info@suwar-magazine.org

هل يمكن للدولة المدنيَّة أن تكون حلّاً سوريّاً؟

هل يمكن للدولة المدنيَّة أن تكون حلّاً سوريّاً؟
Whatsapp
Facebook Share

 

مقدمة:

 

بعد انطلاقة حركات الربيع العربي.. وما حملته وما تزال تحمله من مساع وتطلعات للتغيير الاجتماعي والسياسي إلى الأفضل، صار العديد من المصطلحات يتكرّر الحديث عنها بشكل متواصل في وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي بل وحتّى في الأحاديث الخاصّة، ومن أشهر هذه المصطلحات: "الديمقراطيّة"، "العلمانيّة"، "اللائكيّة"، "الليبراليّة"، و"الدولة المدنيّة"، وهي تتعلّق بشكل الدولة الحديثة المطلوب بناءها في مجتمعات المنطقة العربية، والأمر لا يختلف على الساحة السورية، حيث يتمّ تداول هذه المصطلحات في ما يتعلق بشكل الدولة السوريّة المستقبلية، وفي الآونة الأخيرة صار الحديث يتطرّق أكثر إلى "الدولة المدنية"، التي باتت تُطرح كحل للأزمة السوريّة، فما هي "الدولة المدنيّة"، وما مدى واقعية طرحها كمشروع حل؟

 

ماذا تعني الدولة المدنيّة؟

 

واقعيّاً مصطلح "دولة مدنية" (civic state) أو (civil state) كما يشير العديد من الباحثين والمفكرين العرب، هو مصطلح غير شائع الاستخدام عند المفكرين والعلماء الإنسانيّين والإعلاميّين في الغرب، وهو "اختراع عربي" حديث نسبيّاً، وقد شاع استخدامه بعد انطلاقة الربيع العربي، وجاء في سياق الجدل بين العلمانيّين والإسلاميّين، ليكون حلّاً وسطيّاً بين "الدولة العلمانيّة" و"الدولة الإسلاميّة" اللتين كانتا تطرحان كبديلين متنافسين من قبل الطرفين المذكورين، وبذلك يمكن القول إلى حدّ ما أن "الدولة المدنية" هي تركيب هجين من "العلمانية" و"الإسلامية".

 

ومن الشائع وصف الدولة المدنيّة بأنّها دولة "غير دينيّة" و"غير عسكريّة"، وهي دولة مواطنة تتأسّس على مبدأ "العقد الاجتماعي"، وتستمد شرعيتها من إرادة مواطنيها، كما أنّها دولة قانون، ويحكمها بواسطة مؤسسات تعمل بموجب هذا القانون حكّام مدنيون منتخبون من قبل شعبها، ويتمّ فيها الفصل بين السلطات، ولا تتحكّم فيها أيّة جهات أو قوى فوق قانونية أو فوق انتخابية، وهي تحترم قيم المساواة والتسامح بين الناس وتضمن حقوق الإنسان لجميع مواطنيها بغض النظر عن اختلافاتهم، كما أنّها تحترم الأديان ولا تقف ضدها.

 

مع ذلك.. لم يؤدي طرح فكرة "الدولة المدنيّة" إلى التوافق المطلوب بين الأطراف المختلفة على الساحة العربية، بل تحوّلت مقولة "الدولة المدنيّة" نفسها إلى موضوع خلاف، وصار العديد من الأطراف يطرحونها كلّ وفقاً لرؤيته أو عقيدته أو مصلحته، وبذلك تعدّدت واختلفت.. بل حتّى وتناقضت مفاهيم الدولة المدنيّة، وأصبح مصطلح "الدولة المدنيّة" مصطلحاً ملتبساً يشوبه الغموض، ما يعني أنّه عند طرحه كحلّ، فهو لا يقدّم فكرة واضحة محدّدة عن أساسيات هذا الحل، وهذا ما سيتبين معنا لاحقاً.

 

المواقف الإسلاميّة من أطروحة الدولة المدنيّة:

 

ليس لدى الإسلاميين موقف موحّد من هذه الأطروحة، بل تختلف مواقفهم منها وأحياناً بشدّة.

المتشدّدون والمتطرفون والسلفيّون منهم يرفضون هذه الفكرة كما يرفضون فكرة الدولة العلمانيّة، والدولة الديمقراطيّة والدولة الليبراليّة، وكما سبق لهم أن رفضوا فكرة "الدولة القوميّة" و"الدولة الاشتراكيّة"، فكلّ هذه الدول برأيهم هي نماذج دخيلة وخارجة عن الإسلام، الذي لديه نموذجه الحصري الخاص المعروف تاريخيّاً، والمتمثّل بـشكل رئيس بـ “دولة الخلافة" وأحياناً بـ “الإمارة الإسلاميّة" المحكومتين دوماً بالشريعة الإسلاميّة.

 

إسلاميّون آخرون يعتبرون هذه الأطروحة بدعة مغرضة من قبل أعداء الإسلام لمنع قيام الدولة الإسلاميّة المطلوبة وإحباط وحدة ونهضة المسلمين.

 

ويرفضها فريق آخر.. ويصرّ بدوره على "الدولة الإسلاميّة"، لكنّه لا يرى أنّها حكماً يجب أن تكون "دولة خلافة" أو "دولة إمارة".. بل يجيز إمكانيّة أن تكون دولة رئاسيّة تحكم بالشريعة الإسلاميّة.

 

ويذهب فريق سواه إلى أنّ "الدولة الإسلاميّة" نفسها هي "دولة مدنيّة" تماماً، فالحاكم في الإسلام من حيث المبدأ يتمّ اختياره من قبل الأمّة، ولا يشترط فيه أن يكون رجل دين، وهو مُلزم بالشورى، ومسؤول أمام الأمّة، وهي تستطيع نصحه ونقده وعزله إن اقتضى الأمر، والإسلام ليس فيه كهنة، ولا حكم كهنة، ولا حكماً يقوم على مبدأ الحقّ السماوي، الذي لا يخضع بموجبه الحاكم إلى أيّ رقيب أو حسيب، كما كان الحال في الأنظمة الثيوقراطيّة أو الملكيّات المطلقة الغربيّة.

 

وتصرّ فئة سوى من تقدّم على أنّ الدولة الإسلاميّة هي "دولة دينيّة" تماماً، ولا يجوز وصفها بـ "المدنيّة"، فهي تقوم على الدين، والقول أنّها دولة مدنيّة يتسبّب بتشوّش والتباس ماهيتها.. ويعرضها للاختراق أو الانحراف أو الضلال.

 

ويرى غيرهم أنّ الدولة الإسلاميّة ليست "دينيّة" (theocratic) ولا مدنيّة (civic)، فهذان النموذجان المتناقضان كلاهما يخصّان الغرب، وهما مختلفان جذريّاً عن "الحكم الإسلامي"، الذي ليس هو "ثيوقراطيّاً" يقوم على فكرة "الحق الإلهي" ولا هو "مدنيّاً" يقوم على فكرة "فصل الدين عن الدولة"، وهذه يعني برأيهم أنّ الدولة المدنيّة التي جاءت كردّة فعل على "الثيوقراطيّة" في الغرب، عدا عن كونها مختلفة مبدئيّاً مع الإسلام، فهي أيضاً غير مبرّرة وغير ضروريّة فيه، كونه بريء من المشاكل (الثيوقراطيّة) التي أدّت إلى نشأتها.

 

وليس هذا فحسب، فثمّة أيضاً فريق أكثر اعتدالاً لا يرى أنّه ثمّة تعارض بين الإسلام والدولة الديمقراطيّة الحديثة بشرط أن تبقى الشريعة الإسلاميّة مرجعيّة لهذه الدولة، فلا تسنّ هذه الدولة قوانيناً تخالف الشرع الإسلامي.

 

الدولة المدنيّة في مواقف ومفاهيم العلمانيّين:

 

تلك كانت مواقف الإسلاميّين المختلفين من الدولة المدنيّة، وتراوحت بين رفضها وقبولها من مناظير وبمقاربات مختلفة، وخارج الوسط الإسلامي أيضاً اختلفت مفاهيم هذه الدولة والمواقف منها، فقسم من العلمانيّين يعتبر أنّ هذه الأطروحة خديعة من قبل الإسلاميّين السياسيّين وأنصارهم للالتفاف على الاستحقاق العلماني، وإفراغ الديمقراطيّة من محتواها، وشكلنتها.. وجعلها مجرّد غطاء ديمقراطي ظاهري لهيمنة الإسلاميّين على الدولة واستئثارهم بالحكم.

 

فيما لم يعارض فريق آخر من العلمانيين فكرة "دولة ديمقراطيّة ذات مرجعيّة إسلاميّة".. وأبدى استعداداً للتوافق على حلّ وسط مع الإسلاميّين.

 

ويقول سواهم أنّ تأييدهم للدولة المدنيّة هو مجرد تغيير دبلوماسي في استخدام المصطلحات، بسبب سلبيّة صورة العلمانيّة في نظر عامة الناس.

 

فيما يقول غيرهم أنّه يطرح الدولة المدنيّة من منطلق علماني بحت، لأنّ العلمانيّة تعطي الحقّ لجميع القوى السياسيّة بما في ذلك الإسلاميّين بممارسة النشاط السياسي، وتعترف بحقهم بالوجود والعمل، وترفض رفضاً قاطعاً قمعهم واضطهادهم فهذه ديكتاتوريّة وعداء للحرية وتشويه للعلمانيّة نفسها.

 

بينما يصرّ آخرون على أنّه لا فرق بين "العلمانيّة" و"المدنيّة" وأنّ كلتاهما في مضمونها الحقيقي تعني الفصل بين الدين والدولة، وحصر كلّ السلطات بالدولة.. وعدم إعطاء أيّة سلطة لأيّة مؤسّسة دينيّة أيّاً كان دينها.

 

وهل هناك طرف ثالث؟

 

هذا ما يمكن الإجابة عليه بنعم.. وهذا الطرف واسع الطيف، وهو عموماً لا يتبنّى قناعات إسلاميّة أو علمانيّة محدّدة أو صارمة، وهو يقبل بدولة تجمع بين الديمقراطيّة الحديثة والمبادئ الإسلاميّة، وفي عداد هذا الطرف يدخل متديّنون معتدلون غير مسيّسون أو مُأدلجون، ومثقّفون وسياسيّون ومختصّون علميّون أو مهنيّون، وناشطون اجتماعيّون، وأصحاب أعمال، ومفكرون أو مثقفون إسلاميّون محدّثون رغم (قلّتهم).. وسواهم، وهؤلاء عموماً يمكن وصفهم بـ "المدنيّين" بالمعنى الشائع للمدنيّة، الذي يعني التحضّر الاجتماعي من ناحية، ويأخذ فيه مصطلح "مدني" معان مثل "غير ديني" و"غير عسكري" وغير بوليسي" وما شابه.

 

اقرأ أيضاً:

 

أيديولوجيا السلطة ويوتوبيا المعارضة والشعب الذي لا يريد

 

الدولة المدنيّة وسجالاتها على الساحة السوريّة الراهنة:

 

في سياق الحلول المطروحة للأزمة السوريّة.. تطرح اليوم "الدولة المدنية " كحلّ، وهذا المشروع بات يتبنّاه العديد من الشخصيّات الفكريّة والسياسيّة المشهورة على الساحة السوريّة، فوفقاً للكاتبة والمحامية والسجينة السياسية السابقة سحر حويجة في مقالة لها بعنوان "الدولة العلمانيّة والدولة المدنية" على موقع "Salon Syria"، بناء على تقرير لوسام العبدالله بعنوان "العلمانية في سوريا بين المجتمع والسلطة" منشور في موقع "اليوم الثالث" بتاريخ 27/8/2017، فإنّ "أغلب تيّارات "الإسلام السياسي" غيّرت موقفها من الدولة المدنية، وباتت تعتبر أنّها لا تتنافى مع "الأصول الإسلامية بل تؤسّس لها وتتفق معها؛ وبمقابل ذلك ابتعد عدد من القوى والشخصيات عن العلمانية في سوريا وتخلّوا عنها لصالح الدولة المدنية، ومنهم حسن عبد العظيم المنسّق العام لهيئة التنسيق الوطنيّة الذي أعلن أنه مع الدولة المدنيّة بوصفها دولة المدينة وصحيفة المدينة، وهي التي أنشأها النبي العربي منذ 14 قرناً، وكذلك حازم نهار الذي كان ممثّلاً لحزب العمّال الثوري ذي التوجه الماركسي في هيئة التنسيق، وقد تراجع كلّ منهما عن طرح العلمانية بسبب كون العلمانيّة لها حساسية سلبية في القواعد الشعبية، من بين المتراجعين أيضاً، رئيس تيار بناء الدولة السورية لؤي حسين الذي يعلن أنّ موقفه هو استبدال هو في المصطلح فقط وليس المضمون، ويضاف إليهم د.برهان غليون، كما تقول حويجة.

 

هذا الانتقال إلى معسكر الدولة المدنيّة -إن جاز التعبير- أثار بالطبع ردّة فعل استيائية لدى العديد من العلمانيّين، الذين اعتبروه تراجعاً أو مساومة، فبرأي الكاتبة السوريّة والناشطة والسجينة السياسية السابقة حسيبة عبد الرحمن، وفقاً لمقالها "سوريا بين فكّي استبداد مدني ودولة دينية" المنشور في 22 تشرين الأول 2019 أيضاً على موقع "صالون سوريا" يأتي تخلّي برهان غليون  في مقابلته التلفزيونيّة مع المؤسسة الوطنية للإرسال (إل بي سي) عن الدولة العلمانيّة بما تمثّل، وانتقاله إلى أطروحة الدولة المدنية كمحصلة لاتفاقه مع الإسلاميين، ومثله كثيرون، وقد برّروا ذلك بأنّه استبدال للاسم فقط، وليس المضمون، إلّا أنّ هذا تراجع يهدف إلى  تسويق مفهوم الدولة المدنيّة تمهيداً للحكم الإسلامي على النموذج التركي.

 

هذا السجال ليس وليد اللحظة الراهنة، ففي 8 كانون الأول 2013 نشر المفكر السوري وائل السوّاح مقالاً بعنوان "في العلمانية والعلمانية السورية" على موقع "الأوان" جاء فيه: «يجد مفهوم “العلمانيّة” في سورية نفسه شيئاً فشيئاً مثل ابن الزنا الذي لا يريد أحد أن يتبناه. وقد راحت فئة تتوسّع أكثر فأكثر من نخبة المثقفين السوريين تتبرأ من هذا المفهوم أو تعيد تفسيره فتجعله “علمانية بلا أنياب” وتقوم بلهجة اعتذارية تبريرية بتجريده من أهم ما في مقوماته من مدلولات استقلالية، عقلانية، علمية حديثة... وينصّب معظم المثقفين السوريين العلمانية عدوا لفكرهم “التغييري”. ولكنهم يتفاوتون ما بين ناقد عنيد لا تهادن بين فكره وبين الفكر العلماني، كمحمد سعيد رمضان البوطي ووهبة الزحيلي وعبد الرحمن حسن حبنكة الميداني وعبد العزيز الخطيب، وناقد يداري مناصبته العلمانية العداء، خجلاً أو تقيّة أو مداورة كبرهان غليون وأدونيس وماهر الشريف وياسين الحاج صالح».

 

وقد ردّ د.غليون على السوّاح في مقاله "رداً على وائل السواح من أجل علمانيّة إنسانيّة" منشور في نفس الموقع والتاريخ متهماً إيّاه بعدم احترام الأمانة العلمية، وأكّد بحزم أنّ ما هو ضدّه هو أن تتحوّل العلمانيّة في سوريا وغيرها من الدول العربية إلى "دوغما لا دينية" ورديف للديكتاتوريات ونقيض لقيم الثورة السياسية التحررية الحديثة برمتها، وهذا ما أصبحت عليه سوريّاً وعربيّاً، لأنّها تحوّلت إلى عقيدة لا دينية علموية تسعى لأن تحلّ بالقوة محلّ العقيدة الدينية الخرافية والظلامية برأيها بذريعة التنوير المنفصل عن مفهوم الحرية، وأكّد د.غليون أن"العلمانيّة تقف في مقدمة المعركة من أجل الحرية ومنها تستمد مشروعية وجودها... ولن يكون لها مستقبل في العالم العربي إلّا بقدر ما تساهم في هذه المعركة وتعمل على الانتصار فيها. وبقدر نجاحها في ضمان الحريات الفكرية والسياسية، تفتح فضاءً جديداً وتخلق ظروفاً لا يمكن إلّا أن تقود إلى تغير في أفكار الناس واعتقاداتهم ومنظومات قيمهم وتطلعاتهم. كما أكّد أنّه "ينبغي أن نرفض الاختباء وراء شعارات العلمانيّة لتبرير الحرب ضدّ الحرية أو للمحافظة على نظم القهر والاستبداد... وأن نطرح بالمقابل مفهوم الدولة المدنيّة المحايدة عقائديّاً، والتي تحترم حريّات الجميع وعقائدهم".

 

وبالمقابل يقول لؤي الحسين في تعليقه على الموضوع في مقالة له بعنوان "فصل في حكاية العلمانية السورية مخالفة برهان غليون في رؤيته لـجماعة وائل السواح"، منشور أيضاً على موقع "الأوان" بنفس التاريخ منتقداً مواقف برهان غليون: «لا يفتقد مقال برهان غليون إلى أفكار ذات أهمية بالغة في موضوع العلمانية، على الرغم من أن كلامه في مديح العلمانية، حسبما يراها، لا يختلف عن اشتراكيته... فكما لملمَتْ اشتراكية غليون كل القيم الإيجابية التي أنتجتها البشرية على امتداد حضاراتها، مشتملة الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة والعلمانية والمساواة والحرية وتكافؤ الفرص والشهامة والإباء والعنفوان …الخ، كذلك هي علمانيته: إنسانية رحومة رؤوفة ليس لها أنياب ولا أظافر، لا تخوض صراعاً ولا تدعو إليه، ترضى بالجميع ـ ما عدا العلمانيين السوريين ـ وقادرة على استيعابهم، في مقابل قناعته بأن الجميع يرضون بها عن طيب خاطر. مع ملاحظة أنه يرى العلمانية الرائعة قد تم تخريبها إجرائياً، وما زال، على يد العلمانيين، مثلما تمّ تخريب فكرة الاشتراكية تطبيقيّاً على يد الشيوعيين».

 

وكما نرى ثمّة سجال واسع وانتقادات متبادلة بين المفكرين والسياسيين السوريين حول مسألتي “الدولة المدنية" و"الدولة العلمانية"، وفيها تنعكس توجسات وتحفظات كل طرف إما على "العلمانية" أو على الدولة المدنية"، وهي مواقف محقة ومبررة من حيث المبدأ.. نظراً لما يشوب كلا المصطلحين من مفاهيم خاطئة في كثير من الأحيان.

 

بين المدنية والعلمانية.. وعقلانيّة القرار:

 

عند الحديث بواقعيّة وعقلانيّة، يجب القول أنّه لا بديل فعلي عن علمانيّة سوريا المستقبلية، فالعلمانية هي شرط رئيس وحتمي من شروط بناء المجتمع والدولة الحديثين، ولكن عند الكلام عن العلمانية، فيجب أن نفهم بوضوح ما هو المبدأ الرئيس الذي تقوم عليه العلمانية، وإلّا فسيتم الرهان أو يقع الخيار على علمانية زائفة، وتكون النتيجة بخلاف أو على عكس المأمول.

 

إنّ وضع مبدأ فصل الدين عن الدولة أو حياديّة الدولة كمبدأ أساس تقوم عليه العلمانيّة هو خطأ كبير يؤدّي إلى تزييف العلمانية، والأسوأ من ذلك هو فهم العلمانية كعقيدة أو حتى منهجيّة لا دينية، فهذا يمسخ العلمانية، ويحوّلها فعليّاً إلى نوع من الدين بلا إله.

 

العلمانية الحقيقية هي منهجية عقلانيّة واقعيّة إنسانيّة، أي أنّها تقوم على العقل كوسيلة للتعامل مع الواقع لما فيه خير الإنسان.. أيّ إنسان، وبالمفهوم العالمي الكامل للإنسان، ومن هنا يتمّ اشتقاق المبدأ العلماني المتمثّل بفصل الدين عن الدولة، لأنّ الدين يقوم على الإيمانيّة الميتافيزيقيّة، ولكن عند الكلام عن عقلانية العلمانية في التعامل مع الواقع.. فهذا يقتضي التعامل مع هذا الواقع دوماً بواقعية وعقلانية، وعدم السعي لقولبة هذا الواقع في قوالب قسريّة مشتقّة من النظريّات والمعتقدات.. وغير مناسبة جزئيّاً أو كليّاً لهذا الواقع تطبيقيّاً، ولذا فالعلماني العقلاني عندما يتعامل مع الواقع لا يطالب بفصل الدين عن الدولة في مجتمع ما إن كان هذا المجتمع لم يصل بعد في تطوره الاجتماعي والثقافي والسياسي إلى الدرجة الكافية من التطور للقيام بهذا الفصل، وهذا ما يمكن قوله عن الواقع السوري في اللحظة الراهنة، حيث تشكّل القوى الإسلاميّة الطرف الأقوى.. والقوى العلمانيّة الطرف الأضعف، وهذا يعني أنّه من غير الواقعي في هذه اللحظة المطالبة بفصل الدين عن الدولة أو الدين عن السياسة، فالقوى الدينيّة السياسية أو قوى الإسلام السياسي إضافة إلى المؤسّسات الدينية التقليدية غير المنفصلة عن الدولة موجودة وشديدة الحضور فيه، فكيف سيتمّ التعامل مع هذه القوى، ولا سيما أنّها تعكس واقعاً اجتماعيّاً تتفشى فيه ظاهرة التديّن.. بل والتشدّد في التدين؟ أبتجاهلها، أم بإجبارها على التغيّر بحيث تصبح مناسبة للمعايير العلمانيّة، أم بالقضاء عليها؟ وبما أنّ تجاهلها غير ممكن.. فلا يبقى إلّا إجبارها على التغيّر أو التخلّص منها، فمن هي القوة التي ستفعل ذلك، وكيف سيحكم من وجهة نظر عقلانيّة وأخلاقيّة إنسانيّة على هذا السلوك فيما لو حدث؟ وهل هو إلّا عنف ديكتاتوري؟

 

في مثل الحالة الواقعية السوريّة الحاضرة.. السبيل الوحيد الذي يجب أن يسير فيه العقل الإنساني هو الذهاب إلى حل وسطي مع هذه القوى، وهذا لا يشمل بالطبع الجماعات التكفيريّة أو الإرهابيّة أو السلفيّة المتطرّفة، والحل الوسطيّ في الحالة السورية يعني استثناء كلّ من "الدولة الدينية" و"الدولة العلمانية" في اللحظة الراهنة، واستبدالهما بـ "الدولة المدنيّة" التي تجمع توافقيّاً بين الديمقراطية والمرجعيّة الإسلامية، بحيث تكون المرجعية الدينية شرطاً على القوانين في هذه اللحظة، وفقط على القوانين، وشرطاً يقتضي التوافق وفق المقاصد وليس الأحكام، ولكنّها قطعاً لا تكون سقفاً أو حدّاً على الديمقراطيّة، التي يجب أن تكون مفتوحة بشكل غير مشروط، وهذا هو التفاهم والاتفاق الذي يجب عقده اليوم، أي وبصريح العبارة أن يقدّم العلمانيّون تنازلاً للإسلاميّين في مسألة عدم فصل الدولة عن الدين متمثّلاً بعدم مخالفة قوانين الدولة للشريعة الإسلاميّة وفق مقاصد الشريعة مقابل ألّا يضع الإسلاميّون أيّ حدّ أو سقف على الديمقراطيّة ممثّلة بشكل رئيس بحريّات الفكر والاعتقاد والنشر والتعبير والتنظيم والتحزب والتجمع.. والنقد، حتّى لو تمّ توجيه هذا النقد إلى الدين نفسه، بشرط أن يتمّ ذلك بدون تهجّم أو إهانة، ويلتزم بمعايير النقد العقلاني العلمي، وبهذا الشكل فقط يمكن الحديث عن "دولة مدنيّة"، فهذه الدولة لا تكون مدنيّة إلّا إذا كانت ديمقراطية، وليس مقبولاً قطعاً الحديث عن ديمقراطية ذات مرجعيّة إسلاميّة.. أو ديمقراطيّة ذات حدود إسلاميّة، فالديمقراطية لا تكون ديمقراطيّة إلّا إذا كانت هي نفسها مرجعيّة نفسها، ورسمت حدودها اللامحدودة بنفسها.

 

وبوجود الديمقراطيّة غير المقيّدة، يمكن لجميع الأطراف أن يعملوا ويتنافسوا بحريّة وبنزاهة.. وأن يعمل كلّ منهم على تقديم أفضل ما لديه، والشعب هو الذي يقرّر من وماذا يختار، فإذا أفلح العلماني في نشر الثقافة العلمانيّة بما يكفي لجعلها خيار شعبيّاً.. فسيتمكّن عندها من تغيير القوانين وعلمنتها بشكل سلمي، ودون الحاجة إلى أيّ عنف ضدّ أيّ حد، وإن فشل في ذلك، فعليه أن يتحمّل نتيجة فشله وألّا يطالب بعلمنة قوانين المجتمع، وبدلاً من ذلك عليه أن يعيد محاولة نشر ثقافته العلمانيّة بأسلوب أفضل.

 

ما مدى واقعيّة الحلّ المدني في الواقع السوري؟

 

قد يبدو الكلام أعلاه كلاماً مثاليّاً غير قابل للتطبيق العملي في سوريا.. بل وغيرها من البلدان العربية، ويمكن أن يبدو فيه الكلام عن دولة مدنيّة ديمقراطيّة وذات مرجعيّة إسلاميّة بنفس الوقت ضرباً من الخيال الذي يحاول أن يجمع بين نقيضين.

 

هذا الرأي لا يتّفق مع آراء العديد من كبار المفكّرين، ومنهم جان بوبيرو، الذي تقول عنه صحيفة البيان الإمارتيّة في مقالها "العلمانيّات في العالم" المنشور بتاريخ 21 كانون الثاني 2008 أنّه "واحد من أهم أساتذة الجامعات الفرنسية. ويعتبر الاختصاصي الأول في موضوع العلمانيّة أو فصل الدين عن السياسة والتسييس. وهو الرئيس الشرفي لإحدى كبريات الجامعات الفرنسية: الكليّة التطبيقية للدراسات العليا".

 

فالبروفيسور بوبيرو يرى بأنّ العلمانية لم تعد استثناء أوروبيّاً ولا حتّى فرنسيّاً، وإنّما أصبحت ظاهرة عالميّة منتشرة في شتّى الدول من إفريقيا إلى آسيا إلى أميركا اللاتينية. ولكنّها تتخذ أشكالاً مختلفة من بلد إلى آخر ومن حضارة إلى أخرى. فهناك علمانيّات متعدّدة لا علمانيّة واحدة. هناك علمانيّات متصالحة مع الدين وعلمانيّات متخاصمة معه. ولكن العلمانيّة المنفتحة يمكن أن تتأقلم مع مختلف المجتمعات والتراثات الدينيّة. فهناك علمانية فرنسية، وعلمانية ألمانية، وعلمانية أميركيّة، وربما يوماً ما علمانية عربية أو إسلامية. وهي لن تكون معاديّة للدين الإسلامي أبداً.

 

أما الباحث العراقي الحائز على الدكتوراه في فلسفة العلوم القانونيّة، وأستاذ القانون الدولي، والخبير في ميدان حقوق الإنسان عبدالحسين شعبان فيقول في مقاله "الدّولة المدنيّة: مشكلة أم حلّ؟!" المنشور على موقع "مؤمنون بلا حدود" في 28 أيلول 2018: «يمكن أن تنشأ دولة مدنيّة عصريّة وحديثة، بخلفيّات تراعي مرجعيتها الدينية، فليس في ذلك ما يتعارض مع الحداثة والعقلانية والديمقراطية، خصوصاً إذا التزمت بالحقوق والحرّيات وقامت على أساس حكم القانون ومبادئ المواطنة والمساواة والمشاركة والشراكة واستندت إلى قواعد العدالة، ولا سيما الاجتماعية. وإذا كان للدين حقله، فإنّ من واجب الدولة حماية الحق في الدين والضمير وحقّ ممارسة الشعائر والطقوس بحرّية تامّة ودون أيّ تمييز».

 

هذا من الناحية الفكرية، أمّا إذا عدنا إلى التاريخ السوري الحديث، فسنجد فعليّاً أنّ التجربة الديمقراطية السورية بعد الاستقلال وحتى انقلاب البعث يمكن القول عنها أنّها تجربة "دولة مدنيّة" واقعية، وقد تمكّنت من الموافقة بشكل عملي موفّق بين الديمقراطية والمرجعية الإسلامية.

 

في تلك التجربة نصّت مقدمة الدستور على أنّه "لما كانت غالبيّة الشعب تدين بالإسلام فإنّ الدولة تعلن استمساكها بالإسلام ومُثُله العليا".

 

وجاء في مادته الأولى:

"سورية جمهوريّة عربيّة ديمقراطيّة نيابيّة ذات سيادة تامّة".

فيما جاء في مادته الثالثة:

"دين رئيس الجمهورية الإسلام."

الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع.

حرية الاعتقاد مصونة. والدولة تحترم جميع الأديان السماوية. وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها على أن لا يخلّ ذلك بالنظام العام.

الأحوال الشخصيّة للطوائف الدينية مصونة ومرعيّة".

هذا الدستور شهد عند إعداده جدلاً صريحاً حول مادته الثالثة.. يمكن أن نرى من خلاله الحدود الواسعة لحريّة الفكر والنقد والتعبير التي كانت سائدة يومها. 

 

ويومها عند مناقشة الدستور اعترض النائب المسيحي الياس دمر على إدراج فقرات تتعلّق بإسلاميّة دين رئيس الدولة فقال في مداخلته حول إدراج مادّة دستوريّة تتعلّق بدين رئيس الجمهورية ووجوب كونه مسلماً: "... أفلا ترون ذلك شذوذاً ومخالفة لأبسط قواعد الديمقراطيّة التي سار عليها العالم المتمدّن، هل يجوز حرمان المواطنين غير المسلمين من حقّ شرعي باعتبارهم مواطنين سوريّين عرباً، عليهم نفس الواجبات المترتّبة على المسلمين ولهم نفس الحقوق؟ ألا ترون أنّ ذلك يتعارض مع مبادئ الديمقراطيّة العربية الصحيحة التي هي مبدأ المساواة لأصحاب القوميّة الواحدة؟ فإنّ عدم تقييد الدولة ورئيسها بدين معيّن يفسح المجال أمام الكفاءات التي هي مقوّمات الرجل لا دينه، هذا مع العلم أنّ وجود مادة في الدستور أو عبارة مصبوغة بصبغة دينية أو بأيّ قيد آخر من هذا النوع تترك أثراً نفسيّاً غير مستحبّ في كلّ روح عربي غير مسلم، إذ يشعر هذا غير المسلم العربي الذي يمكن أن يكون مثالاً على الإخلاص والتضحية والوطنية، والذي يجاهد جنباً إلى جنب مع أخيه المسلم بأنّه غريب في وطنه، ولا يتمتع بنفس الحقوق التي لأخيه المسلم شريكه بالجهاد والتضحية، لا لسبب إلّا لأنّ دينه يختلف عن دين أخيه».

 

وفي ردّه على مداخلة النائب إلياس دمر، قال الشيخ مصطفى السباعي مؤسّس حركة الإخوان المسلمين في سوريا: «أمّا الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة بحجة الحفاظ على قوميّة الأمّة فاسمحوا لي أن أقول إنّ هذه هي الفكرة التي هبطت من وحي أجنبي. لأنّ ذلك مبدأ أعلنته أوروبا بعد أن تغلّبت القوميّة على الكنيسة وانتصرت عليها، ولأنّ المسيحية دين خلق كريم وروحانيّة سامية ولا علاقة لها بالتشريع وتنظيم شؤون المجتمع، وقد أعلن ذلك السيد المسيح بقوله (أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله)، أمّا الإسلام فهو عبادة وخلق وتشريع، والتشريع أبرز خصائصه وأكثر أحكامه، والذين يدعون إلى فصل الدين عن الدولة إنّما يدعوننا في الواقع إلى أن نبتر الإسلام ونحصره في دائرة ضيقة، فهل هذا هو ما تريدون؟ وهل تطلبون منّا ذلك وأنتم في بلد تدين أكثريته الساحقة بهذا الإسلام وتحترم تشريعه احتراماً عميقاً وبالغاً؟».

 

وللمزيد من التفاصيل حول هذه المسألة يمكن الرجوع إلى دراسة بعنوان "الدين والدولة بين التيارات الليبرالية والمحافظة السورية: قراءة في ثلاثة دساتير سورية 1920-1950-1973" المنشورة على موقع "مركز عمران للدراسات الإستراتيجية" بتاريخ 2 تشرين 2020، وإلى تقرير"الدساتير المتعاقبة في سورية.. تحليل ومقارنة" المنشور على موقع "مركز إدراك للدراسات والاستشارات" بتاريخ 1 آب 2017.

 

تلك الدولة، أيّ دولة ما بعد الاستقلال في سوريا، لم تكن تطبّق الحدود كقطع يد السارق، ولم تفكّر بإدخال عقوبات الحدود، ولم تكفّر الشيوعي وتطارده، بل تركته يعمل بحريّة في كافة المجالات وضمنت له ولسواه حقوقاً متساوية، وأعطته الفرصة حتّى للوصول إلى البرلمان كما حدث مع خالد بكداش، ولم يكن لديها مانع من أن يكون أول رئيس وزارء لها مسيحيّاً كما فعلت مع فارس الخوري، وكانت بأصوات المسلمين أنفسهم توصل المسيحيّين إلى البرلمان.

 

واليوم يمكننا أن نستلهم هذه التجربة.. ونتعامل معها بعقلانيّة ناقدة، فنستفيد من حسناتها ونطوّرها بما يتناسب مع واقعنا الراهن، ونستجلي عثراتها.. فلا نقع فيها مجدّداً، هذا بالطبع إضافة إلى مواصلة الاجتهاد العقلاني الواقعي والاستفادة من تجارب الآخرين على المستوى العالمي ممّن سبقونا في ميداني هندسة الدولة وبناء المجتمع.

 

خلاصة:

 

بناء على ما تقدّم يمكن القول أنّه علينا اليوم أن نكون واقعيّين وعقلانيّين بنفس الوقت والقدر، وأن نتعامل مع الواقع كواقع وفق منظور إنساني تطوّري عقلاني لا يتأطّر بالإيديولوجيّات الضيّقة والشعارات السطحيّة أيّاً كان انتماءها، وسواء كانت ليبرالية أو إسلامية أو قومية أو يسارية أو غير ذلك، ولذا يجب أخذ فكرة "الدولة المدنية" على محلّ الجد الكافي.. والتعامل معها بانفتاح ونزاهة، وبالتركيز على جوهريّة ولا مشروطيّة الديمقراطية فيها، فهي يمكنها أن تكون أحد مفاتيح الحل الرئيسة.. لفتح الأبواب نحو مستقبل سوري سليم، يخطّ عندها بنفسه وبحريّة خيارات تطوره اللاحقة وفق ما لديه من معطيات ومقوّمات إلى ما هو أفضل، دون أيّة تحديدات مسبقة أو إملاءات فوقيّة من أيّ طرف كان.

 

وبفهم العلمانيّة كعقلانيّة واقعية إنسانية، والتركيز على الديمقراطية اللا مشروطة في الدولة المدنية، تصبح موافقة العلمانيين على مشروع الدولة المدنية لا تخليّاً ولا ابتعاداً عن العلمانية.. بل تطبيقاً علمانيّاً فعليّاً للعلمانيّة، وتصبح هذه الدولة المدنية فيما لو التزمت بهذا المعيار ليس بديلاً للعلمانيّة، وإنّما خطوة كبيرة في طريق العلمنة.

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard