info@suwar-magazine.org

 هل هناك تعصّب علماني؟ .. وجهة نظر علمانيّة

 هل هناك تعصّب علماني؟ .. وجهة نظر علمانيّة
Whatsapp
Facebook Share

 

في الجدل بين العلمانيّين والإسلاميّين، كثيراً ما يرذُ الإسلاميّون عند اتهامهم من قبل العلمانيين بالتطرّف والتعصّب وتكفير الاختلاف، بأنّ العلمانية تفعل الشيء نفسه، ما يجعل العلاقة بين العلمانية والدين تبدو وكأنّها صراع عقائدي على السلطة بين متصارعين يلعبون بنفس قواعد اللعبة، فما هو مدى صدقيّة اتهام العلمانية بالتعصّب، وهل هناك حقيقةُ تعصّب علماني؟

 

إشكاليّة السؤال!

 

إنّ الإجابة بالنفي عن السؤال حول وجود تعصّب علماني، ستبدو وكأنّها تجانب الواقع، لأنّه ليس من النادر أن يتواجد علمانيّون متطرّفون يعادون الدين ككلّ، ويتعاملون معه بكراهية وازدراء، وفي المحصّلة لا يكونون مختلفين عن أيّ متعصبين دينيّين!

 

إذاً.. هل يمكن الإجابة عن السؤال المطروح بالإيجاب، طالما أنّ الجواب بالنفي قد تمّ نفيه، ونفي النفي لا بدّ وأن يعني الإيجاب؟

هو كذلك عندما لا تكون ثمّة إشكاليّة في السؤال المطروح نفسه، وسؤالنا فيه درجة كبيرة من الإشكاليّة.. وتتمثّل في عدم تحديد مصطلح "علماني" فيه مفهوماً ومدلولاً.

 

ولذلك قبل الجواب عن السؤال المطروح لا بدّ من تحديد المقصود بمصطلح "علماني"، وهذا لا يمكن فعله بدون تحديد المقصود بمصطلح "علمانيّة"، لأنّ مصطلح "علماني" هو صفة نسب إلى "علمانية"، ولا يتحدّد المنسوب إذا لم يكن المنسوب إليه محدّداً! وهكذا تصبح مهمتنا هي أولاً الإجابة عن سؤال "من هو العلماني؟" من خلال الجواب عن سؤال "ما هي العلمانية؟".

 

كأيّ مصطلح آخر "العلمانية" لها تعاريف متعدّدة، وهذا يقترن بتعدد مفاهيمها، وأبسط تعريف لها هو "فصل الدولة عن الدين"، وبهذا التعريف تصبح "العلمانيّة" عبارة عن "إجراء سياسي" وحسب وهي لا تتعدّى السياسة على مستواها التنفيذي، ما يجعل العلمانيّة تتحوّل إلى مجرد عمليّة حكوميّة كعمليّة إصدار تشريع ضريبي مثلاً.

 

في هذا الفهم المعلّب لا تختزل العلمانية وحسب، بل وتقزّم إلى أبعد الحدود، والحالة مشابهة هنا لحالة تقزيم الديمقراطيّة إلى "صندوق انتخابات"، أو تقزيم الاشتراكية إلى "مصادرة الملكيّات الخاصّة من قبل الدولة" أو "الثورة"، وهلمّ جرى...

 

إنّ علاقة مسألة فصل الدين عن الدولة مع العلمانية هي كعلاقة الثمرة بالشجرة، فهذا الفصل السياسي هو أحد ثمار العلمانية العديدة، ويمكن وصفه بأنّه الثمرة السياسية لشجرة العلمانية المتكاملة.. المتنوعة الثمار، وبالتالي يمكن القول أنّ إجراء فصل الدولة عن الدين هو عملية تُشتقّ من العلمانية وتستند إليها، ولكنّها لا تحدّدها ولا تستنفدها بتاتاً، وهي شيء تنتجه العلمانية، ولكنّه ليس العلمانية نفسها، ولو ربطنا وحصرنا العلمانية بفصل الدين عن الدولة فسنصل إلى مفارقة عجائبية في الفكر السياسي، فهناك فلسفات سياسية عديدة، منها الفوضوية، ترى في الدولة مؤسّسة مؤقتة الضرورة للمجتمع وسيستغني عنها المجتمع المستقبلي العالي التطوّر، وقد يستغرب البعض أن تكون الشيوعية من ضمن هذه الفلسفات، فهي ترى بأنّ مستقبل المجتمع الاشتراكي هو أنّه سيتحول إلى "مجتمع تسيير ذاتي" لا حاجة فيه للدولة؛ فهل سنقول عندها عن هذا المجتمع أنّه ليس علمانيّاً لأنّه استغنى عن الدولة وليس فيه لا دولة مفصولة عن الدين ولا سواها من الدول، لأنّ العلمانية بتعريفها كفصل للدولة عن الدين يصبح معناها "الدولة اللادينية"، وحيث لا يكون هناك دولة لا يكون هناك بالتالي علمانية؟

 

إذاً ما هي العلمانية؟

 

العلمانية هي المنظومة الفكرية المتكاملة التي يقودنا إليها التفكير العقلاني المنطقي الذي يقوم به العقل الحر، المتحرّر من كل القناعات والمعتقدات التي تقوم على الإيمان والتسليم، وتأتي عن طريق النقل والتلقين، فإن كانت "العقلانية" تعني المنهّجية الفكرية المتكاملة التي تنطلق من مبادئ وحقائق العقل وتلتزم بثوابت العقل، فعندئذ تكون العلمانية هي الرؤية العالمية المتكاملة التي يصنعها العقل الحر عبر تلك المنهجية العقلانية، وتكون "العلمانية" نفسها هي المنهجية الشاملة التي يقودنا إليها التفكير العقلاني في التعامل مع الواقع والوجود ككل، وبناء على ذلك تصبح العلمانية هي الهندسة الإنسانية التي تقوم على أساس العقلانية لبناء الفرد والمجتمع، وتكون علاقة العلمانية بالعقلانية شبيهة بعلاقة التكنولوجيا بالعلم، فتكون العقلانية هي منهجية التفكير العقلاني، وتكون العلمانية هي المنهجية العملية التي ينتجها التفكير العقلاني للتعامل مع كلّ قضايا الوجود الإنساني.

 

تلك هي العلمانية.. أمّا الدين فهو ليس أكثر من مساع ينتجها العقل البشري في طوره اللامنطقي أو بعده اللامنطقي لفهم العالم وتنظيم الحياة، وهي مساع تختلط فيها الوقائع بالأوهام وتهيمن عليها الإيمانويّة اللاعقلانية.

 

وبذلك تبدأ العلمانية من اللحظة الفيصلية التي ينتقل فيها العقل البشري من طوره اللامنطقي إلى طوره المنطقي ويبدأ بها "عصر العقل المنطقي" أو "عصر العقلانية"، الذي ينتقل فيه العقل من التقييد والتبعيّة إلى الحرية والسيادة، فالعقل في هذا الطور يكون حراً وسيداً، فيما يكون الإيمان في الدين هو السيد الذي يقيّد العقل ويجعله تابعاً وخادماً له، وذلك يمكّننا من القول أن العلمانية هي الثمرة المنهجية التي تثمرها شجرة العقل الحر الذي ينتج الفلسفة والعلم والأخلاق الإنسانية وسواها على أساس منطقيته وعقلانيته، وبما أنّ العقل يمكن نسبه إلى ما ينتج.. فنقول "العقل العلمي" و"العقل الفلسفي" و"العقل الأخلاقي"، يصبح ممكناً القول أيضاً "العقل العلماني" الذي يشكّل أحد أوجه العقل الحر.

 

وبعد: ماذا عن التعصّب العلماني؟

 

في صفوف العلمانيين يمكننا الحديث عن صنفين منهم، وهما "العلماني المفكر أو الفكري" و"العلماني المعتقِد أو العقائدي"، الأول تقوم عقلانيته على فكر ووعي خاصين، وهو بالتالي "علماني عقلاني"، أما الثاني فيستورد عقلانيته من الخارج، أي تأتيه عن طريق النقل والتلقين، ويصبح حاله فيها كحال من يعتقد بمعتقد ديني، أو يؤمن إيماناً بمقولات العلم دون أن يعي مضمونها العلمي وبالتالي فهو يقبلها بدون "علميتها"، وهنا لا يعود العلم فعلاً علماً ويتحوّل إلى "علم بدون علمية" ويصبح فعليّاً "إيماناً علمويّاً" وفي المحصّلة "إيماناً"، ومثل ذاك يحصل مع العلماني الذي يأخذ بالمقولات العلمانية كقوالب جاهزة، فهذا يكون "علمانيّاً بدون علمانية" أو "علمانياً إيمانوياً" ويتبع "علمانية إيمانية أو علمانية لاعلمانية ولاعقلانية"، ويبقى "شخصاً إيمانوياً علمانوي المعتقد"، وهذا الشخص تصبح علمانيته عقيدة، وتكون فعلياً علمانية زائفة، وهو ككل شخص إيمانوي يتعصب لما يؤمن به، وهكذا يتعصب هذا الشخص لعلمانيته الموهومة، ويتحول إلى "ديماغوجي متعلمن"، أمّا المفكّر فهو قطعاً لا يتعصّب، فالفكر والتعصّب نقيضان لا يجتمعان، وهما من طبيعيتين متضادتين تماماً، فحيث يعمل الفكر يزول التعصّب تلقائياً، وحيث يكون التعصّب لا يمكن للفكر أن يعمل، وبالتالي لا يمكن لأيّ علماني حقيقي، أي علماني الفكر وليس المعتقد أن يتعصّب، فهو كأيّ مفكّر آخر ليس لديه عقيدة صمّاء يتعصب لها، أما العلماني الإيمانوي فهو بدوره مثل أيّ إيمانوي آخر يتعصّب لمعتقده الإيمانوي، وبالتالي فهذا العلماني الشكلي يتعصب لعلمانيته الخاصّة بقدر تكون علمانيته إيمانية.

 

العلمانية ليست صنما يُعبد ويتعصّب له

 

في العلمانية الحقيقية يبقى العقل في موقع السيادة والقيادة، وبما أنّه ليس لدى العقل في كل مجال يسود فيه أصنام مقدّسة، فالعقل العلماني لا يتعصب في علمانيته، أما الأصنام المقدسة فتكون مقدسة بقدر ما تكون الإيمانوية مهيمنة، والإيمانية العلمانوية ليست استثناء، وهي في طبيعتها الذهنية لا تختلف عن الدين، فالتعصب في الدين شيء أصيل، إذ أن الذهنية الدينية التي لا تقوم على العقل تأخذ ببساطة وسذاجة بمفهوم الحقائق الكاملة وتسلّم بها، ومثلها تعمل أيّة ذهنية إيمانوية أخرى.. حتى لو كان صاحبها ملحداً، فالحقيقة في الذهنية الإيمانوية تكون دوماً مطلقة وأحاديّة وتكفّر الاختلاف، أمّا العقل الحقيقي فهو يعي دوماً القيمة الكبرى للاختلاف في الوصول إلى الحقائق، حتّى إن كانت هذه الحقائق مطلقة، فهذه الحقائق تتكامل بفضل إسهامات العقول المختلفة التي تراها من زوايا مختلفة وتصل بها في نهاية المطاف إلى ذروتها البانورامية، وعدا عن ذلك فالعقل يدرك أيضاً أنّه ليست الحقائق كلها مطلقة، فهناك حقائق بطبيعتها نسبية.. وإطلاقها يحوّلها إلى أباطيل، والعقل يعرف ويعترف كذلك بأنّه يخطئ ويصيب، ولذلك يضع احتمال الخطأ فيما قد يبدو حقيقة، أمّا الذهنية الإيمانية فتؤمن دوماً بعصمة ونزاهة معتقدها.

 

وهكذا نجد أنّ الحقيقة عند العقل هي:

 

إمّا حقيقية مطلقة تتكامل بفضل الاختلاف، الذي يعتبره العقل عاملاً بنّاء تتكامل عبره العقول الفرديّة الجزئية لتلتقي في العقل الجمعي الكلّي.

 

أو هي حقيقة نسبيّة بطبيعتها، ولا يمكن إطلاقها.. وتحويلها من النسبية إلى المطلقيّة يلغيها كحقائق ويحوّلها إلى أباطيل.

أو هي حقائق ظاهرية، أو حقائق غير تامّة، وبالتالي فهي تحتمل بدرجة ما الصواب والخطأ!

 

ولذلك لا تمتطي العقول الحرّة أبقار مقدّسة، فالأبقار المقدسة هي للذهنيات اللاعقلانية، ولكنّها هي فعلاً التي تمتطي هذه الذهنيات.

وحيث لا أبقار مقدّسة، لا تعصّب!

 

والعلمانية الحقيقية هي ثمرة عقل حر، وليست بقرة مقدّسة تمتطي صاحبها وتعصِّبه لها عبر سلبه حرية العقل وبالتالي عقلانية العقل!

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard