info@suwar-magazine.org

تهافت نظرية المؤامرة

تهافت نظرية المؤامرة
Whatsapp
Facebook Share

 

 مقدمة:

 

في عالمنا العربي الراهن هناك فيض من الأحاديث عن المؤامرة، وباستقرائنا للواقع العربي الراهن، نجد أنّ أكثرية الأطراف المتنازعة والمتخاصمة يتّهم كلّ منهم خصومه بأنّهم عملاء أو أجناد للمؤامرة! وجلّ من لا يريد أن يعترف بأغلاطه أو أخطائه أو نواقصه أو عيوبه أو مقترفاته، ينسبها أيضاً إلى المؤامرة! ومعظم من لا يعجبه توجهٌ أو نهجٌ في هذا العالم أو يتناقض مع نهجه أو توجهه أيضاً يصمه بالمؤامرة! وفي خضم حراك الربيع العربي الذي شهدته المنطقة العربية مؤخّراً مثلاً، استخدمت فكرة المؤامرة على أوسع نطقها من قبل الأطراف المتنازعة أو المتنافسة، فاتهمت الديكتاتوريات العربيّة الحاكمة الثوار الذين ثاروا عليها بأنّهم ينفّذون مؤامرة عالمية تستهدف هؤلاء الحكام وبلدانهم، وبدورهم اتهم الكثير من الثائرين على هؤلاء الحكام أنفسهم بأنّهم موجودون في عروشهم نتيجة مؤامرة دولية تتحكّم بالمنطقة وتستغلّها بواسطتهم، وفي التنافس بين المشروعين العلماني والإسلامي، كثرت الأصوات العلمانية التي تتّهم الإسلاميين بالعمالة والتبعيّة للمؤامرة الأجنبية، التي تريد للمنطقة العربية أن تبقى غارقة في الجهل والتخلّف والغيبية والشرذمة والتعصّب، وبالمقابل ردّ الإسلاميون بأنّ كلّ المشاريع غير الإسلامية، بما فيها العلمانية والديمقراطية والاشتراكية والليبرالية والقومية والوطنية، هي مؤامرات غربية ضدّ الإسلام والمسلمين.

 

وفي صفوف القائلين بالمؤامرة عربيّاً، وهي صفوف غفيرة الأعداد، وعالية الأبواق، نجد عناصر من توجهات وانتماءات ومذاهب شتى، فنجد بينهم اليساري واليميني، العلماني والإسلامي، العروبي وغير العروبي، المتحزّب وغير المتحزّب، المسلم والمسيحي، المؤمن وغير المؤمن، الشخص العاميّ والمتعلم، وهلمّ جرى...

 

وفي هذا التعدّد والاختلاف الكبيرين بين القائلين بالمؤامرة، نجد أيضاً أشكالاً وألواناً ومقاسات عديدة تأخذها هذه المؤامرة وفقاً لهوية أو ذهنية أو مصلحة القائل بهذه المؤامرة، وفي المحصلة تمتدّ هذه المؤامرة من أصغر الأمور كقصات وتسريحات الشعر عند الفتيان والفتيات، إلى أكبر وأعظم الأمور كالثورات الكبرى في التاريخ الحديث والتغيرات العظمى التي حدثت فيه على غرار العلمانية والليبرالية والاشتراكية، ما يجعل عندها كل التطور الحديث نتاجا من نتاجات هذه المؤامرة، التي تتضخم وتعظم هنا لتصبح المتحكم بالواقع والحاضر والتاريخ، من أصغر إلى أكبر تفاصليه ومستوياته.

 

هذا المسعى لتفسير حركة وتغيرات ومجريات الواقع عبر نسبها إلى متآمر عالمي، تتزعمه عادة بنظر الذين يفسرون الأمور بهذا الشكل الماسونية المتحدة مع الإمبريالية والصهيونية، يطلق عليه اصطلاحاً تسمية "نظرية المؤامرة".

وفي مقالنا هذا سنبيّن مدى هشاشة هذه المسعى، وكم هي واهية الأسس التي يقوم عليها.

 

1- ماذا تعني نظرية المؤامرة؟

 

"نظرية المؤامرة" ( Theory of Conspiracy) هو اصطلاح يطلق على استعمال فكرة المؤامرة لتفسير ظواهر عالمية أو أحداث كبرى في التاريخ البشري، كالقول بأنّ الديمقراطية والعلمانية والاشتراكية والليبرالية وما يشبهها من قضايا وظواهر عالمية هي أيضاً منتجات تآمرية، وأن أحداثاً وتغيّرات كبرى في التاريخ الحديث كالثورة الفرنسية والثورة الروسية هي مؤامرات أيضاً، وهلمّ جرّى، وغالباً ما تنسب كلّ هذه المؤامرات وأمثالها إلى الماسونية كليّاً، أو إليها وإلى حلفائها المرتبطين بها ارتباطاً وثيقاً كالصهيونية والإمبريالية.

 

كما ويسمى هذا التوجه أيضاً بـ "المؤامراتية" ( conspiracism)؛ ومن المهم جداً التركيز على أنّ مصطلح "نظرية المؤامرة" لا يعني قطعاً قول مستخدميه بأنّ "المؤامرة هي نظرية وليست حقيقة"، ونفي وجودها بالتالي من مسرح التاريخ، كما يتوهّم المؤامرتيون الذين يستفزهم بشكل محموم هذا المصطلح، فيرفضونه بشدة ويسارعون إلى وصف مستخدميه بالسذاجة، ظنّاً منهم أنّ هؤلاء ينفون وجود المؤامرة، مع أنّ مستخدمي هذا المصطلح لا ينكرون قطعاً وجود المؤامرة كعنصر مؤثر من عناصر التاريخ، ولكنّه ككلّ التاريخ خاضع بدوره لقانونيات وحركة التاريخ وليس صانعاً أو محركاً لحركة التاريخ، فالمؤامرة لا يمكنها أن تصنع ظاهرة تاريخية كالديمقراطية مثلاً إلّا أنّها يمكنها مثلاً أن تصنع حدثاً مُدبّراً كاستيلاء الصهاينة على فلسطين، ولكنّها حتى هنا تبقى مرتبطة جذرياً بالظروف الموضوعية القائمة، ولا يمكنها قطعاً أن تكون فعلاً إراديّاً تامّاً، وهي دائمة خاضعة لقانون العلاقة بين الفاعليّة والقابلية، الذي ينص على أنّه "لا يفعل الفاعل إلّا ضمن قابلية القابل".

 

إذاً مصطلح "نظرية المؤامرة" لا يرتبط قطعا بـ "تنظير المؤامرة" ونفيها والقول أنّها مجرد تنظير، ولكنّه يطلق على سعي المؤامرتيين لتفسير التاريخ بالمؤامرة ووضع المؤامرة في وضع محرك التاريخ، وذاك يعني أنّ اﻷمر لا يدور حول وجود المؤامرة في التاريخ، بل حول علاقتها بالتاريخ وموقعها ودورها فيه.

 

ولتبسيط فهم ما يعنيه المصطلح على أذهان المؤامراتيين الذين تحتاج أذهانهم بكلّ تأكيد إلى الكثير من التبسيط، يمكننا من قبيل التبسيط التسهيلي لا أكثر القول أن من يستعمل مصطلح "نظرية المؤامرة" لا يقصد أن "المؤامرة نظرية" كما لا يعني استعمال مصطلح "نظرية التطور" أن "التطور نظرية"، وبالطبع فالمصطلحان لا ينتميان إلى نفس النوعية من اللغة الاصطلاحية، والقصد هنا هو فقط الإيضاح بمثال من النوع العمومي البعيد عن الخصوصيات والتفاصيل!

 

2- إشكالية المصلح والبدائل الممكنة:

 

بالطبع بالمعنى العلمي لمصطلح "نظرية"، لا يمكن القول أن نظرية المؤامرة هي نظرية فعلية، فبالمعنى العلمي، النظرية هي أطروحة مراتبطة منطقيا تقوم على معطيات موضوعية متكاملة ومنظمة يتم فيها طرح تفسير محكم لظاهرة موضوعية معينة، كنظرية ثنائية طبيعة الضوء الموجية- الجسمية في الفيزياء أو نظرية التطور في علم اﻷحياء أو نظرية الذكاءات المتعددة في علم النفس، وهلمّ جرّى..

 

أمّا نظرية المؤامرة، فهي تفتقد إلى مثل هذه الحبكة المتماسكة التي يتمّ فيها الربط بشكل منطقي بين عناصر الطرح، وتقديم تفسير يقوم على أساس عقلاني متين للعلاقة بين المؤامرة والتاريخ.

 

ففي التفسير المؤامراتي لظواهر وأحداث التاريخ يتم الربط بين المؤامرة وكل من الظواهر واﻷحداث بشكل سطحي واجتزائي، وتكثر فيه التصورات والتعميمات الاعتباطية، يتم فيه غالبا الاعتماد على معلومات غير موثوقة أو غير موثّقة، وعادة ما يؤخذ الحدث أو الظاهرة بشكل مقتطع منفصل عن سياقه التاريخي، وكأنّه أمر لا علاقة بينه وبين واقعه، ويصاغ له سيناريو مؤامراتي ساذج ويخرج كمؤامرة، وفي المحصّلة يصبح التاريخ عملية عشوائية اعتباطية ليس فيها أيّة قانونيات أو عوامل موضوعية فاعلة، والواقع الاجتماعي فيها مجرد طينة مستلبة يستطيع كل فاعل تآمري أن يقولبها كما يشاء إن امتلك القوة، والقوة هنا هي شرط لازم رئيس.

 

مع ذلك فشرط امتلاك مثل هذه القوة من قبل المتآمر ينفي صفة الاستلاب عن الواقع الاجتماعي ويعني أنّ هذا الواقع لديه أيضاً قوّته الخاصّة، التي تفرض على المتآمر أن يمتلك بدوره القوّة الكافية المناسبة للتعامل معها، وهذا يعيدنا إلى جدلية الفاعل والقابل، والاعتراف بموضوعية وقانونية القابلية فمثلاً أمهر طبّاخ في العالم والتاريخ لا يستطيع أن يصنع من الزيت جبناً أو من العنب خبزاً!

 

بهذا الشكل من التصرف تصبح المؤامراتية ضرباً من السلوك الديماغوجي، كالاستجابة للشائعات، وهذا ما يضعها في موضع جدّ بعيد عن ميدان النظريات الحقيقي وتصبح تسميتها بالنظرية تسمية من قبيل المجاز لا أكثر، والأجدى تسميتها بـ "أزعومة المؤامرة"، والأفضل استخدام مصطلح "مؤامراتية" للدلالة عليها، أي على السعي لتفسير التاريخ بناء على المؤامرة!

 

3- التناقض مع العلم:

 

مسألة وجود قوانين اجتماعية تصنع وتحدد حركة التاريخ أصبحت اليوم مسألة محسومة في الفلسفة الحديثة والعلوم الإنسانية، كعلم التاريخ والاجتماع والإناسة وعلم اﻷديان وسواها، ولم تعد موضع جدل بل أصبحت من المقولات الثابتة في هذه الميادين، ومثل ذلك هو حال مسالة التطور الاجتماعي.

 

في العلوم الإنسانية مثلاً تعتبر مرحلة المشاعية البدائية اﻷولى مرحلة طبيعية كما تعتبر كذلك تماماً مرحلة العبودية، فالعبودية التي كانت سائدة على نطاقات جدّ واسعة في قارات العالم وامتدّت على مدى أزمنة طويلة، هي حالة اجتماعية نشأت نتيجة التحرّك الطبيعي للمجتمعات البدائية اﻷولى وهي لم تنشأ بفعل مجموعة من المتآمرين خططوا للعبودية في زمان ما ومكان ما ثمّ فرضوها فيه وبعد ذلك عمموها في العالم، كما أنّها لم تظهر بشكل عرضي أو اعتباطي أو بالصدفة، بل ظهرت بفعل الحركة الاجتماعية المقنّنة ضمن الظروف والمعطيات الواقعية لعصرها، والدليل على ذلك هو انتشارها في مجتمعات مختلفة شديدة التباعد في الزمان والمكان والهوية.

 

والكلام نفسه يقال عن المرحلة الإقطاعية والبرجوازية وظهور الدين والدولة، والتطور الحديث الذي أدّى إلى ظهور الديمقراطية والاشتراكية والعلمانية والليبرالية والنسوية، وما يشبهها وسواها من مجالات وأشكال التطور الاجتماعي.

والأمر يمكن توضحيه أكثر بالمثال التالي:

 

لا أحد يمكنه أن ينكر أنّ تدهور اﻷوضاع المعيشية في مجتمع ما يؤدي إلى تردي الأخلاق وانتشار الجريمة فيه، هذه حقيقة اجتماعية أو قانون اجتماعي، وانتشار الجريمة في مجتمع تتدهور فيه المعيشة هو نتيجة حتمية لتدهور المعيشة، وتفسيره في حال حدوثه في مثل هذا الظرف لا يحتاج إلى افتراض وجود قوّة متآمرة خبيثة تستهدف أخلاق وأمن واستقرار هذا المجتمع، وطرح تفسير كهذا يتجاهل العلاقة الواضحة بين تدهور المعيشة وانتشار الجريمة لا يقوم به إلا ذهن منفصم عن الواقع ومتخارج مع العقلانية!

 

وهكذا ففي الوقت الذي يزعم فيه المؤامراتيون أن العلمانية والاشتراكية مثلاً هما منتجات خبيثة من إنتاج المؤامرة الماسونية، فالفكر العقلاني والفلسفة الحديثة والعلوم الإنسانية، وهذه اﻷطراف الثلاثة مترابطة جدليّاً ومتضافرة، ترى كلّاً من العلمانية والاشتراكية ببساطة نتيجة حتمية من نتائج حركة النهضة الحديثة التي حدثت في الغرب وأدت بدورها إلى تطورات جذرية عظيمة فيه، وهذه النهضة تعتبر عقلانيّاً وعلميّاً حركة اجتماعية محتّمة الحدوث في الظروف الاجتماعية التي كانت مجتمعاتها تقع فيها آن حدوثها، أي أنّ هذه النهضة ونتائجها الكبرى لم تتم لا بخطة مدبرة ولا هي حدثت بالصدفة، ولكنّها كانت ومازالت حتميّة من حتميّات التاريخ أو الحركة التاريخية.

 

فماذا سيقول المؤامراتيون ردّاً على ذلك؟

 

هل سينكرون علمية العلوم الإنسانية ويعتبرونها بدورها منتجات ماسونية تآمرية خبيثة؟

 

 لهم ذلك، ولكنهم بذلك يكونون قد أدانوا وأسقطوا "نظرية مؤامرتهم" بأنفسهم، ﻷنّهم وضعوا أنفسهم في موقع الضدّية والتناقض من ومع العلم!

 

أم هل سيقولون أنّ كلّ ذلك الكم الكبير من العلماء واﻷكاديميين والمختصين في العلوم الإنسانية والفلاسفة والمفكرين الحديثين الذين يعتمدون على العقل العقلاني العلمي الحديث والعلوم الإنسانية وغير الإنسانية الحديثة، هم أتباع أو أجناد للمؤامرة الماسونية؟

 

هذا أيضاً تناقض وتضاد أقصيين مع العلم، وبالتالي مع العقل!

 

وعلاوة على ذلك، فهو يدفعنا بقوة لسؤالهم لماذا علينا أن نصدقهم، وما هي الحج التي يقيمون عليها زعمهم؟! وهل يبقى لأيّة حجج تتناقض تماماً مع العقل والعلم أيّة قيمة؟!

 

4- التناقض المنطقي في أزعومة المؤامرة:

 

في الوقت الذي تدور وتتركز أزعومة المؤامرة غالباً وبشكل رئيس على الماسونية التي تهيمن على الغرب الحديث وتتحكم بالتاريخ الحديث، نجد أنّ نظرية المؤامرة الماسونية نفسها نشأت في الغرب نفسه ومنه وفدت إلينا!

 

وانتشرت لدينا في مجتمعاتنا التي يتفشّى فيها الجهل واﻷميّة والإيمان بالخرافات والعجائب، ويتدنى فيها إلى حد خطير مستوى ونطاق التفكير المنطقي والعلمي، وتسود فيها كافة أشكال القمع والفساد!

 

والمؤامراتيون العرب الذين يكثر اليوم صراخهم، أخذوا تلك الفكرة من الغرب وأعادوا قولبتها بأشكال مختلفة تتوافق مع توجهات كل منهم، وفي أغلب الأحيان تتناقض هذه اﻷشكال بين بعضها البعض في الكثير من اﻷمور الرئيسة، فمثلاً إذا كان المؤامراتي إسلامياً فهو سيقبل بسرور فكرة أن الشيوعية الملحدة هي منتج ماسوني خبيث، وسيقبل أيضاً أن الاتحاد السوفييتي أنشأته الماسونية عندما احتاجت إليه وأسقطته عندما انتهت حاجتها إلى وجوده وصارت هذه الحاجة تقتضي زواله، أمّا إذا كان المؤامراتي يسارياً فهو لن يقبل قطعاً بالقول أن الماسونية هي من أنتجت الشيوعية وسيرفضها بأقصى قوة بل سيقف الموقف نفسه من زعم إنشاء الماسونية للاتحاد السوفييتي، ولكنّه بدوره سيرحب بزعم سقوط الاتحاد السوفييتي بمؤامرة إمبريالية تلعب فيها الماسونية دوراً فاعلاً، كما سيقبل بطيب خاطر القول بأن الإسلام السياسي هو منتج تآمري تقف خلفه الإمبريالية والماسونية والصهيونية!

 

ومع ذلك فما يزال هؤلاء المؤامراتيون العرب، يستخدمون أزعومة المؤامرة الرئيسة التي نشأت في الغرب وجاءت منه في وقت كانت الماسونية تهيمن فيه على هذا الغرب وتتحكم بمنتجاته، وفقاً لما تقوله هذه الأزعومة نفسها!

 

وإضافة إلى ذلك فهؤلاء المؤامراتيون اليوم ما يزالون أيضا يعتمدون فيما يطرحون على الغرب الخاضع حتى اليوم للماسونية وفق زعمهم، فجلّ مصادر معلوماتهم مصدره أيضاً ذاك الغرب الخاضع للماسونية، بزعمهم!

 

فإذا كانت أزعومة المؤامرة الماسونية المتناقضة مع العلم قد نشأت في الغرب المهيمَن عليه ماسونيّاً وفقاً لهذه الأزعومة نفسها، وأنصارها العرب ما يزالون يعتمدون في ما يقولونه عن المؤامرة الماسونية بشكل رئيس على من يقولون عنه أنّه غرب خاضع للماسونية، فهذا يقتضي حكما اعتبار أزعومة المؤامرة الماسونية هي نفسها منتج ماسوني بامتياز يروجه ضفادع المؤامرتية لتعظيم الماسونية وتصويرها بصورة القوّة الجبارة التي تتحكم بالعالم فتحبط بذلك عزيمة من يسعى لمواجة الماسونية، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية قد تكون الغاية شيطنة صور سبل التقدم العصرية كالعلمانية والاشتراكية وما يشبهها عبر وصمها بالعمالة للماسونية الشيطانية، وهذا يبعد الناس عنها.. بل ويجعلهم يكرونها ويرفضونها ويقفون ضدها وبذلك يبقون في حالة التخلّف التي تريدها الماسونية!

 

وهكذا نكون قد أنشأنا "نظرية مؤامرة مضادة"، تصبح فيها نظرية المؤامرة السابقة نفسها مؤامرة!

 

أليس ذلك ممكناً؟

 

كما نرى فأزعومة المؤامرة الماسونية هي نفسها، بموقعها المتناقض مع العلم والمغرق في العجائبية، يمكن بدرجة كبيرة اعتبارها شكلاً من أشكال الحرب النفسيّة التي تروجها الماسونية نفسها، إذا ما قبلنا بوجود مؤامرة ماسونية كما يقول المؤامراتيون!

 

وهنا يصبح لا مفر من الاعتراض بقوّة.. فلماذا علينا أن نقبل أزعومة ضد علمية كأزعومة المؤامرة الماسونية التاريخية العالمية، إذا صدقناها هي نفسها قادتنا للقول بأنها هي نفسها منتج ماسوني تآمري بامتياز؟!

 

هنا قد يحتجّ مؤامراتي بأنّ المؤامراتيون العرب لا يأخذون أفكارهم ومعلوماتهم من الغرب الخاضع للماسونية!

 

ولهذا المعترض سنقول أنّنا قبل أن نقبل بمقولة الغرب الخاضع للماسونية وماسونية الثقافة والاجتماع الغربيين التي يطرحها المؤامرتيون، فلدينا حقيقة مؤكّدة تماماً مفادها أنّه لدينا غرب متطور جداً علمياً وتكنولوجياً وصناعياً واقتصادياً وسياسياً، وهو متقدم على جبهات العلوم اﻷساسية والتكنولوجية والطبيعية والإنسانية، ولدينا شرق عربي متخلّف بامتياز على كافة تلك الصعد وتسود فيه الجهالة والغيبية وحطّة الثقافة والتعصّب والتطرف والقمع والفقر والتشرذم وما يشبهها من اﻵفات العديدة المختلفة!

 

وفي الوقت الذي يقول فيه الغرب العلمي المتقدم أن النظام الاجتماعي السياسي الثقافي الغربي هو نتيجة موضوعية للتطور التاريخي الذي بدأه الغرب منذ أكثر من خمسة قرون، والذي نجح وأصبح حقيقة واقعية تنشر فيها اليوم أفكار وأساليب الغرب في العالم المتقدّم ككل، كشرق آسيا أو السائر على طريق التقدّم كالهند والبرازيل وجنوب أفريقيا وسواها؛ يقال لنا في الشرق العربي الغارق في التخلف والجهل والفساد أنّ ما يقوله الغرب وما يتحدّث عنه الغرب كلاهما يندرجان في مؤامرة ذات أبعاد عالمية تاريخية تسيطر على الغرب وتتمركز فيه وتتخذه قاعدة للسيطرة على بقية العالم!

 

فمن نصدّق؟

 

والجواب هنا هو أنّه بما أن الطيور على أشكالها تقع، فأهل العقل والعلم سيتجهون إلى حيث العقل والعلم، أما أصحاب التخلف والجهل فسيتجهون إلى أمثالهم!

 

فماذا سيقول المؤامراتيون ردّاً على ذلك؟

 

هل سيقولون عن كلّ هذه الحجج الموضوعية والمنطقية الموجّهة ضدهه أنّها صادرة عن عقل خدّرته المؤامرة، أو دماغ غسلته هذه المؤامرة؟

 

5- سخافة غسل الدماغ:

 

من الشائع لدى المؤامرتين إن هم لم يصموا من يتبنى ويؤيد القضايا الكبيرة والعديدة التي يعتبرونها فصولاً من المؤامرة العالمية التاريخية بالعمالة لهذه المؤامرة، أن يصموه بأنّه مخدّر أو مغسول الدماغ من قبل هذه المؤامرة!

 

وفي الواقع هناك الكثير من المختصين العلميين في العلوم غير الإنسانية، كالعلوم الطبيعية والأساسية والتقنية ممن هم ليسوا فقط مقتنعين بصحة قضايا مثل الديمقراطية والعلمانية والاشتراكية، بل هم أيضاً ناشطون في ميادينها، فهل يجرؤ أحد أن يقول مثلاً أن العقل الذي يدرس ويفهم الرياضيات العليا، والفيزياء الحديثة وينجح فيهما هو عقل مغسول الدماغ؟

 

لا شكّ أن المغسول الدماغ هو من يقول مثل هذا الهذيان! فدراسة هذه المجالات العلمية الرفيعة والنجاح فيها يحتاجان إلى كفاءات عقلية مماثلة في رفعتها!

 

فهل تختفي مثل هذه الكفاءات عندما يدرس صاحب هذا العقل العلمي علماً إنسانياً أو طرحاً فلسفياً، فيصبح هنا ذهناً ساذجاً مستلباً، يمكن أن يقولبه المتآمرون ويحشونه بما يريدون؟

 

وكيف يفسر المؤامراتيون الاختيارات التي يقوم بها كبار العقلاء من النظريات والطروحات المختلفة، مثلاً كأن يقتنع عقل كبير من هؤلاء بالاشتراكية ويرفض الليبرالية الرأسمالية، أو بالعكس؟

 

ما يفعله المؤامرتيون في مثل هذه الحالة هو الزعم بأنّ كلّ النظريات السياسية المختلفة والمتنافسة.. والأنظمة السياسية شديدة الاختلاف والمتنازعة في كثير من اﻷحيان، كلّها فصول من نفس المؤامرة، وكأنّ المتآمرين قد حدّدوا كلّ الخيارات وأحكموا السيطرة عليها تماما، فإن اختار شخص الليبرالية الرأسمالية فهو في قبضة المؤامرة وهو مجند في مشاريعها، وإن اختار الاشتراكية أو اختار السوق الاجتماعية فاﻷمر لا يختلف، وهكذا دواليك!

 

وبالطبع، فالمؤامراتيون مثلهم مثل كل أصحاب الطروحات المختلفة مطالبون تماماً بتقديم إثبات ادعاءاتهم، والمبدأ الذي لا محيد عنه ولا بديل عنه في الفلسفة والمنطق والقضاء والفقه واللاهوت وغيرها من ميادين البحث أو الفكر أو الطرح هو أن البينة على من ادعى؛ وعدا عن ذلك، وهذا هو الأهم، إذا كانت المؤامرة كبيرة وقديرة إلى تلك الدرجة التي تتحكم فيها بكل تلك الخيارت المختلفة وحتى المتناقضة، فهل يعقل أن تكون "المؤامراتية" نفسها قد نجت من شراكها وأحابيلها؟ ولم لا نتهمهما ببساطة بأنّها بدورها من نتاج هذه المؤامرة؟ وهذا ما يمكن ببساطة الجزم به إذا قبلنا بمؤامرة بمثل تلك الأبعاد والطاقات المهولة، وبالأخص أن المؤامراتيين سيكونون أقزاماً علمياً وفكرياً وسياسياً إذا ما قارناهم بعمالقة العلم والفلسفة والفكر الذين يتهمهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، هؤلاء المؤامراتيون بأنهم بيادق في يد المؤامرة!

 

6-المؤامرة من منظور عقلاني:

 

بالتأكيد ليس من العقلاني إنكار وجود ودور المؤامرة في التاريخ البشري، فالتاريخ البشري حافل بالمؤامرات المختلفة الكبيرة والصغيرة.

 

لكن الاعتراف بوجود تأثير ودور المؤامرة في تاريخ البشر شيء، ووضعها في موقع السيطرة على هذا التاريخ وتحريكه وتسييره شيء آخر مختلف كليّاً!

 

من المنظور العقلاني يمكن للمؤامرة أن تصنع حدثاً، وهذا الحدث يمكن أن يكون جسيماً كبير اﻷثر، ولكن المؤامرة لا يمكنها أن تصنع تغييراً أو توقف تغييرا في التاريخ، وهي عندما تحدث، فهي تحدث قي السياق التاريخي وفي دائرة الخضوع للقانونيات التاريخية، وهذه القانونيات لا تصنعها المؤامرة بل تخضع لها أيّاً كانت هذه المؤامرة، وعدا عن ذلك فالمؤامرة لكي تنجح كحدث فلا يكفي وجود المتآمر والنية والتدبير التآمري، فهذا كلّه لا يمكن فصله عن وضع المتآمَر عليه والعلاقة بينه وبين المتآمِر والظروف المحيطة التي تتواجد فيها كلّ من هاتين العلاقة والمؤامرة، وهذا يعني أن المؤامرة هي عملية يجب أن تتكامل فيها العوامل الذاتية المتمثلة بفاعلية المتآمِر والعوامل الموضوعية المتمثلة بمناسبة الظروف التي تتمّ فيها المؤامرة لهذه المؤامرة!

 

إذاً يمكن القول أنّ المؤامرة هي عمليّاً عملية تدبير حدث لتحقيق غاية، وهي تحتاج إلى الظروف المناسبة ولا يمكنها قطعاً أن تتجاوز الشروط التاريخية!

 

وبشكل عام يمكن تشبيه المؤامرة في علاقتها مع التاريخ برحلة قارب عبر مجرى النهر، بحيث يشبه فيها الفعل التآمري بالرحلة، وحركة التاريخ بجريان النهر!

 

7- التحليل المنطقي للظواهر الواقعية الاجتماعية:

 

إن اقتطاع أي حدث أو أمر من سياقه الواقعي وإعطائه صفة ما أو تفسيراً ما، يشبه اقتطاع عبارة "ولا تقربوا الصلاة" من سياقها النصّي!

 

وهذا هو حال من يقول مثلاً بأنّ الديمقراطية هي منتج ماسوني، فإن اقتطعت الديمقراطية أو أيّة ظاهرة اجتماعية أخرى من سياقها التاريخي والاجتماعي، فيمكن عندها تأليف الكثير من السيناريوهات التصورية الجزافية بخصوصها! وعندها يمكن لهذا اﻷمر أن يعتبر مؤامرة ماسونية أو شيطانية أو واقواقية، وهلمّ جرّى!

 

أمّا عند التعامل مع أمر ما وفقاً للكليّة التي ينتمي إليها وما فيها من قانونيات وحيثيات وعوامل وجدليات فاﻷمر يصبح مختلفاً بشكل جذري، وحيث يمكن تفسير اﻷمر بناء على علاقته كجزء بالكل الذي ينتمي إليها تفسيراً محدّداً وقائماً على قوانين معينة، لا يعود عندها ثمّة أيّ مبرر بل ولا أي مكان للتفاسير اﻷخرى، أي حيث يمكن مثلاً تفسير ظاهرة كالديمقراطية بأنّها ظاهرة اجتماعية واقعية تفسيراً منطقياً علمياً محكماً، فعندها يسقط أي تفسير آخر كاعتبارها مؤامرة ماسونية مثلاً.

 

وهذا يعني أن المحلّل المنطقي عندما يقوم بتحليل ظاهرة كالديمقراطية، فهو لن ينطلق من أية فرضيات مسبقة، بل سيتعامل مع كل المعطيات الموضوعية التي ترتبط بالديمقراطية، وترتبط بها الديمقراطية، وعندما يقوم بذلك سيجد أنّ لها جذوراً عميقة في التاريخ تعود إلى ما قبل الميلاد بقرون، وسيجد أنّه من المنطقي تماماً أن تنشأ وتنمو ديمقراطيات حديثة مع النهضة الشاملة التي حدثت في أوروبا، وتطور فيها المجتمع تطورا يتناقض مع اﻷنظمة المتسلّطة المتخلفة السابقة.

 

8- هل يحتاج اﻷمر فعليّاً إلى مؤامرة؟

 

في اﻷزمنة القديمة كان القدماء ذوو العقول البسيطة والمعارف الضئيلة لا يقدرون على تفسير الظواهر الطبيعية، كالزلازل والبراكين والفيضانات وما شابه، لذا كانوا يعتقدون أنّها تحدث ﻷنّ اﻷرباب الذين يتحكمون بهذه العمليات غاضبون عليهم وينتقمون منهم!

 

اليوم بتنا تماماً نعرف كيف تحدث هذه اﻷمور، وأنّها تحدث تماماً بفعل وسبب عوامل طبيعية وتخضع لقانونيات طبيعية، وليس هناك أيّ أرباب يتحكمون بها، ويقومون بها وفقاّ لإراداتهم!

 

وفي ذهنية المؤامرة، رغم وقوع أصحابها في عصر العقل والعلم، ما يزال شيء مماثل يحدث حيث تفسر ظواهر اجتماعية واقعية تخضع لعوامل وقوانين اجتماعية تفسيرا يجعلها خاضعة لإرادات وقوى أرباب أرضيين، وباﻷصح رب واحد هو الماسونية!

 

وإذا ما تابعنا الحديث عن الديمقراطية، فماذا يمكن أن نقول؟

 

قبل قيام الديمقراطية في الغرب الحديث، كانت أنظمة الحكم الملكي المدعومة من قبل الكنيسة هي السائدة، وتحت نير هذه اﻷنظمة، التي عادة ما تسمى بعصور الظلام أو بظلمات القرون الوسطى، كان يستشري التخلف والبؤس والاستغلال والتسلط والتعصب، وكانت قلة من العائلات الحاكمة وحلفائها الإقطاعيين، تستأثر بالسلطة والثروة، فيما تعيش الشعوب حياتها البائسة محرومة مقموعة مهانة جاهلة، وكانت الكنيسة تبارك هؤلاء الحكام وتساندهم وتكفـّر معارضيهم، وبنفس الوقت كانت تضطهد معارضيها سواء كانوا لاهوتيين أو فلاسفة أو علماء أو سياسيين أو سوى ذلك!

 

فهل كان هذا الوضع هو الصحيح والسليم اجتماعياً الذي يجب أن يبقى ويستمر.. وربما يكبر؟!

 

هذا لا يقوله صاحب عقل وضمير حيين، فمن كان حي العقل والضمير يقول أنّ الظلام والظلم والفساد يجب أن تتوقف، ويجب أن ينتهي التسلط الملكي والتسلط الكنسي والاستغلال الطبقي، وسواها من المفاسد والمظالم!

 

وهكذا وﻷن الظلم والظلام لا يمكن أن يستمرا إلى اﻷبد، كان لا بد للحظة التغيير أن تأتي فانطلقت حركة النهضة وانطلق معها العقل والعلم والسعي إلى التغيير، وفي المحصلة بدأ التطور وكان من ثماره أن جاءت الديمقراطية ردّاً على تسلّط الملوك، والعلمانيّة ردّاً على تسلّط الكنيسة والاشتراكية ردّاً على تسلط الملّاكين، وهكذا كلّه منطقي وقانوني وطبيعي وعادل، فما الداعي لافتراض وجود متآمرين خرافيين.. وتجاهل حقائق الواقع؟

 

وهكذا، وبناء على ما تقدم، يمكننا القول أن العلمانية والاشتراكية والدفاع عن حقوق الإنسان والدفاع عن حقوق المرأة وما يشبهها من قضايا، هي نتائج محتمة لحركة اجتماعية متكاملة ينمو فيها العقل ويتطور وينمو فيه السعي إلى العدل ويتقدم، في ظروف يسود فيها الظلم بأشكاله المختلفة!

 

أما كلّ من لا يرى كلّ تلك المظالم والمفاسد، ويعتبر ردّات الفعل عليها مؤامرات شريرة خبيثة، فهو شخص ذو ذهن منفصم عن الواقع ومنفصل عن العقل والضمير الإنسانيين!

 

وقضايا مثل حقوق الإنسان والديمقراطية والعلمانية والاشتراكية والليبرالية وما يشبهها هي علاجات إنسانية حقيقية لآفات الاستبداد السلطوي والاستبداد الديني والاستغلال الطبقي وتغييب العقل ومحاصرة العلم ومصادرة الحريات وسواها من المظالم والمفاسد، وقائد هذه العملية العلاجية الإنسانية هو العقل الإنساني وغايتها هي العدل وسعادة الإنسان والخلاص من كلّ آفات الظلم والفساد والتخلف.

 

وهذا ما كان الحال عليه عندما بدأت النهضة الحديثة في الغرب الأوروبي، الذي ما يزال عليه هو بنفسه أن يقطع الأكثر في مسيرة نهضته وما هو عليه اﻵن في مناطق العالم الأخرى التي لم تتقدم في نهضتها أو لم تبدأها فعليّاً بعد، وما سيكون عليه في كلّ مكان يعاني من الظلم والفساد والتخلف إلى أن ينتهي الظلم والفساد والتخلف!

 

خلاصة:

 

 بناء على ما تقدّم نكون قد بيّنا مدى الهشاشة الفادحة التي تقوم عليها أزعومة المؤامرة، وأوضحنا تناقضها الصارخ مع العقلانية ومع العلم، بل وحتى مع نفسها أيضاً.

 

وبعد يبقى السؤال عن الغاية من كتابة ونشر مقال كهذا المقال؟

 

والجواب على هذا السؤال هو:

 

أولا: أنّ "نظرية المؤامرة" أو "خرافة المؤامرة" هذه، هي إحدى الآفات الفكرية والسياسية الخطيرة في مجتمعاتنا العربية الراهنة، وهي إحدى تجليات لا عققلانية ولا علمية التفكير السائدة اليوم في هذه المجتمعات، وهي كغيرها من هذه التجليات تحتاج إلى تسليط الضوء عليها، ومواجهتها على مستوى جذورها، وعلى مستوى ظهورها.

 

وثانياً: هذه الذهنية المؤامراتية لها خطورتها الكبيرة لأنّها تضلّل الناس فتجعلهم لا يبصرون حقائق وجواهر الأمور، ومكامن العلل الحقيقية وطرق الحلّ الصحيحة، فيركّزون بدلاً من ذلك على الأوهام والأباطيل ويتشبثون بها، وهذا الضلال قد يحدث بشكل عفوي، وقد يتمّ بشكل متعمد كتضليل من قبل أصحاب مصالح مغرضة داخليين أو خارجيين، ومن بينهم داخلياً الديكتاتوريات العربية وأعوانها المختلفون، ومن بين هؤلاء سدنة هياكل الغيب.

 

وثالثاً: كما هو الحال حيال أيّة قضية معتقدية هناك، بشكل عام، من هم ذوو إيمان أعمى ولا ينفع معهم أيّ خطاب أو جدال أو برهان، وهناك بالمقابل من هم في غنى عن ذلك لأنهم يدركون بأنفسهم بشكل جلي حقائق الأمور ولهم منها مواقف ثابتة، وهناك المتذبذبون الذي ليسوا في إيمانية عمياء ولا في رؤية واضحة وليس لديهم مواقف محددة ومستقرة بعد، وهؤلاء، وهم كثر، يحتاجون إلى توضيح الأمور وبيان الحقائق ليتمكنوا من حسم المواقف.

 

وختاماً، نعود فنذكّر بأنّ هذا المقال لا ينفي قطعاً وجود وخطورة المؤامرة، ولكنه بالضبط يستهدف "ذهنية أو ذهان المؤامرة"، ويسعى لبيان الدور الحقيقي للمؤامرة وموقعها الحقيقي في حركة التاريخ، التي تجري وفق قانونيات تاريخية محددة، وفي سياق هذا المجرى يمكن للمؤامرة في أحيان ما أن تجري بدورها، كما يجري قارب في نهر، وقد تنجح كليّاً أو جزئياً أو تفشل في مساعيها، التي إن نجحت تصنع حدثاً في التاريخ، ولكنها لا تصنع نمطاً من التاريخ.

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard