info@suwar-magazine.org

أيديولوجيا السلطة ويوتوبيا المعارضة والشعب الذي لا يريد

أيديولوجيا السلطة ويوتوبيا المعارضة والشعب الذي لا يريد
Whatsapp
Facebook Share

 

 

لم يكن من الجائز في الفكر النظري المقاربة بين مفهومي الأيديولوجيا واليوتوبيا مختلفي النشأة في الزمن والاختصاص قبل محاولتي كارل مانهايم، ومن بعده بول ريكور الجمعَ بينهما ومناقشتهما في إطار مفهومي واحد.

 

ولم يكن من الجائز لدى الكثير من المثقفين والمشتغلين بالثقافة والسياسة من السوريين قبل تفجُّر الثورات الشبابية في ربيع العام 2011، المقاربة بين أيديولوجيّات أحزاب السلطة، ويوتوبيّات أحزاب المعارضة السوريّة المنشقّة عنها، والمشتركة معها بالأيديولوجيا، والأهداف وحتّى بالاسم في غالب الأحيان كما يجمع بينهما اليوم المزاج الشعبي الساخط في ظلّ ما آلت إليه أحوال البلاد والعباد. ففي حين كانت أيّ محاولة نقديّة لتلك التجارب السياسية ودورها أو غياب دورها في مجريات الأحداث الجارية في السنوات العشر الأخيرة تتوخّى عدم الجمع والتعميم، ولو من قبيل الحذر الأخلاقي من مساواة الضحيّة بالجلّاد تارة، أو من قبيل الاحترام لشخصيّات كوادر تلك الأحزاب وتجاربهم النضاليّة المريرة في مواجهة القمع والعسف والسجون والمعتقلات والمنافي القسريّة تارة أخرى، ولأنّ معظمها لم يتح لها أن تمارس السياسة قبل هذا المنعطف إلّا في الغرف المغلقة، ولم تعبّر عن مواقفها السياسيّة وأدبياتها إلّا من خلال المنشورات المتداولة سرّاً في ظلّ احتكار السلطة الدكتاتوريّة وحزبها الواحد للمجال العام وتغوّل أجهزتها الأمنيّة على كلّ مفاصل الدولة والمجتمع.

 

لكن من مآثر الثورات الشبابيّة التي استفادت من تطوّر التكنولوجيا الحديثة في الإعلام والاتصالات، ووسائل التواصل الاجتماعي في كسر احتكار السلطة للمجال السياسي العام أن شجّعت وأتاحت الفرصة لتلك الأحزاب للخروج إلى العلن وطرح رؤاها ومشاريعها الوطنيّة إن وُجِدت على الملأ، فكشفت في الوقت نفسه عن حجم الارتباك والتشوّش في رؤاها السياسية، وحجم القصور في أجهزتها المفهوميّة التقليديّة عن فهم الأحداث الجارية من حولها ومجاراتها، وعن حجم الخواء في يوتوبيّاتها التي لم تحمل في طيّاتها أيّ مشروع وطني حقيقي أبعد من غايتها في الوصول إلى السلطة، وأنّ يوتوبيّات تلك الأحزاب ليست أقلّ زيفاً ووهماً من أيديولوجيا أحزاب السلطة. فالأيديولوجيا واليوتوبيا كلتاهما تعكسان ظلال الواقع وظلال المعرفة عن وعي أو عن نفع في لحظة ما وخاصّة عندما يكون المستقبل الذي تصبو إليه جماعة ما هو صورة عن ماضيها، وهو حال جميع الأحزاب العقائديّة، وإلّا لعملت يوتوبيا المعارضة كحد على أيديولوجيا السلطة يكشف زيفها وتظليلها، ويقدّم رؤية مختلفة تتجسّد في مشروع وطني جامع يلَحّ الطلبُ عليه في اللحظات الثوريّة الحرجة وتعزّزه الإرادة الشعبيّة المتحفّزة.

 

 

وإذا كان للحالة السوريّة بعض الاستثناءات والخصوصيّة بحكم العنف الدموي وحرب التدمير الذاتي التي قادتها السلطة وانحدر إليها الجميع، وملابسات الدور الإقليمي والدولي فيها والتي تفرض التأني في الحكم على مآل هذه الأيديولوجيّات العقائديّة قليلاً، فحَسْبَنا أن ننظر في الحالة المصريّة من قبل وفي الحالة التونسيّة ونتائج الانتخابات المغربيّة، ونسب المشاركة الشعبيّة فيها، وعدد الأصوات التي حصدتها الأحزاب العقائديّة والإسلامية منها بشكل خاص ومستوى انحدارها السريع بعد دورة انتخابية واحدة أو دورتين على الأكثر تمكّن الشعب فيهما من قول ما يريده في مناخ مقبول من الحريّة والشفافيّة والنزاهة.

 

لقد قالت ثورات الحريّة والكرامة ذاتها في الأمس قولاً فصيحاً: إنّ الإنسان كائن يشعر بالكرامة وإنّ الشعب يريد، واستطاع الشعب أن يستعيد شيئاً من إرادته المسلوبة رغم ما جُوبَه به من قمع وعنف دموي وتهديم وتهجير، وكانت هذه الإرادة الرافضة لما هو قائم في الواقع الذي ثارت عليه مفتوحة على قبول ودعم كلّ ما هو أفضل بدون تحديد، وكانت بحاجة إلى يوتوبيا جامعة توحّدها وقوىً سياسيّة ومنظّمات وأُطر مدنيّة ونقابيّة، ومؤسّسات حقوقيّة تجسّدها وتعطي مساحة أمان كافية للكتلة الشعبيّة التي ظلت صامتة أو تائهة كي تخرج من حالة العطالة إلى حالة المشاركة والفعل، لكن ويا للأسف لم يكن ذلك موجوداً لا في مؤسسات السلطة التي كانت قد أحكمت قبضتها الأمنيّة على كل المؤسّسات، وحوّلتها إلى منظّمات رديفة للحزب الحاكم بوقت مبكّر، ولا في الأطر الصوريّة للمعارضة. فما كان من الشعب المخذول إلّا أن يتخلّى عن إرادته من جديد إلى سلطات الأمر الواقع من أيّ جهة كانت، سواء في المواقع التي بقيت تحت سيطرة السلطة، ومليشياتها المسلحة أو التي صارت تحت سيطرة المعارضة وفصائلها المسلحة والمليشيات المحسوبة عليها هي الأخرى، وعاد اليوم من جديد إلى شعب لا يريد. فمن أراد أن يبني مستقبلاً أفضل لأبنائه في وطن يحميهم ويمتلكون حقّ حمايته بالأمس بات اليوم يبحث عن طريق للهجرة نحو الإنسانيّة، وإن كان الأمل في الوصول ضئيلاً.

 

ولم يعد لدى الشباب السوري اليوم ثقة بالتنظيمات السياسيّة سواء أكانت في السلطة أم في المعارضة، وجيل الشباب اليوم أكثر إحجاماً عن الانخراط في العمل السياسي من ذي قبل، ولم يعد لديهم ثقة بالعالم، ولا ثقة بالمستقبل، ولم يعد لديهم ما يربطهم بوطنهم غير روابط ما قبل الدولة روابط الملّة والطائفة والعشيرة والعائلة التي تزيد التحاجُز والانغلاق، وتغذّي كلّ مظاهر العنف والتطرف. ولكن يبقى السؤال المطروح هو ما هي اليوتوبيا التي تحملها الأحزاب العقائديّة سواء أكانت في السلطة أم في المعارضة ومن المفترض أن تحوّلها إلى مشروع وطني جامع للشباب السوري؟ هل هي بعث الأمّة العربيّة وإحياء رسالتها الخالدة؟ أم الدولة القوميّة الواحدة أم الدولة الاشتراكيّة العادلة أم دولة الخلافة أم الدولة السلطانيّة أم دولة الولي الفقيه الدينيّة؟

 

إن يوتوبيات الأحزاب العقائديّة وأحلامها السياسيّة لم تعد موجودة إلا في رؤوس أصحابها ومنظّريها، والواقع الحقيقي قد تجاوزها منذ زمن طويل، وعلى تلك الأحزاب أن تمتلك جرأة النقد والمراجعة المُكلِفة وتقبّل منطق العقل والتاريخ. فمستقبل سوريا إذا كان ثمة مستقبل حقيقيّ ممكن قد يكون مرهوناً بالتجاوز الجدلي لتلك المنظومات العقائديّة وإتاحة الفرصة لقيام تشكيلات سياسيّة ومدنيّة حديثة على أسس تنظيميّة مبتكرة وأيدلوجيا سياسيّة تؤمن بالتعدديّة والديمقراطيّة، والحق بالمشاركة السياسية الحرة، وتتوافق مع منطق العقل والتاريخ وروح العصر. فنحن كسوريّين نحتاج اليوم إلى أيّ إنجاز وطني يوحّدنا أكثر من أيّ وقت مضى، وقد سبق للزعيم الجنوب إفريقي مانديلا أن استشعر حاجة شعبه الذي كان يعاني التمزّق لمثل هذا الإنجاز فراهن على فوز فريق بلاده في رياضة "الركبي" ليحقّقه ويرقص السود والبيض في حلقة واحدة في كلّ شارع ممتلئين بالفرح.

 

لكن مِن المعقول أن يفكّر أحد السياسيّين أن الشعب السوري ينتظر نتائج مداولات اللجنة الدستورية المعوَّقة في جنيف التي تختلف وفودها على كلّ شيء وتتفق على وحدة سوريا أرضاً وشعباً، العبارة المقصود منها رفض قيام حكم ذاتي كردي في شمال شرق سوريا ليس إلّا، أو يتابع أخبارها ويقيم وزناً لها، أو يقتنع بأنّ الحوافز المقدّمة إلى السلطة السوريّة من دول الخليج ومن خلفها الجامعة العربيّة وبالتفاهم مع الأميركيان والروس للحدّ من النفوذ الإيراني في سوريا ستشعر أيّ من السوريين بأنّ هناك من سيساعده في إعادة إعمار بيته المهدّم الذي بات يحتاج إلى راتب موظّف سوري من الفئة الأولى لأربعين عاماً أو أكثر دون أن يتصرّف بقرش منها؟ وبعد ذلك فهل في أيديولوجيا السلطة أو في يوتوبيا المعارضة ما يوحّد السوريين أو ما يريده الشعب؟

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard