info@suwar-magazine.org

الاستثمار في الخوف... جذور خطاب الكراهية

الاستثمار في الخوف... جذور خطاب الكراهية
Whatsapp
Facebook Share

 

إنّ تنامي مؤيدي وقف خطاب الكراهية بين السوريين، يُعتبر مؤشراً جيداً على أنّ تفكيراً جدياً وواقعياً بمآلاتنا أخذ يشق طريقاً إلى النور، وقد يعود الفضل في هذا لكثرة المطارق المتهاوية على رؤوس السوريين، في ظلّ إفلاسٍ شاملٍ وإحساسٍ عام بين كل الأطياف السورية بالعجز وضياع الحيلة، هذا بالضبط ما دفع الكثيرين لبحثٍ جدّيّ في طبيعة هذا الخطاب وفي نتائجه المتعاقبة، فعموم السوريين يتشاركون الخوف كقاسمٍ مشتركٍ يهدد وجودهم تهديداً مباشراً، فالإشارات النقدية إلى تجذّر الخوف في طبيعة التكوين الثقافي والاجتماعي للمكونات السورية، هي إشاراتٌ واضحة على سلطة الاستبداد، السلطة التي تدرك أنّ الخوف يفرّق لا يجمع، فهو يشكّل جماعات منغلقة على ذاتها، لا مجتمع مفتوح ومتّصل، ولهذا فإنّ الخوف يُعتبر مقدمة متماسكة لكل كراهيّة مضمرة أم معلنة، و لكنّ الكراهية دون خطابٍ يشرعنها، لن تحظى على الأقل بفرصة انتشارها، مما جعل خطابي كراهيةٍ يتناوبان على واقعنا؛ مضمرٌ ينتمي لما قبل 2011م، وعلنيّ ينتمي لما بعد هذا التاريخ الفارق.

 

إنّ العمل الفلسفي والنفسي لعالم الأنثربولوجيا الثقافية "إرنست بيكر"" إنكار الموت"، ساعد جهود علماء النفس الاجتماعي في ثمانينيات القرن الفائت على بلورة نظرية "إدارة الذعر"، إذ إنّ الفكرة الأساس لعمل "بيكر" ترتكز على أنّ الخوف من الموت هو ما يحفّز معظم الأفعال البشرية، فالبشر يدركون حتمية موتهم، لينتج عن هذا الصراع الدائم بين الإدراك وبين الرغبة الطبيعية في العيش تنافراً معرفياً، يسبب الرعب والقلق العميق، فوفقاً لـ "بيكر": "اخترع البشر الثقافة لكي تشكل حائلاً بينهم وبين هذا الرعب، من خلال تبنّي رؤى ثقافية للعالم تضفي المعنى والقيم على الحياة، وتمكّن المرء من أن يضبط بشكل فعال ذلك القلق اللاواعي الذي يغلي دائماً تحت المظاهر السطحية".

 

توضّح نظرية "إدارة الذعر"[i] كيف تُسبب الأحداث التي تستحضر أفكاراً متعلقة بالموت، زيادة تشبث الأفراد برؤاهم الثقافية، أي في انحيازهم إلى أولئك الذين يشاركونهم نفس الهوية القومية أو الإثنية أو السياسية، بينما يعارضون بشدة من لا يشاركهم فيها، وهذا يتكشّف في السرديات المتعلقة بنظم الإزاحة الثقافيّة التي تحيّد فكرة الاعتراف أو الشراكة مع المختلف، بل تنظر إليه كتهديد دائم لوجودها، مما يدفع النظم الثقافيّة لتبني مقولات نهائية وخلاصيّة تتشكل في خطاب إقصائي، يفسح المجال أمام العواطف، ويغلقه أمام العقل والمنطق، لهذا فإنّ خطاب الكراهيّة الذي كان مضمراً ما قبل 2011، يرتكز بمجمله على قوةّ الخوف وهيمنته السالبة لإمكانات التشارك والاعتراف المتبادل بين المختلفين، وتغذي في الوقت نفسه انغلاق الأفراد على هويّاتهم الضيّقة، باعتبارها الضامن الأقوى لاستمرار وجودهم، فالخوف من الموت هو طريقة اللاوعي المثلى لتجنب الموت.

 

اقرأ أيضاً:

 

الخوف كأداة للسيطرة على المجتمع

 

 

إنّ تنامي مدّ الخوف بعد 2011، شكّل مبرراً لا واعياً لاستخدام العنف بنوعيه المادي والرمزي، "فأشكال التذكير بالموت تحفّز الأفراد على الانخراط أكثر فأكثر في الجماعات التي ينتمون إليها، وعلى التصرف بشكل أكثر عدائية تجاه أولئك الذين لديهم هويّات ثقافية أو اجتماعيّة أو عرقية مختلفة"، ما خلق لدى السوريين مناخاً عاماً شجع على التحيز والتعصب ثم العداء اتجاه الآخر المختلف، فإما أن تكون معي أو ضدي، هذا بدوره أدى إلى إنشاء مسافات من الشّك والرّيبة بين أطياف المجتمع السوريّ عامةً، فالسلطة التي ساهمت واستثمرت في ارتفاع منسوب العنف، ضخمت الشعور بالوطنية أو بالانتماء إلى الهويّات الضيّقة، ما ساهم في تنامي التحيّز ضد الهويات الأخرى، وكلّما تنامى شعور السلطة بالعجز أمام انقسام الدولة، تضاعفت عدائيتها اتجاه من هم خارج إطارها الثقافي ومرجعياتها المقدّسة.

 

تتلخّص العناوين العريضة لخطاب الكراهيّة السوري في خوف السوريين من بعضهم، فالريبة والشك وعدم الثقة هي نواتجٌ ثانويةٌ له، ومسألة الانتماء في مجتمعات الهويات الضيّقة، تتأسس على خشية الأفراد العميقة من الفناء والاضمحلال والتلاشي. وبهذا فإن تأييد جماعات سورية للسلطة لم ينبع من القبول والموافقة أو الحب، بل من درجة إحساسهم بالتهديد والخطر بالمعنى الحرفي للكلمة، سواءٌ كان تهديد السلطة نفسها أو أي تهديد آخر، فكلمّا تعاظم التهديد ازداد تحيّز الأفراد واصطفافهم، ونموذج الموظّف السوري الذي ينتمي للطبقة الوسطى يمكن أن يقدم مثالاً عملياً لفهم نظرية إدارة الذعر، حيث التزام الموظفين/ات السوريين/ات بالعمل الحكومي في ظل الاختناق المعيشي وانهيار العملة السورية، ليس مرآةَ إحساسهم المرتفع بالمسؤولية والوطنيّة، وليس اصطفافاً سياسياً بالمعنى الدقيق، بل لأنّ هذه الوظيفة هي مصدر دخل تحكمه سرديات شتّى، كسرديّة: (ساقية جارية ولا نهر مقطوع)، فالنهر المقطوع الذي تتفشى فيه رائحة العطش، هو المعادل الرمزي للموت والفناء. وهناك دائماً من يدير الخوف عبر استثمار القدرة الهائلة لخطاب كراهية في تفاصل الأفراد وتحاجزاتهم.

 

يعرّف "جاد الكريم الجباعي" خطاب المواطنة بأنه: "خطاب تواصليٌّ، والخطاب التواصلي هو خطاب اعتراف متبادل لا بالتكافؤ والمساواة في الكرامة الإنسانية والجدارة والاستحقاق فقط، ولا بالوقائع المتعددة والتجارب الإنسانية المتعددة فقط، بل بتعدد تأويلاتها وشرعية سائر التأويلات أيضاً، وهذا يعني الاعتراف باختلاف المواقع وزوايا النظر واختلاف المصالح والغايات أيضاً، فإنّ الاختلاف هو ما يستدعي الاتفاق ويؤسسه ويؤسس شروط نفيه الإيجابي، ونعني تطوير الاتفاق وتعميقه وتضمينه مسائل ومساءلات جديدة باستمرار"[ii]. إنّ خطاب المواطنة الذي عرّفه "الجباعي"، هو ما يُقِيم الحدّ على الالتباس في تعريف خطاب الكراهية، وهو الفارق ما بين خطاب تواصلي وخطاب تفاصلي، ما بين الاختلاف والخلاف، ما بين القبول والإقصاء.

 

يشكّل خطاب الكراهيّة حجر الزاوية في دورة العنف، وإن كانت تنتهي به، لكنها تبدأ بالخوف ومؤكداته، ثم تتحوّر إلى كراهية تنمو فيها كل التصورات التحيّزية عن المختلف، ثم إلى خطابٍ ينظم هذه التصورات في سردية كبرى تتأسس على التفاصل، ثم يبدأ العنف مدعوماً بقوى خطاب الكراهيّة وتماسكها. إنّ قوى هذا الخطاب يدعمها نفي العقل، ونفي قيمه التواصلية، ما يجعل غرائز الفرد النكوصيّة تحكم سلوك الأفراد وتوجهها، فخطاب الكراهية في أبسط صوره هو تنازل العقل عن المنطق والحكمة، وبالطبع إنّ الأداة الأمثل لتحقيق ذلك هي الخوف.

 

"استمرار الحرب يزيد من فوضوية وانقسام المجتمع، وينتج عن العدائية فيه نحو الآخر جيلاً يفضّل الحرب على السلام، مما يؤدي إلى ازدهار التحيز والتعصب والتوتر، ومزيد من الصراعات وردود فعل من العنف والريبة، تغذيها وينتج عنها خطابات الكراهية من كافة الأطراف". إنّ حروب البيت الواحد لا تترك منتصرين خلفها، إنها فقط تترك خساراتٍ يُرغم الجميع على قبولها كنصرٍ إلهي مؤزّر أو أي تسميّة أخرى، فحرب الجميع ضد الجميع، وأيّاً كانت الاصطفافات التي تخلقها، فإنها تجعل الجميع متساوين في حمل أوزار الحرب، وتحمّل ما ينتج عنها من آثار نفسيّة وماديّة، ففي الحروب لا يمكن أن تنتصر سوى الخسائر.

 

لا يمكن لدورة العنف أن تتوقف إلا بإطلاق سراح العقل، فالعنف كما يشخصه عالم النفس السلوكي "سكينر" "يبدأ في الرؤوس قبل استخدام الفؤوس"، لذا العقل وحده يستطيع قراءة المصلحة الحقيقية في التواصل، في قدرة الاختلاف على الاتفاق، وتوسيع مساحات استثمار موارد السلام والمشاركة الفاعلة، وفي فهم مردود خطاب المواطنة على كرامة الفرد ووجوده، هذا الفهم الذي يقودنا إلى تفكيك خطاب الكراهية، عبر وعي الطرق التي يروج لها السياسيون للخوف، وفهم البروباغندا التي يستخدمونها للاستتباع والهيمنة والسيطرة على الأفراد، فالوعي المدني يمكن أن ينتج عن وعي خطاب الكراهيّة، عبر خبرة مردوده على الواقع، وعلى شكل تعيّن الفرد فيه، هذه الخبرة المؤلمة للعنف، يمكن أن تكون دافعاً قوياً لبناء جسور التواصل بين الأطياف السورية، ولفتح باب الحوار بينها، بعد عجز الانتماءات الضيّقة عن حماية الفرد من الخوف وصُنّاعه.

 

 

[i] - كيف يجعل الخوف من الموت الشعوب أكثر يمينية؟، ترجمة حمزة الفيل، 27/8/2020، مجلة المحطة.

[ii] - تأملات في المسألة الوطنية، جاد الكريم الجباعي، الطبعة الأولى:كانون الأول 2021، مؤسسة ميسلون للثقافة والترجمة والنشر.

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard