info@suwar-magazine.org

الحياةُ الخاصة لنساءٍ فقدنَ أزواجهنَّ في الحربِ

الحياةُ الخاصة لنساءٍ فقدنَ أزواجهنَّ في الحربِ
Whatsapp
Facebook Share

 

 

"لستُ للبيع والاستغلال، أنا امرأةٌ أستطيع أن أفعل ما يفعله الرّجال وأكثر، طموحي ألّا أحتاج أحداً، وأن أنجح في تربية ابنتي خارج المعاناة التي عِشتها أنا، كي لا تُذلّ لأحدٍ من أجل القليل من اللّيرات".

 

تُنهي فاتن (38 سنةً) كلامها بهذه العبارة، وهي امرأةٌ من النّساء اللّواتي غيّرت الحرب حياتهنّ، بدايةً بالنّزوح عام 2012، ثمّ هَجر زوجها لها بعد ذلك بقليلٍ، تاركاً إيّاها مع ابنةٍ صغيرةٍ دون مأوىً، تعيش فاتن الآن في قبوٍ صغيرٍ، استطاعت ترميمه وجعله صالحاً للسكن، بعد أن بقيت لسنواتٍ لا تمتلك مكاناً لها وابنتها، انتهت أيام البحث عن العمل وسنوات الاستغلال، لتتمكّن من إيجاد المكان والعمل المناسبين.

 

 ترفض فاتن فكرة الزّواج مجدّداً، ولديها أسبابُها، فهي امرأةٌ استطاعت الحرب أن تغيّر فيها لتصبح أكثر قوًّة وصرامةً، ويصبح شاغلها الوحيد ابنتها الّتي تَبلغ من العمر 17 عاماً، ليس الزّواج بحدّ ذاته ما يسبّب لها مشكلةً، بل طبيعة الرّجال الذين التقت بهم مُذ نزحت من منزلها، والصّدمة التي خلّفها زواجها الأوّل.

 

"أنا لا أثق بالرّجال، لم التقِ برجلٍ هدفه الزّواج، وإقامة علاقةٍ يلتزم بها كلانا، كلّ ما كانوا يريدونه؛ هو علاقةٌ جنسيّةٌ عابرةٌ، وبعضهم دفع المال لي من أجل ذلك ولكنّي رفضت، وإن جاءني رجلٌ يريد الزّواج بي لن أتزوج، فابنتي أصبحت شابّةً وأخاف عليها منهم، ما من رجلٍ يمكنك الوثوق به اليوم".

 

مئات النّساء السّوريّات اللّواتي فقدن أزواجهنّ في الحرب يواجهن نفس مصير فاتن، غياباً تامّاً للحياة الجنسيّة، بعد أنّ أصبحن المسؤولات الوحيدات عن حياتهنّ وأطفالهنّ، معظم هاته النّسوة غير متعلّماتٍ، أو قادراتٍ على إيجاد فرص عمل لائقةٍ، نساءٌ اعتدن وبسبب مجتمعهنّ والبيئة المحيطة بهنّ البقاء في المنزل وتربية الأبناء والعناية برجالهنّ، ليجدن أنفسهنّ فجأة دون منزلٍ أو رجلٍ، أو مهنةٍ يعملن بها لإكمال حياتهنّ، حياة هؤلاء النّساء بدأت من اللّحظة الّتي بدأن بخسارة كلّ شيءٍ، خرجن إلى العالم ليجدن أنفسهنّ وحيداتٍ وقويّاتٍ قادراتٍ على العيش دون رجلٍ تتبعنَ له.

 

من جهةٍ يبدو أنّ غياب الرّجل عن حياة نساء سوريا المتأثّرات بالحرب، له تأثيرٌ إيجابيٌّ على وضعهن كنساءٍ، فالتّغيير الّذي حصل بحياتهنّ دفعهنّ للتخلّي عن الكثير من العادات المجتمعيّة ومواجهتها، فلم تعد هاته النّسوة مقيداتٍ، بل أصبحن مسؤولاتٍ بشكلٍ مباشرٍ عن حياتهنّ، وهذا ما جعلهنّ يخرجنَ من بيوتهنّ للعمل، ويصطدمنَ لأوّل مرٍّة بالعالم الخارجيّ، ويكتشفنَ حقوقهنّ التي كانت مسلوبةً بإبقائهنّ حبيسات المنزل.

 

اقرأ أيضاً:

 

زوجاتُ المعتقلينَ والمغيّبينَ قسراً بينَ أتاواتِ المجتمعِ وسجنِ الانتظارِ

 

ولكن من جهةٍ أخرى؛ وعدا عن الضّرر النّفسيّ الّذي ترتّب عن فقدانهنّ لأزواجهنّ، شكّل هذا الفقدان غياباً كاملاً للحياة العاطفيّة والجنسيّة لهاته النّساء، والّذي يُعتبر أمراً غير صحّيٍّ، فالمرأة التي فقدت زوجها فقدت معه حقّها في المتعة والاستقرار العاطفيّ، وبالتّالي أصبحت تشعر بسبب عاداتٍ مجتمعيّةٍ؛ أنّها ناقصةٌ، فهي ليست عذراء يمكنها البحث بحريّةٍ عن زوجٍ لها، فزواجها مشروطٌ، وغير قادرةٍ على إقامة علاقةٍ خارج إطار الزّواج، بسبب وجودها في مجتمعٍ يحرّم ذلك على النّساء، إذ أنّ الأرملة والمطلّقة في مجتمعنا لا يحقّ لها التّفكير بعواطفها ورغباتها، حياتها يجب أن تكرّسها لأبنائها، ودخولها في أيّ علاقةٍ سوف يشكّل ضغطاً آخر عليها واستهجاناً من قبل المحيطين بها.

 

نسرين البالغة من العمر 35 عاماً، هي ضحيةٌ أخرى من هذا النّوع فقدت زوجها في الحرب عام 2013 ولديها أربعة أولادٍ، تُعاني من غيابٍ كاملٍ للجانب العاطفيّ في حياتها وهذا يشكّل ثِقَلاً عليها تقول: "سئمت هذا الفراغ، الأيام تمرّ متشابهةً، أتمنى أن يحدث شيءٌ مختلفٌ، أن يهتم بي أحدهم، أن أشعر بالسّعادة، كلّ ما أفكر به؛ هو حبٌّ واهتمامٌ فقط، أما الزّواج فأنا غير قادرةٍ على ذلك، تعرّفت على أحدهم وكان هدفه التّسلية، أفكر بعواطفيّ دائماً، ولكنّي أشعر أنّ أبنائي هم الأهمّ، لأن زوج الأمّ قد يدمّر حياتهم".

 

  تشكّل عائلة نسرين، وعائلة زوجها المتوفّى المعيق الأساسيّ لإقامتها لأيّ علاقةٍ، تزوّجت في عمر الثّالثة عشر، والآن لازالت في مقتبل العمر، وبالرّغم من تغيير الحرب لنمط حياتها واستطاعتها الخروج والعمل، إلّا أنّ حياتها الشّخصيّة ليست مُلكاً لها، فهم يراقبون تحركاتها بدقّةٍ، معتبرين أنّه لا حقوق لها، بل لديها واجبٌ واحدٌ؛ وهو الحفاظ على أبنائها، متجاهلين بشكلٍ كاملٍ صغر سنّها وحقّها في إقامة علاقةٍ أخرى.

 

ترتبط الفضيلة في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة بجنسانيّة المرأة، فسلوكها الجنسيّ  هو المقياس الذي من خلاله تأتي فضيلتها الخاصّة التي تنعكس على الأبناء والأهل والمجتمع حولها، وبذلك تُصبح الحياة الشّخصيّة والحميميّة بهذا القدر، موضوعاً للتحليل والتّحريم والتّدخل من قبل الآخرين، في الوقت الّذي تسقط عنها جميع الفضائل الحقيقيّة من قدرتها على تحمّل الأعباء وحيدةً، والعمل وتربية الأطفال، يجعلون من حياتها الخاصّة المحور الذي تُبنى على أساسه قيمتها، وتأتي هذه القيمة من تجاهلها هي نفسها لأيّ رغبةٍ بداخلها ورفضها لأيّ شكلٍ من الارتباط، وبدل أن تكون حياتها طبيعيّةً تتمتّع بها ضمن علاقةٍ سليمةٍ وصحّيّةٍ، تصبح موضع نقاشٍ ومشكلةٍ عامّةٍ تهمّ جميع من حولها.

 

وإذا ما تجاهلنا جميع الضّغوط الأخرى التي ترزح امرأةٌ وحيدةٌ تحتها، لوجدنا أنّ غياب الحياة الجنسيّة سببٌ للكثير من المشاكل البيولوجيّة والنّفسيّة، فالعلاقة مع الجنس الآخر هي حاجةٌ طبيعيّةٌ لدى جميع البشر، وفي حالة المرأة في مجتمعنا تتصارع بداخلها رغباتها العاطفيّة والجنسيّة مع القمع الممارس عليها من قبل المجتمع، ومنعها من إقامة أيّ شكلٍ من أشكال العلاقة بعد فقدانها زوجها، وهذا ما يجعلها تكبت هذه الحاجة، والذي يؤدّي إلى اضطراباتٍ نفسيّةٍ وعصبيّةٍ عدا عن الضّرر العضويّ لديها.

 

تبدو هذه المشكلة حاضرةً بشدّةٍ في سوريا بعد الحرب، مع وجود عددٍ كبيرٍ من النّساء اللّواتي فقدن ذواتهنّ مع فقدان أزواجهنّ، يعشن يوميّاً الخوف والوحدة، فيما هنّ مراقباتٌ طيلة الوقت ممّن حولهنّ، مع فقدان حياتهنّ الخاصّة يصبحن شيئاً فشيئاً فاقداتٍ لملامح أنوثتهنّ، وتتضاءل ثقتهنّ بأنفسهنّ فيما تصبح حياتهنّ لا قيمة لها إلا فيما تقدّمنه للأخرين.

 

بذات الوقت الذي يحرّم المجتمع على المرأة بعد فقدانها زوجها الدّخول في علاقةٍ أخرى، تمارس هي نفسها على ذاتها ضغطاً آخر، فبسبب الأخلاقيّات العامّة، والّتي ترسّخت بداخلها، تنهي هي ذاتها حياتها الخاصّة بانتهاء تجربتها الأوّلى في الزّواج، وتصبح أيّ محاولاتٍ للتقرّب والتّودّد لها مقترنةً بشعورٍ بالذّنب لديها يمنعها عن المضي في أيّ علاقةٍ، وجميع النّهايات لديها تصبح محكومةً بالفشل.

 

لا تلتفت المنظّمات المعنيّة بحقوق المرأة إلى هذا الجانب إطلاقاً في خطاباتها، وحقّ المرأة في ممارسة حياتها الجنسيّة بالشّكل الّذي تُريده هي بعيداً عن أيّ تقييمٍ لوضعها الاجتماعيّ، سواءً كانت عزباء أو مطلّقةً أو أرملةً، بالوقت الذي يتشدّد به رجالات الدّين والمجتمع فيما يخصّ ذلك، وفي بعض الحالات يتمّ تزويجها لأقرباء زوجها أو أحد أخوته في حال موته، ليضمنوا بقاء أبنائها معهم، وهذا يعتبر تقييداً وأكراهاً لها.

 

تكمل فاتن حياتها مع مئات النّساء غيرها بهذا الشّكل، متناسيةً يوماً بعد آخر ذاتها ورغباتها: "لم يعد يُهمني وجود رجلٍ في حياتي بعد الآن، لحظاتٌ قليلةٌ هي الّتي أشعر بها أنّي وحيدةٌ، وبحاجة لشريكٍ أطردها من داخلي، وألتفت لأُكمل حياتي بمفردي، لا فرق فأحياناً يكون وجود رجلٍ بحياة المرأة كعدمه؛ إنّ كانت هي فقط أداةً لخدمته".

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard