فيلم (هاكسو ريدج) الجنديّ الذي اختار السلام تحت ركام الحرب
لم تكن الحروب يوماً إلّا بوتقة من نيران وأحقاد تصهر في مضامينها الأبرياء، وتقتل وتشرّد وتُشيع الآلام في النفوس قبل الأجساد، وكم من مُجبَر اقتيد عنوةً للمشاركة بها حاملاً سلاح الضيم بوجه من سمّتهم السياسة أعداء، واضعاً روحه على كفّه ،محتجباً عن الحقّ والحقيقة ضمن أعاصير الحرب المدمّرة، لكن قلّة قليلة ممن اختار جعل السلام محطته وحمل راياته البيضاء، مناشداً تطبيقه، مندّداً بكلّ ما يدعو للعنف حتّى لو كان على عدوه، والجميل أيضاً إن كان هذا الكلام قصّة واقعيّة حدثت فعلاً، وتم تجسيده في أهمّ أفلام الحرب الطويلة، والتي تنطوي على رسالة واضحة للعالم أجمع أنّ اللاعنف أقوى من الحروب، وتطبيق السلام هو القانون الناظم الذي يعيد صياغة هذا العالم وبناءه، هذه الرسالة ينقلها لنا المخرج ميل جيبسون في فيلمه Hacksaw Ridge الذي أنتج في عام 2016.
تدور أحداث الفيلم حول جندي في الجيش الأمريكي يرفض حمل السلاح والقتل أثناء معركة أوكيناوا التي جرت بين القوّات اليابانيّة والأمريكيّة على جزيرة أوكيناوا في اليابان خلال فترة الحرب العالميّة الثانيّة، ويُدعى هذا الجندي ديزموند دوس وهُو من أسرة يهوديّة، كان والده جنديّاً أيضاّ في الجيش الأمريكي.
وكان ديزموند دوس يحمل كراهيةً للسلاح منذ سنّ الطفولة، ويرفض حمله خلال التدريبات العسكريّة ما دفع قائده لتعنيفه وتحويله إلى مُحاكمة عسكريّة ووصفه أنّه جبان، ثمّ تمَّ إشراكه في الحرب كمسعف تماشياً مع دستور البلاد، استطاع أن ينقذ أرواح الكثيرين خلال الحرب، وفي مقدّمتهم القائد العسكري الذي نعته بالجبان.
وَقَعَ ديزموند دوس في غرام ممرّضة وأقام معها علاقة حب، واتفقا على الزواج، إلّا أن استدعائه إلى الخدمة العسكريّة للمشاركة في الحرب العالميّة الثانية وقف دون زواجه منها، و بعد انتهاء الحرب تزوّج من الممرضة التي وقع في حبها، وفاز بوسام الشرف لشجاعته ودون أن يطلق رصاصة واحدة حتى، بل كان مسعفاً وممرّضاً ينقذ الجرحى، محقّقاً حلمه الطفولي أن يصبح طبيباً.
جسّد دور ديزموند دوس في الفيلم الممثل الشاب “أندرو غارفيلد" ببراعة ملفتة متعاوناً بطريقة ذكيّة مع المخرج الذي كان يبرّر منطقيّاً الأسباب التي دفعت هذا الشاب لاختيار طريق السلام بدل استخدام السلاح وذلك عبر مهنيّته الفنيّة بطريقة العرض التي قسّمت الفيلم لثلاثة أجزاء حاملةً بين طيّاتها تحليلات نفسيّة وفكريّة مبرّرة الدوافع التي دفعت جندي يخوض هذه الحرب الشرسة دون أن يشارك بإراقة الدماء ،بل كان مثالاً يُحتذى به للسلام والإنسانيّة.
برع المخرج في توالي المشاهد والمجريات ومخاطبتها بطريقة صورية معبّرة عقول وأفئدة المشاهدين، مستخدماً كلّ ما يظهر بشاعة الحرب من مشاهد دمويّة وحربيّة قاسية تخدم الصورة، وتقوّي طريقة العرض. ما أضافه ميل جيبسون بطريقة إخراجه، وسرده لحكاية ديزموند دوس ، فى المراحل الثلاثة هو ما جعل هذا الفيلم أحد أفضل الأفلام الحربيّة التي شاهدناها منذ فترة طويلة.
يبدأ الفيلم بلقطة افتتاحيّة من قلب أحداث الحرب حيث نشاهد “ديزموند دوس” جريحاً بين الجُثث حيث دُخان الانفجارات وأشلاء القتلى التي لا تُحصى ولا تعد، في أشارة لحجم المعركة الدامية والأحداث التي يتعرّض لها البطل.
في الجزء الثاني من الفيلم، تنتقل الأحداث لتبدأ رحلة بطل الفيلم وهو صبي صغير يلعب مع شقيقه “هال” حين يتعرّض لحادثة بسيطة ونوعيّة مع أنّها طفوليّة لكن تعتبر مصيريّة تؤثّر على منهج تفكيره وخياراته، وذلك عندما قام “ديزموند” بضرب شقيقه “هال” بقطعة حجر على جانب رأسه وفقده الوعي وكاد يفارق الحياة، لتبدأ مع “ديزموند” هواجس موت شقيقه الوحيد ويفكّر بشكلٍ مباشر بما حدث، حيث يقع نظره سريعاً على لوحة تلخّص قضية قابيل وهابيل في سفر التكوين في الكتاب المقدّس ليتكوّن ويترسّخ لديه فكرة الاعتراض على حمل السلاح والقتل.
وتستمر الأحداث ويعرض المخرج الحادثة التي زادت تأثيراً في ذاكرة ديزموند مع والده الجندي المتقاعد الذي حمل سلاحه ضدّ والدته مهدّداً إيّاها بالقتل ليزداد هذا المبدأ انغماساً في خاطره أكثر وأكثر، أي رفضه قتل وإيذاء أيّ شخص أو أيّ بشر تحت أيّ مسمى ومهما كانت الأسباب.
يمرّ بنا المخرج بعبقريّة صوريّة للمرحلة الثالثة وهي الحرب حيث نشاهد البطل يمشي تحت وابل القذائف والرصاص يسعف الجرحى ويتنقّل بينهم ليجد قائده وعدوّه الجندي الياباني الجريح فيسعفهما وينقذ حياتهما محافظاً طوال الفترة على التشبّث بمبدئه بعدم العنف وإحلال السلام ورفض أيّ شيء يسبّب القتل وإراقة الدماء ، إلى أن تنتهي الحرب ويرشّح لاستلام جائزة عربوناً لتطبيقه مبدأ اللاعنف سلوكاً وعملاً.
وبهذا استطاع المخرج بالتعاون مع المهارة الفرديّة الإبداعيّة للممثّل أن يمتلك حرفة صوريّة هائلة مكّنته من أن يصنع من فيلمه ملحمة دراميّة، يصنّف من أهم أفلام الحرب، والتي بعبقريّته نقلها بتفاصيلها من معارك وأصوات القذائف وصور للدخان والمتفجرات إضافة لمشاهد القتل العنيفة وشلالات الدماء والأشلاء المتناثرة التي بدت وكأنّها حقيقة، حاملاً فيلمه لمنصّات التنافس العالميّة، ممرّراً دوافعه وأفكاره وتساؤلاتنا الخفيّة ومنها الدينيّة التي تجعلنا مندهشين حائرين وراء الأسباب التي تقف وراء البطل لجعله يحقّق السلام رغم مرارة الحرب.
ترشّح الفيلم ست مرات لجوائز الأوسكار، كما نال جائزة المونتاج البصري الذي صوّر به آلة الحرب الدامية ووسائل القتل البشعة المستخدمة بطريقة مبهرة فنيّاً وفكريّاً ،إضافة لمجموعة من الجوائز الأخرى الكثيرة.
كما حاز الفيلم على جوائز الأكاديميّة الأستراليّة للفنون السينمائيّة لفئات أفضل ممثل رئيسي للنجم “أندرو غارفيلد” وأفضل فيلم وأفضل ممثل مساعد ل”هوغو ويفنغ” وأفضل تصوير سينمائي، وأفضل إخراج للمخرج المبدع “ميل جيبسون”.
إلى جانب فوزه بجائزة فيلم السنة من قبل معهد الفيلم الأمريكي، وحصل على جائزة أفضل ممثّل رئيسي ل”أندرو غارفيلد” من قبل جائزة اختيار النقاد، والمثير للاهتمام أنّ الفيلم خرج خالي الوِفاض من أيّة جائزة من جوائز الغولدن غلوب من أصل ثلاثة ترشيحات له.