقاء وحدها في المنزل، ولا ترغب في دخول حمّام المنزل، لدرجة أنّ زوجها يصطحبها لشقّتهما القديمةِ من أجل أنْ تستحمّ.

 

هذا ما يزيد حجم التّعب والضّغط على عماد،  وذلك بالتّزامنِ مع انطلاق المسرحيّة الّتي تؤكّد رنا قدرتها على المشاركة فيها في دور زوجة ويلي، بينما يُؤدّي عماد دورَ البائِع ويلي نفسه، إلّا أنّ رنا تنهار على المسرحِ في يوم الافتتاح، ويُلغى العرض، قبل أنْ تُستبدل رنا بممثلةٍ أُخرى.

 

اقرأ أيضاً:

 

فيلم (المولود مرتين) تجسيدٌ لعذابات النّساء والأطفال في الحرب

 

يكتشف عمادُ أنّ الشّخص الذي هاجم رنا، ترك هاتفه ومفاتيحه وأوراقٍ ماليّة داخل شقتهما، ويلُاحظُ أنّ المفاتيح تحتوي على مفتاحٍ لسيارة. يهبط عمادُ نازلًا للطّريق ويُجرّب المفتاح في جميع السّيارات المصفوفة، ليعثر في النّهاية على سيّارة نقلٍ صغيرةٍ فُتحت بالمُفتاحِ الّذي وجدهُ عماد.

 

وتسْتمر باقي أحداثِ الفيلم حول رحلة عماد للبحث عن هذا الشخص للانتقام، متحولاً من الشّخص المشغول بفنّه مُرهفِ الإحساس إلى الغاضِب والرّاغب بالانتقام تزامناً، ومتأثّراً بطبيعة أحداثِ المجتمع وانهياره الأخلاقيّ من الباطن.

 

  يرفض عماد إبلاغ الشّرطة، ويفضّل الانتقام بطريقته الخاصّة، بعد أنْ تسبّب ذلك الشخص بالأذى له ولزوجته، ويُسيطرُ شُعور الانتقامِ عليه، إلى أنْ يصل الشّك في كلّ الأشخاص من حوله: باباك، والسّيدة المستأجرة القديمة، وعامل المخبز، يُهين بقسوةٍ تلميذاً لديه بدرَ منه تصرفٌ أخرق، ويستغلّ دوره على المسْرح في سبّ وإهانة باباك بطريقةٍ فهمها الأخير، لكنّ الجمهور اعتقدَ أنّها جزءٌ من المسرحيّة، أمّا زوجته رنا ترفُض الانتقامَ وتدعوه للتّسامح، مهدّدة بتركه إنْ لم يستطع التّحكّم بذاته، ونسيانِ الحادثة.

 

يُجيد المخرج أصغر فرهادي بفيلمه هذا الغوصَ في أعماق الإنسان الإيرانيّ المعاصر المنتمي للطّبقة الوسطى، والّتي تُمثّل الشّريحة الأكبرَ من سكّان إيرانَ، مُركّزاً على التّحولّات النّفسيّة الّتي تُصيب الممثّلِ مُبرّراً ذلك بطريقةٍ خلّاقةٍ، واقعيّةٍ ومنطقيةٍ مترابطةِ السّردِ والعرضِ، تُبهر المُشاهد لتخلق فيه الرّغبة التّشويقيّة لمعرفة النّهاية.

 

وكما يمرّر المخرجُ أفكاره بطريقةٍ ذكيّةٍ إسقاطيّةٍ وليس علناً، ليُدين بذلك العدوانيّة الرأسماليّة التي هي حالُ إيران الآن، مشبّهاً لها بأمريكا الرأسماليّة المتكاثفَة العُمران لكنّها مُتوحّشةً على الإنسانيّة وعلى أفرادِها، فيعرضُ بثلاث لقطاتٍ الفورةَ العمرانيّة في طهران، وبعدها يدخل في قصصِ المجتمعِ المتصدّعِ والمتآكلِ من الدّاخل، لا مكانَ للطّيبين فيه، تماشياً مع فلسفةِ المجتمع.

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard