info@suwar-magazine.org

أحداث سجن الصناعة دروس خارج إطار الصورة

أحداث سجن الصناعة دروس خارج إطار الصورة
Whatsapp
Facebook Share

 

على عكس أولئك الذين يرون في أحداث سجن الصناعة بالحسكة أحداثاً عادية جرى تضخيمها إعلامياً، وعلى عكس أولئك الذين يقولون بأنّها مسرحية، أؤمن بأنّ كلّ ما حصل كان كبيراً، وكان له وقع أكبر على نفوسنا نحن الذين نفترش أماكننا بجانب مدافئ المازوت، ونُلملِم أنفسنا بعد موجة ثلج نخرت عظامنا وأصابتنا بفرح عظيم.

 

للحدث وقع عظيم بمستويات عدة، أتذكر في هذا المقام أنّه ومنذ سنوات وكانت داعش تطلّ برأسها، ولمّا يمضِ على إعلانها كثير وقتٍ، كيف أنّ قوات حماية الشعب، وكلّما أعلنت عن اشتباكات معها في مكان ما، كان يطل علينا أحدهم ويقول أنّ داعش مسرحية أو أنّهم على علم بداعش وينسقون معها وما إلى ذلك، إلى أن تمدّد داعش في العراق، واقترب من الإقليم، وأعلنت البيشمركة أنّها تخوض حرباً إلى جانب الجيش العراقي ضدّ التنظيم الإرهابي، حينها فقط لم يعد أحد يخرج علينا بتحليلات مماثلة، وهنا أخصّص الكرد دون غيرهم، وذلك أنّ المعارضة ستقول عنها مسرحية بدوافع قد تكون مختلفة.

 

لقد أثبت الناس أنّهم يقفون إلى جانب مقاتليهم حين تَلُمّ نائبةٌ، وأنّهم يضعون كلّ شيء جانباً ليكونوا إلى جانبهم، سواء أكانوا منخرطين مباشرة أو يحمون حواريهم وشوارعهم بوعي ومسؤولية عظيمة، وسواء بوقوفهم المعنوي الكبير إلى جانبهم، هذا الجانب الأهم الذي أهملته الإدارة الذاتية طويلاً.

 

كانت الأيام الماضية عصيبة على المنطقة، وبخاصة مدينة الحسكة التي دفعت وتدفع ضريبة باهظة كلّ مرة، وبخاصة في النزاعات بين أطراف السيطرة أو ضدّ داعش كما حصل مرة، فثمة لأهالي الحسكة تجربة مرّة مع النزوح، فينزحون في كلّ مرة، لكنّهم لا يُخلون حواريهم، بل يحرسونها دوماً.

 

مشاهد تروي ما حدث

يُمكن الحديث عن بعض المشاهد والمُعايشات التي تختزل هذه الأحداث.

بداية سأتحدّث عن بعض معارفي وأصدقائي. لقد تحدّثت إلى بعضهم أطمئن عليهم، كان السؤال ذليلاً وصاغراً أمام المشاعر المختلطة من خيبة أمل وخوف مما قد تؤول إليه الأوضاع، فكان ثمّة حديثاً عن فرار العشرات من أخطر إرهابيي العالم، واشتباكات وطائرات وكلّ ما من شأنه أن يسرق النوم من عينيك ويُودع فيهما قلقاً لا ينتهي، فضلاً عن آلاف النازحين من بيوتهم، حيث البرد أنياب تنغرس في أجساد من خرجوا.

المشهد الآخر هو مجموعة الصور التي وثّقها الأصدقاء الصحفيون، وهنا أخصّ ما وثّقه الصديق رودي طحلو لنساء ورجال وشباب يحرسون حواريهم وشوارعهم بمزيج من شجاعة وإباء وخوف لما قد تؤول إليه الأمور.

 

ومن ثم مشاهد المُقاتلين. إن أكثر ما آلمني فيها هو صور الشهداء وبخاصة ذاك الشاب الذي نشروا صورة له وهو يحمل طفلين في حضنه، هم أطفاله الذين لن يروه بعد الآن.

 

إن شهادة هذا المقاتل وشهادة الآخرين تُعيد إلينا ذلك الإحساس المرّ بطعم الحياة الذي يغصّ في حلوقنا. أما مشهد المُقاتل الذي يلوّح بإشارة النصر، وقد غاب وسط الرماد فتلك صورة تعبّر عن ذلك الإباء الذي منع ويمنع خفافيش الظلام من التمدّد.

 

سأختم مشاهدي بمشهدي الأمّين، إحداهن الأم التي ترقص في سكرة حبّ وشوق ومشاعر مختلطة يكاد يُغشى عليها بِفكاك ابنها من براثن الموت، والأم الأخرى يكاد يغشى عليها من البكاء غماً وكمداً بفقدانها ابنها.

 

لقد استشهد كوكبة من خيرة الشباب، اختزلها أحدهم حين كتب (أن افرحوا للنصر فقد استشهد أخي) لقد غيّبه الموت، واستشهد عوضاً عن العالم، هذا المشهد الذي يُظهر النقيض في قصة الاحتفالات بالانتصار.

 

ما قبل وما بعد

 

بعد كلّ هذا سأقول ما يمكن أن يفكّر فيه أيّ أحد بعد أن تعود الأمور إلى نِصابها ونُطلق للشهداء رصاصات شهادتهم وندمع لأجلهم ونُلئم جراح من جرحوا وندثّر من نزحوا بالعودة.

 

قبل هذا الحدث كان الجو العام فيه سخط كبير، حيث أنّ إغلاق معبر سيمالكا المتنفّس الوحيد لاقتصاد المنطقة، وتراجع الخدمات كتوزيع مازوت التدفئة والغاز، ورداءة الخبز، وزيادة معدلات الفساد واهتراء الطرقات وغيرها، وفي الجانب السياسي والمجال العام تراجع مؤشّرات الحرية للإعلام والمجال العام ككل، كلّ ذلك دفع بالناس إلى سخط كبير تراجعت معه أسهم الإدارة الذاتية، لكنّ هذه الأحداث أثبتت أنّ الناس غير حاقدين على الإدارة، وهم ليسوا مرتهنين للخارج كما يروّج البعض، بل إنّهم وضعوا كل شيء جانباً ووقفوا بقلوبهم وأجسادهم مع مقاتليهم ومجتمعهم وأثبتوا أنّ مصيرهم واحد.

 

الآن ستعود الأمور إلى نِصابها، فهل تعتبِر الإدارة الذاتية؟ هل ستُعيد ترتيب بعض الأمور؟ هل ستفكر بمعيشة الناس، وتحسن جودة الخبز وتوفّر المازوت والغاز للأهالي؟ هل ستحاول أن تكون قريبة من الناس لأنّها منهم وبهم، هل ستحاول الوقوف على الفاسدين الكبار؟ هل ستفكّر ملياً في نفسها أنّه بإمكانها أن تكون أفضل، أن تزيد من هامش الحريات، وأن تتقبّل بصدر رحب الصحفيين ممن لا ينقلون الأمور عبر فلاترهم الخاصة، وأن تتقبّل السياسيين الذين لا يوالونهم بل حتى، ويعارضونهم.

 

هل ستحاول الإدارة الذاتية الوقوف والنظر إلى الأمور بعين أهالي حسكة النقية كدمع العنب.

بعد نشوة النصر مطلوب من الإدارة الذاتية أن تدفع ثمن تلك الدماء والدموع النقية بأن تخطو خطوات باتجاه الناس لأنّهم الرصيد الأبقى.

وأخيراً.

 

سلاما على الحسكة، وأهلها الذين يشاطروننا قلوبهم في كلّ مرة ويشخصون بأبصارهم إلينا لنولي قلوبنا شطرهم.

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard