info@suwar-magazine.org

الفصل بين الدولة والدين في سوريا بين الضرورة والإمكان

الفصل بين الدولة والدين في سوريا بين الضرورة والإمكان
Whatsapp
Facebook Share

 

مقدمة:

 

عند طرح تطبيق العلمانية في المجتمع السوري، بمفهومها الضيق المتمثّل في الفصل بين الدولة والدين، فقد يبدو للكثيرين أنّنا نتحدث عن أمر قصي البعد عن الواقع، وأنّ العلاقة بين العلمانية والمجتمع السوري تكاد تكون مستحيلة.

 

وبالطبع لا يمكن إنكار وجود قضايا خلافية هامة بين العلمانية وبين الثقافة المحافظة السائدة اليوم في المجتمع السوري، ويقع الطرفان فيها على مسافات ليست بالقصيرة من بعضهما البعض، ولكن رغم ذلك يجب عدم المبالغة في تصوّر أبعاد هذه الخلافات والمسافات، بل النظر إليها نظرة واقعيّة لتبيّن طبيعتها وحجمها الحقيقيين.

 

فما هي بالضبط مواضع الخلاف بين العلمانيّة والمجتمع السوري الراهن بطبيعته المحافظة المتديّنة اليوم؟

هذا ما سيتمّ تناوله بدقّة في هذه المادّة، وسيتمّ فيه التركيز على الواقع الاجتماعي السوري بشكل رئيس، وعلى ما يوجد فيه من حيثيّات واقعيّة قائمة، تختلف بحد ذاتها بدرجات أو بأخرى في علاقتها مع العلمانية ومدى تعارضها أو توافقها معها، فهذا الواقع الاجتماعي هو الأرضيّة الأساسيّة التي تُبنى عليها الدولة ويقوم عليها النظام السياسي.

وبناء على ذلك سيتمّ أيضاً النظر في مدى واقعيّة طرح تطبيق العلمانية في المجتمع السوري الراهن.

 

1- مرجعيّة التشريع:

 

إنّ أوّل وأهم التعارضات بين العلمانيّة والثقافة السورية المجتمعيّة المتديّنة المحافِظة سنجده في مسألة مرجعيّة التشريع، فالبرغم من أنّ الشريعة الإسلامية لا تطبّق بحرفيّتها في المجتمع السوري في كلّ الجوانب الحياتيّة، إلّا أنّها تطبّق بشكل فعلي في جوانب هامّة كالزواج والطلاق والميراث، كما وتشترط التوافق المقصدي بين القانون والدين الإسلامي في الجوانب الأخرى، وهذا الوضع المرجعي للتشريع يتعارض مع العلمانيّة التي يتمّ فيها الفصل التام بين الدولة والدين، ولا تعود فيها الأديان تشكّل إطاراً مرجعيّاً للقوانين.

 

علاقة الدين بالقانون في سوريا، لا تنحصر حصريّاً في المسلمين، فشيء مشابه نجده أيضاً لدى المسيحيّين، الذي ينظّمون بدورهم العديد من قضاياهم الهامّة بما يتناسب مع الدين المسيحي.

 

مع ذلك فعدم التطبيق المباشر للشريعة الإسلامية في المجتمع السوري، يخفّف كثيراً من درجة الخلاف بين الثقافة السائدة والعلمانيّة، ويمكن القول أنّه بشكل ما يضع المجتمع في حالة وسط بين العلمانيّة والدين، وإن كان هذا الوضع نفسه ليس حالة مطلقة الثبات وهو قابل للتطوّر والتقهقر، إلّا أنّه بما هو وضع قائم، فهو يولّد قدراً هامّاً من الاستعداد لقبول التشريع غير الديني في هذا المجتمع، وهذا ما يقصّر المسافة بين المجتمع والعلمانية عموماً، رغم أنّ هذا المجتمع ما يزال يتمسّك بالرابطة المرجعية للدولة بالدين، وهذا ما له العديد من الانعكاسات والمفاعيل شديدة الأهميّة كما سنبيّن لاحقاً.

 

2- تطبيق الحدود الإسلاميّة:

 

أحد أهمّ وأكبر التعارضات بين العلمانية والتشريع الإسلامي، نجدها  في مسألة الحدود الإسلاميّة، مثل رجم الزاني، وقطع يد السارق، وجلد شارب الخمر، وهلمّ جرّى، فالعلمانية لديها موقفها المختلف تماماً في أسلوب تطبيق العقوبات، وليس سراً على أحد أنّ العلمانية لن تقطع يد سارق ولن ترجم زان أو تجلد شارب خمر، وهي عندما تعاقب على أمر، تعاقب بالسجن أو دفع الغرامات وما شابه، ويمكن بالطبع أن تطبّق فيها عقوبات أقسى بكثير على الجرائم الأكبر.

 

لكن مشكلة التعارض هذه هي فعليّاً غير موجودة في المجتمع السوري، فمنذ استقلال الدولة السورية وحتّى اليوم، الحدود الشرعية الإسلامية لا تطبّق بشكلها الحرفي، والعقوبات التي يتمّ تطبيقها هي عقوبات تتّفق مع مقاصد الشريعة الإسلامية، وليس مع حرفية أحكامها، والمجتمع السوري المعاصر يقبل هذا المسألة، ولا يرى مشكلة فيها، وفقط بعض المتطرفين الإسلامويّين، هم من يثيرون، وبالأصح يفتعلون، مثل هذه المشكلة، وهذا ما يحدث إمّا بفعل التعصّب أحياناً، أو لأجل غايات مغرضة، وهذا هو الأغلب.

 

والمقصود بتوافق الأحكام المعمول بها في القانون المدني مع مقاصد الشريعة، وهذه مسألة شديدة الأهمية، ومن المهمّ بالقدر نفسه أن تكون واضحة، هو على سبيل المثال أنّ القانون المدني عندما يقوم بمعاقبة السارق بالسجن لمدّة محدّدة، فهو بذلك يتفق مع مقصد الشريعة الإسلامية في عقاب السارق لردع جريمة السرقة، فالشريعة الإسلامية التي تشرع قطع يد السارق، إنّما تفعل ذلك من أجل ردع الجريمة والحفاظ على النظام العام وتحقيق العدالة وتهذيب الجاني([1])، وليس بقصد الانتقام من السارق وتشويهه، فـ "فالعقاب في الشريعة الإسلامية إنّما هو لإصلاح الفرد، ولحماية المجتمع وصيانة نظامه من الانهدام"([2]).

 

واقع الحال هذا في المجتمع السوري هو خطوة كبيرة الأهمية وجدّ متقدمة في اتجاه القرب من العلمانية، وهو قرب لا يفرض القطيعة مع الدين، ويمكن اعتباره حالة توفيقيّة إيجابية بين العلمانية والدين، والشديد الأهمية في الأمر، هو هنا قبول هذا المجتمع بنظام تشريعي ليس دينيّاً بالمعنى الحرفي ولكنّه يتوافق مع المقاصد الدينية، ورغم أنّ هذا النظام التشريعي لا يتوافق كليّاً مع العلمانية، إلّا أنّه لا يجعل العلاقة معها علاقة مواجهة بين شريعة وشريعة أخرى، لا حلّ فيها إلا بأن تلغي إحداهما الأخرى وتحلّ محلها، وهنا بدلاً من هذا التناقض هناك الالتقاء على نوع من التوافق.

 

وذاك يعني أنّه لو فرضنا أن العلمانيّة طُبّقت في المجتمع السوري الراهن، فهذا المجتمع لن يشعر بأنّ شريعته قد استبدلت بشريعة أخرى مختلفة، وسيقتصر الأمر على قضايا محدّدة يختلف فيها الموقف العلماني عمّا هو سائد اليوم، وهذا ما ستتناوله الفقرات التالية.

 

3- حكم غير المسلم:

 

في دستور عام 1950، الذي يعبّر عن الفترة الديمقراطيّة من تاريخ سوريا المعاصرة، تضمّنت المادة الثالثة من هذا الدستور الفقرة التالية: «دين رئيس الجمهورية الإسلام»([3])، وهذا ما أثار اعتراضات من قبل النوّاب المسيحيّين،عند مناقشة هذا الدستور حينها ([4])، حيث اعترض النائب المسيحي الياس دمر على هذه المادة مثلاً، واعتبرها مخلّة بمبدأ المساواة بين المواطنين، ووفقا له، المواطن المسيحي الذي يتساوى مع أخيه المواطن المسلم في التضحيات والالتزامات التي تقدّم للوطن، يجب أن يتساوى معه أيضاً في الحقوق التي تقرّ لكلّ منهما في الوطن، كما اعتبرها أيضاً مخلّة بمبدأ الكفاءة الذي تطبقه الأمم والدول الحديثة، فالمواطن يجب أن يُعامل في وطنه وفقاً لكفاءته بصرف النظر عن عقيدته، ومعاملته على أساس عقيدته يحرم وطنه من الاستفادة من كفاءته، ولا يعطيه حقّه بأن يكون كشخص مناسب في المكان المناسب، وإضافة إلى ذلك فهي تجعل غير المسلم يشعر بالغبن والانتقاص، وتؤدّي إلى شرخ في النسيج الاجتماعي الوطني وتؤذي الوحدة الوطنية، وقد ردّ حينها النائب الإسلامي الشيخ مصطفى السباعي، بأنّه "لو كان النص على دين الدولة يؤدّي إلى التفرقة بين أبناء الوطن الواحد لما جاز لكثير من دول أوروبا وأمريكا أن تنصّ عليها في دساتيرها"، وأنّ القصد من هذه الفقرة  ليس تمييز المسلمين عن غيرهم، ولا الافتئات على حقوق المواطنين المسيحيين، وإنّما هي تستجيب لكون الإسلام عبادة وشريعة، ولا يمكن بتر الجانب التشريعي منه([5])، كما أنّها تنسجم مع القواعد الديمقراطية المتّبعة في العالم بأنّ رأي الأكثرية هو المتّبع والمعمول به، ولا تخالفها لأنّ الإسلام هو دين تسعة أعشار المواطنين في سوريا([6]).

 

وهذه الفقرات بقيت على حالها أيضا في دستوري النظام الحاكم لعامي 1973 و2012.

 

في الواقع، فقرة كهذه لا يبقى دورها رمزيّاً وحسب وهي فعليّاً حتّى في نظام حكم انتخابي حقيقي تمنع غير المسلم من أن يصبح رئيساً حتّى وإن امتلك أفضل الكفاءات والمؤهلات، وهذا له عائد رمزي ومعنوي سيء على المواطنين غير المسلمين، الذين سيشعرون في هذه الحالة أنّهم مواطنون منقوصو المواطنة ومميزون سلبيّاً في دولتهم.

 

وبالطبع في نظام علماني لا يمكن أن يتضمّن الدستور فقرات مماثلة، ولا أن تطبّق إجراءات مماثلة، وهنا سيبدو وكأنّ حالة تناقض جديّة قد نشأت بين العلمانيّة والثقافة الدينيّة السائدة في المجتمع السوري.

 

لكن ما يمكن قوله واقعيّاً أن التناقض الفعلي هو فقط بين العلمانيّة وبعض أصحاب الرأي المتشدّد من المسلمين، والأدق الإسلاميّين منهم الذين يصرّون على إسلاميّة رئيس الدولة، فالمجتمع السوري رغم كونه مجتمعاً متديّناً على أرض الواقع لم يمانع في مرحلة ما بعد الاستقلال في أن يكون فارس الخوري، وهو مسيحي، أول رئيس وزراء لسوريا المستقلة التي كانت يومها دولة برلمانية، يعدّ رئيس الوزراء فيها رأس هرم السلطة التنفيذيّة، كما أنّ الشعب السوري قبل بوجود نائب شيوعي هو خالد بكداش في نتيجة انتخابات 1954 الحرّة، ورغم كلّ علّات النظام الحاكم منذ انقلاب البعث وحتى اليوم، فالشعب السوري حتّى اليوم ما يزال لا يمانع أن يكون المسيحي أو الشيوعي أو غيرهما وزيراً أو محافظاً أو عضو مجلس شعب وهلمّ جرّى، وثقافة كهذه لن يكون من الصعب عليها أن تخطو خطوة إضافية في هذا المنحى فتقبل برئيس غير مسلم لا سيما إن كان منتخباً بشكل ديمقراطي من قبل أكثريّة الشعب السوري الذي يدين أكثره بالإسلام، ويحكم بموجب دستور وطني ديمقراطي موافـَق عليه أيضاً من قبل هذه الأكثرية؛ والمشكلة الفعليّة هنا ليست بين العلمانية والثقافة الشعبية المحافظة، بل هي بشكل رئيس بين العلمانيّة والإسلام السياسي أو بين العلمانية ورجال الدين المسيّسين أو المتصلبين.

 

4- حرية الاعتقاد:

 

حرية الاعتقاد نصّت عليها أيضاً المادة الثالثة نفسها من دستور 1950، التي تقول: «حرية الاعتقاد مصونة. والدولة تحترم جميع الأديان السماوية. وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها على أن لا يخلّ ذلك بالنظام العام»([7])، وهذا لم يكن مجرّد حبر على ورق، فهذه الحقيقية كانت قائمة في المجتمع السوري على أرض الواقع منذ ذلك الحين، وما تزال قائمة حتى اليوم، فالمجتمع السوري هو بتركيبته مجتمع تعددي تتعدد فيه الأديان والمذاهب وتتعايش، ولم يشهد منذ الاستقلال وحتى اليوم أيّة مشاكل دينية أو طائفية الجذور فعليّاً، والمجتمع السوري لا يعاقب ولا يلاحق الناس على اعتقاداتهم المختلفة كما يحدث في بعض المجتمعات الأخرى، التي يُكفَّر فيها الناس ويحاكمون بتهمة الكفر، فحتّى الإيديولوجيات المعروف عنها أنّها ماديّة تماماً وليس لدى أصحابها أيّ إيمان ديني، لا يحاربها المجتمع السوري ولا يضطهد أو يلاحق أصحابها.

 

واليوم في المجتمع السوري يُجاهر الكثيرون بأنّهم علمانيّون أو أنّهم لا يتبعون ديناً محدّداً، كما ويتمّ في العديد من المناطق إنشاء مدارس روحية يتمّ فيها التدرّب على اليوغا والطرائق الروحية التأملية الأخرى مثلاً، وهذه فعليّاً ثقافات وافدة، ومع ذلك فلا أحد يتعرّض بسوء لهذه المدارس.

 

ذاك لا يعني بالطبع رسم صورة رومانسية لوضع التعدّدية وقبول الاختلاف والتنوّع في المجتمع السوري، وإظهاره بمظهر المجتمع الليبرالي الحديث فكما سلف الذكر،هذا المجتمع ما يزال مجتمعاً متديّناً محافظاً، وقد تعرّض هذا المجتمع بدوره لموجة التطرّف التي انتشرت في المنطقة العربية في العقود الأخيرة، والتي ترتبط بشكل أساسي بعوامل اجتماعية وسياسية ومعيشية أكثر من ارتباطها بالدين نفسه، بحيث يمكن القول أنّها النتيجة الحتميّة لسواد الاستبداد والفساد في هذه المنطقة، وما يرتبط مع ذلك من فشل لكلّ المشاريع التقدمية الوطنية والقومية واليسارية، ويضاف إلى ذلك الخذلانات المتعددة والعنيفة على الساحة العربية، والفشل في تحرير الأراضي العربية المحتلة المختلفة، وتغوّل وتمادي الكيان الإسرائيلي وسواه من دول الجوار في الجور والتطاول على العرب وحقوقهم، ويضاف إلى ذلك بالطبع الأخطاء الداخلية الجسيمة للقوى التقدمية نفسها، وعلاوة على ذلك هناك أيضاً التدخلات الخارجية المغرضة ذات الدور الخطير الكبير، والتي كثيراً ما كانت وما تزال تجد أنّ مصلحتها هي الاستثمار في التطرّف واستغلال الدين.

 

خلاصة الكلام في هذا الأمر هي أنّ حالة من النكوص باتجاه التشدّد والتطرّف تعرّض لها المجتمع السوري كسواه من مجتمعات المنطقة بفعل العوامل المشار إليها أعلاه، وهذا ما مكّن من إيجاد بيئات مناسبة لنمو الحركات الإسلامويّة المتطرّفة في عقد الربيع العربي وقبله، ولكن رغم ذلك فهذه الحالة لم تتحوّل إلى حالة طاغية مهيمنة على المجتمع السوري ومتغلغلة في ثقافته، وما يزال المجتمع السوري حتّى اليوم مجتمعاً على قدر كبير من التسامح وقبول الاختلاف والتعدّد.

 

وذاك يعني أن حالة استقطاب ومجابهة بين ثقافة المجتمع السوري الراهن والعلمانيّة لن تنشأ في ميدان حريّة المعتقد.

 

5- توريث المرأة:

 

يدخل توريث المرأة في نطاق القضايا الجندرية التي تشكّل واحداً من مواضع الخلاف الهامّة بين العلمانية والشريعة الإسلامية، ففي العلمانية تعتبر المرأة مساوية للرجل في كلّ شيء، والميراث هو أحد جوانب هذه المساواة، أمّا في الشريعة الإسلامية فالمبدأ الحاكم لمسألة الميراث معروف وهو أنّ "للذكر مثل حظ الإنثيين"، وهذا يعني أن هناك تعارض بين القانون العلماني الذي يقرّ للمرأة بنصيب مساو لنصيب الرجل من الميراث من حيث المبدأ، وبين الشريعة الإسلامية التي تعطي الرجل نصيباً مضاعفاً مقارنة بنصيب المرأة.

 

لكن لو ذهبنا إلى مقاصد الأمور وركّزنا على المبادئ كمبادئ، فسنجد أنّ الشرع الإسلامي قدّم حلّه المتكامل ذاتياً لمسألة حقوق المرأة الاقتصادية، فالمرأة في الشرع الإسلامي غير ملزمة بإنفاق مالها الخاص على احتياجات أسرتها، فهذه مسؤولية الزوج، ومال المرأة الخاص هو ملك شخصي حصري لها، وحتّى نفقتها الخاصّة كزوجة يتحمّل الزوج نفسه مسؤوليتها.

 

أمّا في المبدأ العلماني الذي يساوي بين المرأة والرجل في كل شيء، فالمساواة بينهما تتمّ في الحقوق والواجبات على حدّ سواء، وفي الوقت الذي تقرّ فيه العلمانية بحقٍ متساوٍ للمرأة مع الرجل في مسألة الميراث، فهي أيضاً تضع عليها بالمقابل أعباء متساوية معه في مسؤوليات الأسرة.

 

هنا يمكن أن يحتجّ العلمانيون بأنّ الشرع الإسلامي لا ينفذ، وأن المرأة في أحيان كثيرة لا تورّث، أو لا تعطى كامل حقها في الميراث، وسيردّ على هذا الاحتجاج بأنّ المشكلة هنا لا تعود مشكلة الشرع نفسه، بل تصبح مشكلة تقاليد ذكورية متحيّزة ضدّ المرأة، وهي تخالف كلّاً من العلمانية والإسلام بنفس الوقت.

 

لكن بنفس الوقت أيضاً يمكن توجيه انتقاد جدّي لما يحدث في المجتمعات الغربية العلمانية، التي تتميّز بكثرة حالات الطلاق فيها أو هجر الأب لأسرته، وعندها تقع على عاتق الزوجة أعباء تربية وإعالة الأبناء، ولكن حتّى هنا يمكن الدفاع عن العلمانية بأنّها ليست المذنبة فيما يحدث، وردّ ما يحدث إلى حالة تفشي ثقافة الاستهلاك والفرديّة الأنانية التي تُنشر في الغرب المعاصر، وتلعب فيها الرأسمالية دوراً رئيساً.

مع ذلك فهل من حلّ لهذا التعارض بين العلمانية والإسلام في مسألة توريث المرأة؟

الجواب بالإيجاب يمكن أن يجد أكثر من مبرر!

 

فأولاً: لو عدنا إلى المقاصد فسنجد أنّ المتفق عليه بين العلمانية والإسلام هو ضمان حقوق المرأة الاقتصادية وتحقيق التأمين والأمان الاقتصاديين لها، ولكن لدى كلّ منها أسلوبه المختلف في ذلك، أي أنّ الغاية واحدة ولكن الوسائل مختلفة وبذلك يمكن القول فيما لو طُبّقت العلمانية، أنّ العلمانية بما تعطيه للمرأة من حقوق، فهي تتفق مع الشريعة الإسلامية في المقاصد.

 

ثانياً: حتّى وإن طُبّقت العلمانية، فهي لن تفرض على المؤمنين الخضوع للقانون العلماني في قضايا يمكن لهم أن يتفقوا فيها أو عليها، فمن حيث المبدأ لن تمنع العلمانية مثلاً أحداً إن أراد أن يتنازل عن حقه في الميراث كليّاً أو جزئيّاً لبقية الورثة، وهي لن تمنع مجموعة من الورثة والوارثات إذا اتفقوا جميعاً على تقسيم الميراث بالطريقة الإسلامية، لكن القانون العلماني في نظام علماني سيتدخّل فقط في حال لم يكن هناك مثل هذا الاتفاق الجامع بين الورثة الذكور والإناث، ورفض بعض الورثة الذكور إعطاء الوارثات الإناث نصيبهنّ وفق القانون العلماني، إن كانت هذه الوارثات أو بعضهنّ يردن حقهنّ وفقاً لهذا القانون.

 

وثالثاً: حتّى بالنسبة لأولئك الذي يتشبّثون من الذكور بنصيبهم المضاعف من الميراث وفقاً للشرع الإسلامي من منطلق نفعي، أي لأنّ هذا النصيب أكبر منه في حالة التوزيع وفقاً للقانون العلماني، فهؤلاء سيجدون بدورهم تعويضاً نفعيّاً في القانون العلماني، فالذي يعطي أخته حصّة مساوية لحصته وفقاً للعلمانية بدلاً من نصف هذه الحصة وفقاً للشريعة الإسلامية، سيكون لديه من حيث المبدأ تعويض بالمقابل، عندما يتزوّج زوجة هي الأخرى تحصل على نصيب مماثل من الميراث، وتساهم بمالها في التزامات الأسرة معه.

 

6- تعدّد الزوجات:

 

تعدّد الزوجات هو أيضاً أحد جوانب الخلاف الرئيسة، التي تنتمي إلى الميدان الجندري، بين العلمانية والشريعة الإسلامية، وبما أنّ تعدّد الزوجات هو ظاهرة مسموحة في المجتمع السوري ذي الأكثرية الإسلامية، فهذه المسألة ستغدو أيضاً أحد المسائل الرئيسة التي تتعارض فيها العلمانية والثقافة الاجتماعية السائدة، فالعلمانية التي تساوي بين الرجل والمرأة، تسمح فقط بالزواج الأحادي، أي بزواج رجل واحد وامرأة واحدة فقط، ولا تسمح بأن تتعدّد الزوجات أو الأزواج.

 

لكن ماذا عن الظاهرة نفسها على أرض الواقع السوري؟

إنّ استقراء هذا الواقع يشير إلى أنّ نسبة هذه الزيجات بشكل عام محدودة، وأنّها كانت آخذة في التقلّص أكثر فأكثر قبل سنوات النزاع، التي عادت فيها إلى التنامي لأسباب متعلّقة بالأزمة.

 

وهذه الظاهرة رغم أنّها ظاهرة شرعية في المجتمع، ولا أحد يعترض على شرعيتها من حيث المبدأ، إلّا أنّها مع ذلك في المنظور الشعبي ليست ظاهرة مرغوبة عموماً، وفي اللغة تسمى الزوجة الأخرى بـ"الضرّة"، وهي "تسمى كذلك لما بينهما من مضارة"([8])، أي بين الزوجة والزوجة الأخرى، والمضارة هي مصدر "ضار" ([9]).

 

وبناء على ذلك يمكن القول أنّ المجتمع السوري بشكل عام لا يقف على مسافة بعيدة من العلمانية في قضية تعدّد الزوجات، وبالأخص أنّ تعقيدات الحياة الراهنة تجعل حتّى الزواج من امرأة واحدة مسؤولية جسيمة وعبئاً كبيراً، وهو أمر بات على درجة بالغة الصعوبة بالنسبة لمعظم الشباب السوري، فما بالك بالزواج من أكثر من امرأة؟!

 

وبالمعنى العملي، فالفئة التي يمكن أن تجد نفسها متضرّرة فيما لو طبّقت العلمانية ولم يعد تعدّد الزوجات مسموحاً به، هي فقط فئة جدّ ضيقة من القادرين على الزواج من أكثر من امرأة، هذا إذا هم رغبوا بذلك أيضاً!

 

7- الزواج المدني:

 

في المجتمع السوري المحافظ، ما يزال الزواج مرتبطاً بالدين ارتباطاً وثيقاً، وهو فعليّاً خاضع للتقاليد السائدة في كلّ مذهب ديني، وينظّمه قانون الأحوال الشخصية، الذي يعطي صلاحية البتّ في شؤونه للمحاكم الروحية المذهبية الخاصّة.

 

أمّا الزواج المدني، فيلغي دور المؤسّسات الدينية والمحاكم الروحية على الصعيد الرسمي، ويضع شؤون الزواج القانونية في يدّ المؤسسات القانونية وحدها، التي تعمل بموجب القانون العلماني المنفصل عن كلّ الأديان.

وبهذا الشكل يبدو الزواج المدني وكأنّه من أكثر الأمور التي تتعارض مع التقاليد الدينية المحافظة، الإسلامية منها أو المسيحية أو سواها.

 

لكن عندما نتعامل بواقعيّة وموضوعيّة مع الأمور كما هي على حقائقها، فلن نجد حتّى هنا تعارضاً حادّاً على أرض الواقع، ذاك أن القوانين العلمانيّة، رغم اعترافها القانوني بالزواج المدني وحده، فهي مع ذلك لا تلغي الزواج الديني، ومن يريد يستطيع أن يستكمل الشرط والشطر الدينيين في زواجه كما يشاء، فهو يستطيع أن يعقد عقد زواج إسلامي إن كان مسلماً أو يقوم بإكليل كنسي إن كان مسيحيّاً، أو يكتفي بالزواج المدني إن لم يكن متديّناً!

 

وحتى هذه اللحظة يمكن القول أنّه لا وجود للمشكلة تقريباً، لكن المشكلة تظهر بدرجة رئيسة في الزواج المختلط أي زواج من ينتمون إلى أديان أو طوائف مختلفة، فهناك طوائف مغلقة زواجيّاً ولا تسمح لأبنائها بالزواج من أديان أخرى أو حتّى من طوائف أخرى من نفس الدين كحال بعض الطوائف الباطنيّة الإسلامية، وهناك حالات يشترط فيها تغيير الدين لإتمام الزواج كحال زواج المسيحي من مسلمة، أو حال شخص لا تسمح له طائفته بالزواج من دين آخر أو طائفة أخرى، أو لا تقبل طائفة الطرف الآخر به شريكاً زوجيّاً وهو على ما هو عليه من دين رسميّاً أو فعليّاً.

 

فهل يحلّ الزواج المدني هذه المشكلة؟

 

يمكن الجواب بالإيجاب عن هذا السؤال على الصعيدين الإجرائي والقانوني، فالزواج المدني يعطي إمكانية الزواج لأيّ شخصين راشدين عازبين من دينين أو طائفتين مختلفتين كما لو كانا شخصين من نفس الطائفة؛ لكنّ الزواج المدني نفسه هو إجراء قانوني وما يمكنه أن يحلّه على صعيد مشكلة زواج المختلفين لا يتعدّى النطاق القانوني، وهو لا يحلّ مشلكة المتزوج من مختلف ديني مع مؤسسته الدينية، والأهم مع طائفته وثقافتها، فالقانون العلماني لا يمكنه أن يرغم المؤسسات الدينية على تغيير قواعدها وقوانينها الخاصّة ولا يحقّ له التدخل فيها، وهو أيضاً لا يستطيع تغيير التقاليد السائدة لدى الجماعات الدينية، وهذا يعني أنّ القانون العلماني في أحسن الأحوال يمكن أن يكون حلّاً جزئيّاً، أمّا الحلّ الكافي فلن يتمّ إلّا مع تطوّر الثقافة العامة ووصولها إلى درجة من التقدم والانفتاح يجعلها تقبل الزواج المختلط، على الأقل كشأن خاص من شؤون أصحابه.

 

8- جرائم الشرف:

 

ما يسمى بـ "جرائم الشرف"، وهي إنسانيّاً جرائم لا شرف فيها، هي الجانب الأبشع في مشكلة المستفحلة في المجتمعات المحافظة.

 

هذا النوع من الجرائم، ما يزال يحظى بمقبوليّة وتبرير في المجتمع السوري وسواه من المجتمعات العربية، وما تزال القوانين النافذة في هذه المجتمعات تتعامل معه بتساهل، مع أنّه بحدّ ذاته مخالف للشرع الإسلامي.

 

لكنّ الأصوات الرافضة والمُدينة لهذه الجرائم تكثر وتعلو أكثر فأكثر في المجتمعات العربية، وهي أحياناً تدفع إلى بعض التغيير في القوانين الرسمية، وهو تغيير ما يزال بعيداً عن الحدّ المطلوب.

 

في العلمانية الموقف من هذه الجرائم صارم لا لبس، إنّها جرائم كبيرة ويجب أن تُعامل وتُعاقب كجرائم كبيرة.

وهنا إذا احتكمنا للعقل والضمير الإنسانيين، أو تعاملنا بواقعيّة عملانيّة، وسواء طُبّقت العلمانية أم لم تطبق، فمثل هذه الجرائم، لا يجب أن يكون الموقف منها وسطيّاً ولا قابلاً للتفاوض أو التنازل، بل يجب بشكل حازم وصريح إدانتها وتجريمها كجرائم.

 

أما مراعاة الثقافة المحافظة في هذه المشلكة في مجتمع محافظ، فيمكن أن يكون لها شكل واحد لا غير وهو وضع قانون رسمي صريح لمحاسبة الخروق الجنسيّة تكون الدولة وحدها المسؤولة حصريّاً عن تطبيقه، وعن المنع والردع والعقاب بشكل صارم لكلّ من يعطي لنفسه حق العقاب سواها كائناً من كان وفي أيّ ظرف كان.

 

خاتمة:

 

التعارضات المعروضة أعلاه لا تستنفد كلّ التعارضات الموجودة بين العلمانية والثقافة السائدة في المجتمع السوري، وكما نرى تتفاوت درجة التعارض مع العلمانية بين مسألة وأخرى من هذه المسائل، ففي تطبيق الحدود يمكن القول أن التعارض غير موجود، وفي مسألة حرية الاعتقاد هو يكاد يكون غير موجود، وفي تحكيم غير المسلم هو ليس بذلك الحجم الكبير أو الشكل الحاد وهو قابل للتجاوز؛ لكن في القضايا الأخرى يصبح الوضع مختلفاً، فبقاء الدين في وضع المرجعية التشريعية للدولة، وفقاً للفهم التقليدي ذي المنظور السلفي السائد للدين، يجعل من الدين سنداً وغطاء للعديد من المشاكل الاجتماعية الخطيرة، ويعطيها الذريعة للظهور بمظهر الوضع الاجتماعي الصحيح الذي يجب أن يبقى ويستمر لأنّه صحيح، ويمنع التعامل معها كمشاكل يجب التخلص منها؛ أمّا التوريث.. فلا تعطى المرأة حقها فيه، ليس فقط بشكل يتعارض مع العلمانية، بل هو يتعارض مع الشرع الإسلامي نفسه، فيما تتعارض أيضاً مسألة تعدّد الزوجات مع العلمانية وتجد لها سنداً في الفقه الإسلامي التقليدي، وفي ما يتعلق بالزواج المدني فهو الآخر ما يزال فيه تعارض هام بين العلمانية والثقافة السائدة، وهو تعارض يجد أيضاً سنده الأساسي في الدين والعرف القائم عليه فالدين مايزال هو الناظم الوحيد للزواج وشؤون الأسرة والعلاقة بين الجنسين وهذا ينطبق على كلّ من الإسلام والمسيحية في سوريا، أمّا ما يُسمّى بجرائم الشرف التي تدينها وتجرمها العلمانية إلى الحدّ الأقصى فلا سند فعلي لها في الدين لا إسلاميّاً ولا مسيحيّاً، وسندها هو في الأعراف التي ما تزال تهيمن عليها الذهنيّة الذكورية التي بمستواها العام كثيرا ما تطبع الدين نفسه بطابعها وتجعله أيضاً سنداً لها.

 

منطقيّاً لا بدّ من القول أنّ تعارضات مثل دينية مرجعية التشريع القائمة على الفقه التقليدي السلفي، والتوريث وتعدّد الزوجات وطائفية الزواج والجريمة المتذرّعة بالشرف، هي عبارة عن مشاكل اجتماعية حقيقية ويجب التعامل معها ليس كتعارضات تجعل طرح العلمانية غير واقعي، بمعنى أنّه غير مناسب للواقع أو متناسب معه، بل كمشاكل حقيقية بحدّ ذاتها وهي نفسها تستوجب تطبيق العلمانية لحلها، وهي ليست بالمشاكل الثانوية أو العابرة، بل هي عناصر مشكلاتية أساسية من المشاكل التي يعاني منها المجتمع السوري، وتعاني منها المجتمعات العربية الأخرى عموماً.

 

لكن السؤال الذي يجب طرحه هنا، هو ليس عن عدالة أو منطقية الحلّ العلماني، فهذا الحلّ منطقي وعادل تماماً على المستوى النظري، إلّا أنّ أمره على المستوى التطبيقي ليس إيجابيّاً بنفس القدر، وهو هنا يتحوّل إلى سؤال قدرة واقعية.

 

فهل لدى العلمانيين السوريين اليوم القدرة على تطبيق العلمانية في سوريا؟

في الواقع لا!

 

فالقوى الإسلامية وسواها من القوى المحافظة هي الأقوى بكثير في الشارع السوري، الذي تأثّر كثيراً بدوره بموجة التشدّد الديني التي انتشرت في المنطقة العربية في العقود الأخيرة لأسباب مختلفة، والقوى التي يتمّ الحديث عنها لا يدخل في عداها بالطبع القوى التكفيرية العنفيّة.

 

وبما أنّ العلمانية نفسها، تنطلق بشكل منطقي من العالم الواقعي وتركّز عليه وتستهدفه، وتتعامل معه بالعقل، فلن يكون عندها "من العلماني" طرح العلمانية كمشروع حل عملي بمفهومها الضيق كفصل بين الدولة والدين، في الوقت الراهن الذي ليس لدى هذا المشروع فيه الفرص الواقعية الكافية للنجاح، وفرص الفشل أكبر بكثير من فرص النجاح.

 

هذا لا يعني قطعاً التوقف عن طرح العلمانية من منطلق تنويري، وفي إطار رؤية إستراتيجية طويلة الأجل، ولكن في الواقع المباشر يجب البحث عن حل وسطي آخر، فهذا هو الأجدى للحاضر، أما المستقبل فيجب تركه للمستقبل نفسه بشرط السعي بأفضل ما يمكن لاختيار أفضل الممكن في الحاضر في عملية الحل.

 

عدا عن ذلك، فالفصل بن الدين والدولة، الذي هو فعليّاً عملية إجرائية تتمّ على الصعيد الرسمي القانوني، وهي فعلياً تتمّ على المستوى القاعدي قانونيّاً وتغدو قاعدة في سن القوانين المختلفة، هو مع ذلك لن يكون ذا تأثير جوهري في المجتمع وهو فقط يمكن أن يكون كذلك عندما تكون الدولة دولة قانون ومؤسسات بشكل حقيقي، وليس دولة فساد واستبداد، تهمل أو تمسخ فيها القوانين أو يتم الاتفاف عليها وإفراغها من مضمونها بسبل شتى.

 

إن دولة علمانية حقيقية لا يمكنها قطعاً أن تنشأ تحت نير الاستبداد والفساد، فهنا فعليّاً لا يكون ثمّة دولة، بل يكون هناك تسلّط وهيمنة وعسف وظلم، وتتحوّل الدولة إلى مافيا سلطوية.

 

عدا عن ذلك، ففصل الدولة عن الدين تعترضه عقبة كبيرة أخرى في بعض الميادين، فحين تبقى الثقافة العامة شديدة التأثر بمواريثها، فصل الدين والدولة لا يمكن أن يكون مثمراً كما يتوقّع منه، فعلى سبيل المثال في ظل الظروف التي تهيمن فيها الذهنية الذكورية وتؤدّي إلى عدم توريث المرأة في الكثير جداً من الأحيان، فالنساء لا يستطعن اللجوء إلى القضاء ليحكم لهنّ وفق الشرع الإسلامي المعمول به رسميّاً، وهنّ لا تفعلن ذلك خشية أن يعادين ويخسرن أهلهنّ بسببه، وأن يتعرضن إلى الإعابة من قبل المجتمع الذي ما يزال يقبل إلى حد كبير بعدم توريث المرأة، وهذا الحال لن يتغير إن بقيت الذهنية الذكورية على حالها، حتى وإن طبقت قوانين علمانية، فالمسألة هنا ليس مسألة قانون، ولكنها مسألة ثقافة شائعة.

 

وإضافة إلى ما تقدم، فالسعي إلى الفصل بين الدولة والدين بوجود ثقافة متديّنة محافظة وقوى فاعلة ناجمة عن هذه الثقافة في المجتمع، يمكن أن يؤدي إلى حالة مجابهة بين القوى العلمانية والقوى التي تريد إصلاح وتطوير الدولة والمجتمع دون الفصل بين الدولة والدين، وهكذا تتحول القوى المتفقة على ضرورة الإصلاح والتطوير إلى قوى متنازعة على كيفية الإصلاح والتطوير وتصبح قوى متخاصمة في الوقت الذي يجب أن تكون فيه متعاونة، وهذه خسارة حقيقية على الصعيد الوطني. 

 

وخلاصة ما تقدّم، ورغم العدالة والمنطقية النظرية لأطروحة العلمانية، فثمّة على أرض الواقع اليوم في المجتمع السوري قضايا أكثر إلحاحاً من الفصل بين الدولة والدين، الذي يمكن اعتباره اليوم مطلباً قليل الواقعية والجدوى، وربما من الأجدى أكثر واقعيّاً اليوم العمل على تحديث وعصرنة الممارسة الدينية لجميع الأديان والمذاهب الموجودة في المجتمع السوري، والتركيز والتعاون على الديمقراطية والعقلانية وحقوق الإنسان ودولة القانون والاقتصاد والمعرفة والعلم وتحديث المجتمع، وعدم التشبّث بالطروحات الخلافية غير العملية، وهذا لا ينحصر في مسألة الفصل بين الدولة والدين وحدها بالطبع.

 

وهكذا يمكن القول أنّه رغم أنّ العلمانية واقعيّاً ليست بعيدة كثيراً عن المجتمع السوري المعاصر، إلّا أنّه رغم ذلك فاللحظة الراهنة ما تزال غير مناسبة بعد للفصل بين الدولة والدين، أمّا المشاكل المذكورة أعلاه، والتي يفترض بالعلمانية أن تكون حلها، فليست العلمانية هي السبيل الحصري والوحيد لحلها، حيث يمكن حلّ بعضها وتقليص حجم سواه عبر الإصلاح الاجتماعي دون الفصل التام بين الدولة والدين، ويمكن أن يكون هذا الإصلاح أكبر وأكثر فاعلية إن هو اقترن بعصرنة الفقه الإسلامي، وفي المحصلة هذا كلّه يتفق مع الغايات الإنسانية للعلمانية، والعلماني العقلاني هو الذي يركّز بشكل رئيس على الغايات والنتائج، ولا يتمركز أو يتأطر في القوالب والوصفات.

 

 

[1] - وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، المكتبة الشاملة، https://cutt.us/Q8Ob4

[2] -"العقوبة في التشريع الإسلامي والوضعي.. دراسة مقارنة"، مجلة النبأ، العدد 41، كانون الثاني 2000، https://cutt.us/X3Woy

[3] - دستور سوريا 1950، Constitutionnet.org، https://rb.gy/eb07k1

[4] - مركز إدراك للدراسات والاستشارات، الدساتير المتعاقبة في سورية.. تحليل ومقارنة، 01‏/08‏/2017، https://cutt.us/fW5S3

[5] - عمران الزعبي، "الدين والدولة بين التيارات الليبرالية والمحافظة السورية: قراءة في ثلاثة دساتير سورية 1920-1950-1973، مركز عمران للدراسات الإستراتيجية"، https://cutt.us/2yUiO

[6] - عمر العيسو، "التجربة السياسية للحركة الإسلامية في سورية.. د. مصطفى حسني السباعي أنموذجا"، مركز أمية للبحوث والدراسات الإستراتيجية، 03‏/03‏/2018، https://cutt.us/ZYMgH

[7] - دستور سوريا 1950، مرجع سابق.

[8] - تعريف ومعنى "ضرة"، معجم المعاني الجامع، https://cutt.us/u4S0U

[9] - تعريف ومعنى "مضارة"، معجم المعاني الجامع، https://cutt.us/tUosv

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard