الخوف كأداة للسيطرة على المجتمع
"الخوف هو غريزة أصليّة في بنية وتكوين الإنسان كالجوع والجنس"
سأبدأ كلامي على عكس المعتاد بالنتيجة التي يجب أن يخلص اليها البحث، طبعاً هذه مجرّد طريقة في طرح الموضوع لا افتراض نتيجة ثمّ البحث في الواقع عمّا يثبتها.فإذا قفزنا بالزّمن لعشرات آلاف السنين، للحظة بروز بدايات الإنسان نجد أنّ الإنسان البدائي في مراحله الأولى تشكّلت لديه أو تبدّت غرائزه بصورة جليّة وواضحة، وأول هذه الغرائز هو الجوع والخوف ثمّ الجنس.
لم تكن هذه الغرائز ردّة فعل على الواقع الموضوعي المحيط بهذا الإنسان، أي لم ينشأ الخوف كردّ فعل على المخاطر الكبيرة على وجوده بالذات فقط، وبالتالي تفسير هذا الخوف كنتيجة طبيعيّة لتلك الأسباب، بل كغريزة أصليّة من ضمن بنية الإنسان النفسيّة، والدليل على ذلك أن الإنسان عندما تحسّنت شروط معيشته وزالت عنه معظم الأخطار التي كان تحت رحمتها لآلاف السنين، بقي يحسّ بالخطر ويخاف دائماً على شيء ما قد اكتسبه.
"الخوف هو الرفيق الدائم للإنسان منذ البدايات الأولى، وحتّى الآن لم يتغيّر من حيث الجوهر بل تغيّرت أشكال ظهوره فقط"
في مرحلة لاحقة من مراحل تطوّر البشريّة، وتحديداً مع تطور التجمّعات البدائيّة بعد ظهور الملكيّة الخاصّة وسيادتها كنمط إنتاج وانقسام المجتمع إلى طبقات متناقضة متناحرة ما حتّم ظهور الدولة التي أتت كحاجة لضبط الصراع بين الطبقات وممارسة قمع الطبقات المكوّنة للمجتمع، والتي باتت تتعرّض للاستغلال والقهر من قبل طبقة مسيطرة، وبالتالي جاءت الدولة كسلاح في وجه من يمارس الاستغلال ضدهم.
لم تكن الدولة أكثر من سلاح عارِ للقمع، وقامت فلسفة الضبط والقمع على إدراك بدائي لكنّه مستمر كأساس حتّى الآن، هو سياسة العصا والجزرة. كان اللعب منذ تلك الفترة المبكّرة على التفعيل الدائم لغريزة الخوف لدى المحكومين من خلال التهديد الدائم بالقمع والتعذيب وحتّى القتل لدى حدوث أي خروج على طاعة الطبقة المهيمنة ورمزها السياسي الدولة.
يضاف إليه الخوف على مصادر الرزق المهددة من قبل المستبدّ مع قلّتها بالأصل لتشكّل البدايات الأولى لما يمكن أن نسميه بثقافة الخوف، والتي ما زالت مستمرّة حتّى يومنا هذا.
استمر الخوف رفيقاً للإنسان في كلّ مراحل تطوّره عبر مسيرته الطويلة حتّى عندما عاش في العصور الإقطاعيّة، ورغم حدّ الأمان الملحوظ الذي حقّقه بالمقارنة بسلفه الإنسان الوحشي، بقي يعيش قلقاً على وجوده نفسه، فلم يكن الإنسان (خلال العصر الإقطاعي الذي استمر عشرات القرون) يعيش إلّا في حالة خوف دائمة على حياته وحياة أسرته وعلى مصدر عيشه الأرض التي لا يملكها، وهو مهدّد بكلّ لحظة أن يُطرد منها ويفقد كلّ شيء، ولايملك إزاء هذا الوضع سوى المزيد من القلق والخوف.
في عصر الصناعة وسيادة نمط الإنتاج الرأسمالي دخل الإنسان إلى مرحلة جديدة أكثر أماناً ورقيّاً من حياته السابقة بكثير، لكنّه بقي لديه ما يخاف من أجله، بقي أسيراً لصاحب العمل الذي يتحكّم _كالإقطاعي قديماً_ بمصدر عيشه الوحيد والمهدّد بالتلاشي عند أيّة محاولة للتمرّد أو للمطالبة بأبسط حقوقه.
والدولة الحديثة التي ظهرت مع ثورات البرجوازيّة السياسيّة _الاجتماعيّة_، لم تختلف في الجوهر عن الدولة القديمة، وإن تنوّعت وتحدّثت الأدوات والأساليب وازدادت مهامها لكنّها لم تخرج عن الإطار التاريخي القديم المتجدّد، وهو أنّها أداة بيد من يهيمنون على الثروة في المجتمع ضدّ بقيّة أفراد هذا المجتمع من خلال اتّباع وسائل متعدّدة من أبرزها القمع المباشر عند اللزوم، الحاجة والخوف بقيا كما هما، خوف من صاحب العمل، وخوف من رجل الشرطة الذي يحمي مصالح الرأسمالي المهيمن.
مع تطوّر الأنظمة الرأسماليّة وانفتاحها على المجتمع في العصر الحديث من خلال تبنّي برامج الرعاية الاجتماعيّة، وبالتحديد بعد الحرب العالميّة الأولى، وحتّى ثمانينيّات القرن الماضي، وذلك لتحسّن شروط الحياة السياسيّة والاقتصاديّة التي ساهمت في رفاهيّة الذين لا يملكون سوى قوّة عملهم فقط وهم الأكثريّة. وكانت لها دوراً كبيراً في تحسين شروط حياة طبقات المجتمع المختلفة ونيلها قدر كبير من أشكال الأمن الاقتصادي والاجتماعي والمستوى المعيشي المرتفع، وهامش واسع النطاق من الحريّات السياسيّة.
لكن الخوف هنا برز من جديد على شكل خوف وكبير جداً من إمكانيّة فقد هذه المكتسبات والاضطرار للعودة إلى حياة القلّة، الخوف على الرفاهية وحياة الاستهلاك التي باتت من ضروريّات الحياة بحيث بات على الشعب أن يقدّم تنازلات للسلطة الحاكمة والطبقات المهيمنة بغضّ النظر عن تضخّم ثرواتهم بشكل فاحش، وسياسات الدولة في معظم المجالات في مقابل استمرار تلك الامتيازات.
هذا التوصيف ينطبق على المجتمعات المتطوّرة التي أنجزت ثورتها الصناعيّة والعلميّة، وبالتالي الحضاريّة فماذا عن المجتمعات التي بقيت تراوح مكانها منذ بداية عصر الإقطاعيّة الذي ما زال مستمرّاً، وإن كان بشكل محدث حتّى الآن. ومنها مجتمعاتنا العربيّة، والتي لم تستطع لأسباب موضوعيّة إنجاز ثورتها الديمقراطيّة ودخول عصر الصناعة.
عاشت هذه المجتمعات وأفرادها نفس خوف الذي عاشه الإنسان الأوروبي إبان مرحلة الإقطاع لكنّها استمرت، حتّى في مرحلة ما بعد الاستقلال عن المستعمر الأوروبي ونشوء ما يسمّى الأنظمة الوطنيّة التي سرعان ما ابتلعها مدّ الانقلابات العسكريّة، والدكتاتوريّات التي حكمت ولا زالت تحكم هذه المنطقة.
تضخّمت غريزة الخوف بشكل هائل لدى الإنسان في مجتمعاتنا في ظل الدولة التي تحكمها العسكر أو الدكتاتوريّات، وتعاظم هذا الخوف على مصدر الرزق المهدّد في أيّة لحظة، و على مصير الإنسان نفسه من خلال سياسات قمع وحشيّة ومن خلال التفنّن في أساليب التعذيب في أقبية الأجهزة الأمنيّة، تحوّل الخوف إلى شكل مبالغ فيه وذاتي في كثير من الأحيان، إلى نوع من الرعب الحقيقي طال بشدّته، وتغوّله بنية الإنسان العربي الهشّة أصلاً، لينحدر بها إلى مستويات رهيبة من التدنّي والتشوّه والانحطاط سبّبت أشكالاً مؤلمة من الأمراض النفسيّة المجتمعيّة الأسوأ والأكثر تدميراً للذات الفرديّة، وللذوات المجتمعيّة التي تفتّت إلى ذوات فرديّة يمارس القمع عليها كلٌّ على حدة.
رغم أنّ الخطاب القمعي عام، لكنّه يُطبّق ذاتيّاً على الذات المفردة التي بات عليها أن تواجه بمفردها تغوّل السلطة القمعيّة وتعيش رعباً وخوفاً مقصودين على أسباب الحياة لا بل على الحياة نفسها.
"الخوف هو أكثر الآليّات تدميراً لحياة الإنسان الطبيعيّة، وفي ظلّه لا يمكن أن تنتج سوى ذوات ضعيفة مهشّمة غير قادرة على العمل والإبداع"
الخوف هو رفيق الإنسان الأزلي لكنّه كان رفيقه الأسوأ والأكثر إجراماً وتدميراً لحاضره ومستقبله كما كان لماضيه، ولا يمكن للإنسان في مجتمعاتنا الخروج من هذا الفخّ الجهنمي من خلال حلول فرديّة (رغم أنّه يمكن للبعض بجهودهم الذاتيّة أن يخرجوا من حالة الخوف ولكنّها تبقى حالات فرديّة ضعيفة التأثير على المجتمع ككلّ ويبقى تأثيرها محدوداً)، بل عبر حلول جذرية شاملة على مستوى المجتمع، تتبنّاها قوّة سياسيّة منظّمة تقود حراكاً جماهيريّاً لتحقيق ثورة حقيقيّة، والتي باتت مطلوبة أكثر من أيّ وقت مضى للخروج بالناس من الهوة السحيقة التي يحيون في جحيمها، باتجاه مستقبلٍ أفضل وأكثر آدميّة وأكثر مدعاة للاحترام.