لهجتك هويتك، لا تخجل من أصلك...
في الغرف المغلقة، في سوريا، تتحدّث بعض النخبة السوريّة (وربّما بعض عوام الناس)، عن اضطهاد الأقليّة للأكثريّة، وعمليّاً هذا ما قرأنا شبيهه لبعض الكتّاب اللبنانيين أثناء تناولهم للشأن السوري الذي يبدو أنّه من الصعب فصله عن الشأن اللبناني وما يجري في لبنان. وغني عن البيان أنّه يُقصد بالأقلية هنا الأقليّة بالمعنى الديني لا السياسي. وإن تكن غايتي ليست محاججة ذلك البعض في ما يرمي إليه، فضلاً عن أنّي لست الوحيد في سوريا وخارجها ممّن يعتقدون أن ما هو كائن في سوريا عبارة عن حكم سلطوي نهبوي (ليضف القارئ ما شاء من مصطلحات تناسب هذا المقام) لا حكم أقليّة بالمعنى الديني، وقد يكون ثمّة شبه إجماع على طبيعة النظام السلطويّة، وهي طبيعة أو صفة ليست حكراً على النظام السوري، إذ يتشارك فيها مع بقية الأنظمة العربيّة "الشقيقة".
سأسلّط الضوء في هذه العجالة على نوع آخر من الاضطهاد، قد يصحّ القول فيه أنّه اضطهاد اجتماعي تمارسه الأكثريّة (بالمعنى الثقافي) على الأقليّة ربما بدافع من عدّة اعتبارات، منها تفريغ شحنات مكبوتة أو قد يكون عبارة عن ردّة فعل على متغيّرات داخليّة وخارجيّة، وقد يكون جرّاء شعورها (باللا وعي) بالتفوّق لمجرّد كونها أكثريّة!.
وكي لا يبقى كلامنا مجرّداً يمكننا رصد بعض حالات الاضطهاد الاجتماعي والتربوي الممَارس بحقّ الأقليّات الدينيّة، راهناً، من خلال الدروس الدينيّة، تحديداً التربية الإسلاميّة، في المدارس الرسمية وغير الرسمية في مدينة دمشق وسواها من مدن سورية. فقد سُجّلتْ أكثر من حالة اضطرت فيها هذه الطالبة أو تلك (بالعربي الفصيح، قد تكون علوية أو اسماعيليّة أو درزيّة) للخروج من درس التربية الإسلاميّة لأنّها غير محجّبة!. وفي حديث شخصي لي (العام الفائت) مع طالبة صف ثالث إعدادي (علويّة، أصلها من الساحل السوري)، أفادتني القول إنّها لم تحضر ولا درس تربية إسلاميّة، لأنّ مدرّسة تلك المادة كانت تطردها من حصّة التربية الإسلاميّة كونها لا ترتدي الحجاب!.
ومن نافل القول إنّ دروس التربية الدينيّة في سوريا، شأنها شأن بقيّة المواد الدراسية، تقوم على طريقة التلقين، مع فارق أنّه في الدروس الدينيّة عادة ما يتأثّر خيال هذه المُدرّسة/المُدرّس بفتاوى الفضائيّات (الإسلاميّة). ولا شك هو تأثير يُفعَّل فعلَه في تهويل العقاب الإلهي إبّان تلقين الطلبة تلك الدروس، فضلاً عن أنّه خيال يُسهب في وصف الجنة وما فيها من طيبات وحور عين (وربما غلمان)، ووصف الجحيم وما فيه من عذاب. ونخشى القول إنّ معظم دروس التربية الإسلاميّة باتت في سوريا على طريقة الداعية الإسلاميّة منيرة القبيسي قُدّس سرُّها.
وحقيقة الحالات التي رصدتها في هذا المنحى، ومدى أثرها السلبي على المتلقّي (الطالب غض الغصن) وتكوينه المعرفي والنفسي، أكثر من أن تحصى، وتحتاج إلى بحث خاص.
وقد تكون من أبهى صور الاضطهاد الاجتماعي المُمارس حاليّاً ضدّ "العلويين"، هو استخدام الكثير من مكوّنات المجتمع السوري للهجة العلويّة على سبيل التهكّم والسخرية!. وكثيرة هي النكات التي تتناولها الألسن، وهي مليئة بالتهكّم والازدراء للهجة العلويّة، مثل ذلك النكتة التي تقول: “إنّ صياداً علوياً اصطاد، بالخطأ، غراباً (يُطلق على الغراب باللهجة العلوية قاق)، وأثناء سقوط الغراب على الأرض وهو ينازع لافظاً أنفاسه الأخيرة كان يصرخ: قاق قاق. فما كان من الصيّاد (العلوي) إلا أن اعتذر من الغراب، قائلاً له: والله ماني عارف إنّك من جماعتنا”!.
والقاف الخاصّة بلهجة أبناء الساحل السوري وجبل العرب وإلى حد ما أبناء مدينة سلمية، كانت مادّة للتهكّم لأحد مؤسّسي حزب البعث في سوريا، وأعني الدكتور الراحل سامي الجندي، فها هو يقول بلغة لا تخلو من القرف والاستعلاء في كتابه "البعث" عن العلويّين الذين قدموا من قراهم إلى دمشق بعد الثامن من آذار عام 1963: "وطغت القاف المقلقة على شوارعها ومقاهيها وغرف الانتظار في الوزارات".
ومن المفردات العلويّة التي يتداولها الكثير من أفراد المجتمع السوري، على سبيل التهكّم طبعاً، لفظة "قرد" التي كثيراً ما كان يستخدمها الآباء والأجداد في جبال العلويّين أثناء تعقيبهم، مستغربين ومندهشين، على موضوع ما. ومن المؤكّد أن الجميع، بمن فيهم العلوي مُستخدم لفظة "قرد" يجهل أنّ أصل اللفظة فينيقي "أوغاريتي" ومعناها: "يا قوي.. يا جبّار"، ولا تعني "السعدان" بالعربي أو بلهجة قريش كما يعتقد الكثيرون. وهذا ما عاد وأكّده لي الصحفي والسيناريست السوري حسن م يوسف.
ومن المفيد القول هنا أنّ الكثير من أسماء قرى الساحل السوري ترجع في أصولها إلى لغات قديمة تخصّ حضارات كانت متواجدة في الساحل السوري في ما سبق من زمن، فمثلاً قرية "بار مايا" الكائنة قبالة مدينة بانياس على الساحل السوري هي اسم آرامي معناه “قبالة الماء”.
ولا أدري إن كانت أداة النفي التي يستخدمها العلويون في جبالهم وهي "أ"، كأن تسمع علوياً يقول لك: "أبدّي.. أفيّي" عوضاً عن "مابدّي.. مافيّي"، تعود في أصولها إلى الفينيقية. لكن من المؤكّد إن أداة النفي تلك هي المستخدمة في اللغة اليونانيّة/الإغريقيّة كما أفاد الدكتور صادق جلال العظم، ومن المعروف مدى تأثّر العلويّين، كمذهب ديني، بالثقافة والميثيولوجيا الإغريقيّتَين.
لا بل أصبحت تلك اللهجة مادّة خصبة للتهكّم والسخرية في بعض الأعمال والمشاهد التلفزيونيّة!. ومن اللافت بأنّ شخصيّة العلوي في الدراما السوريّة غالباً ما تكون سلبيّة، فإمّا هي شخصيّة مُغفّلة وساذجة وإمّا رجل مخابرات غليظ وفظ ومتسلّط. ونظراً لحساسيّة المسألة الطائفيّة في سوريا، فإنّ مخرج هذا العمل الدرامي أو ذاك عادة ما يستعين بممثّل علوي، أو من خلفيّة علويّة، أثناء تأدية مشهد تهكّمي أو سلبي، باللهجة العلويّة!. وتكاد تكون نادرة هي الأعمال الدراميّة التي قدّمت شخصيّة العلوي بصورة إيجابيّة.
ويمكننا القول، في هذا السياق، أنّ الفيلم السينمائي الروائي "ليالي ابن آوى" للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد، الذي عُرض عام 1988 في صالات سينما "الكندي" في سوريا، كان قوامه وعماده هو اللهجة العلويّة، وإضحاك الناس منها/عليها، أكثر ممّا كان اعتماده على قصّة وحبكة روائيّة وأفكار يريد المخرج إيصالها للناس!، بدليل أنّ الإقبال الجماهيري الذي شهده الفيلم المذكور كان نتيجة اللهجة بالدرجة الأولى!. وكأنّنا بتلك اللهجة لا تحمل في أحشائها حبّاً ومشاعر وعواطف وانفعالات الخ… شأنها شأن أيّة لهجة أخرى من اللهجات السوريّة!.
وإن كان لابدّ لي، من أن أُبدي هنا إعجابي الشخصي، بإحدى لهجات بلادي سوريا، لن أتردّد بالقول، إن اللهجة التي تغريني وأطرب كثيراً لسماعها هي لهجة جبل العرب. على الأقل نظراً لما تنطوي عليه من نطق سليم في مخارج الحروف!.
إنّ شعور بعض العلويّين باحتقار الآخرين للهجتهم، دفعهم إمّا إلى التبرؤ منها، خجلاً، واستبدالها بلهجة تبدو طاغية دون سواها. وهذا حال الكثيرين منهم ممن قدموا العاصمة دمشق بعد سنة 1963، لا سيما محدثي النعمة منهم، خاصّة أولئك الذين كوّنوا علاقات اجتماعيّة ومصلحيّة ومعشريّة مع طبقات البرجوازيّة والأرستقراطيّة الدمشقيّة التي عادةً ما (كانت) تنظر إلى العلوي نظرة دونيّة، أقلّها نظرتها إليه كمرادف للفلّاح!. إلى درجة أنّي سمعت ابنة أحد محدثي النعمة الذين أعني تسأل والدها، إمّا ببراءة أو سذاجة: "بابا.. بابا.. شو يعني علوي؟ صحيح يعني فلّاح؟"!.
وقد دفع ذلك الشعور الضمني بالاحتقار للهجة العلويّة، بعلويّين آخرين للتشبّث بها، إمّا كردّة فعل، وإمّا لأنّ علاقاتهم المعشريّة في العاصمة اقتصرت على من يماثلهم طبقيّاً ومعرفيّاً إلخ… وهؤلاء عادة ما يكونون من بسطاء الناس.
وكان من المثقّفين السوريين (من خلفيّة علويّة) الذين حافظوا على لهجتهم هو الشاعر الراحل ممدوح عدوان. ولدى سؤاله قبيل رحيله بنحو الشهر، عن السبب في كونه لم يغيّر لهجته على غرار الكثير من العلويّين الذين حطّوا رحالهم في دمشق، في ستينات القرن الماضي، وهم من مستواه المعرفي وطبقته الثقافيّة وفكره العلماني. أجاب : "السبب ببساطة، عندما أتيت دمشق في أوائل ستينات القرن الماضي، اكتشفت أنّي لم أجد المدينة". ربما إجابة ممدوح عدوان هذه تذكّرنا برأي أدونيس المتمحوّر في عدم وجود المدينة في العالم العربي (باستثناء القاهرة إلى حدّ ما)، وإنّما ما هو موجود عبارة عن تراكمات ريفيّة.
الآن وأنا أكتب هذه السطور، لا أستطيع أن أتغافل، كون الكثير من رموز السلطة البعثيّة، كانوا من خلفيّات علويّة، فإنّ الأنظار انصبّت على العلويّين ومن ضمنها لهجتهم.
تماماً كما لا أستطيع أن أتجاهل دور الدراما السوريّة في انتشار اللهجة الدمشقيّة، بما يكاد يوحي للمتلقّي أن اللهجة الدمشقيّة (والحلبيّة بالدرجة الثانية كون الدراما السورية قدّمتها بشكل لائق) باتت اللهجة شبه الرسميّة لسوريا أو اللهجة المثال والنموذج للرقي والتمدّن. علماً أنّ تلك اللهجة كانت منبوذة دراميّاً لولا جهود دريد لحام ونهاد قلعي في ستينات القرن الماضي!.
وعلى الرغم من كلّ ما ذكرته، إنّي لأستغرب فعلاً سبب شعور البعض من العلويّين بالخجل من لهجتهم وأكثر من نصف سكّان لبنان يتحدّث بها!، حتّى إنّ معظم أغاني السيّدة فيروز كانت من خلالها وبها!. ناهيك عن أنّها لهجة تنطوي على الكثير من المفردات الآراميّة والفينيقيّة، وما في تلك الفينيقيّة من خصوبة وجماليّة!.
حقاً لماذا يخجل بعض العلويّين من لهجتهم في حين كان فيه "أعظم شبّان اليهود رقيّاً عصريّاً يجاهدون في إحياء اللغة العبريّة التي لا يُعرف تاريخها لتوغّلها في القدم. ولا يقال عنهم أنّهم «رجعيّون» و«متأخرون» و«قهقريّون»؟" بحسب تعبير شكيب أرسلان!. “