info@suwar-magazine.org

في بلدنا انترنت.. عن الإنترنت السوري

في بلدنا انترنت.. عن الإنترنت السوري
Whatsapp
Facebook Share

 

 

الزمان أواخر تسعينيات القرن الفائت.

 

المكان: سوريا، حيث "لا مكان في هذا الوطن إلا للتقدم والاشتراكية" الشعار الذي يستقبلكَ أينما ولَّيتَ وجهك.

 

كانت صدفة من صدف البؤس السوري أن نخرج من أسوار الوطن المسور بالعز والمجد والفخار، كما علمونا في المدارس والمنظمات التي كانت ترسم عقولنا على مقاس الحاكم، وإلى أين؟!

 

إلى البلد المجاور لبنان، البلد الذي كان طيلة عقود يستقبل عشرات الآلاف من العمال السوريين رغم انه لا نفط ولا ثروات باطنية لديه، بينما كانت سوريا دائماً تعوم على ثروة هائلة لم نعرف منها سوى الفتات.

 

كان لبنان أسبق منا بطبيعة الحال في التعامل مع القفزات الحضارية في حقل الاتصال والإعلام ورفاهية الإنسان رغم سنوات احتلالنا الطويلة له.

 

  لم يكن في سوريا (نت) حينذاك، ولم يخطر حتى بخيال (المواطن) العادي أن يتمتع بهذه النعمة، المواطن الذي كان ذهنه ما يزال مشغولاً منذ أواخر الثمانينيات بطوابير السمنة والزيت والرز والشاي، بل وحتى محارم "كنار" التي تنتجها معامل الوطن من قطنه.

 

 المواطن الذي يعتبر ما حصل لاحقاً مع بداية عقد التسعينيات: تأمين هذه المواد وشبيهاتها في السوق، مع نزول السرافيس البيضاء التي استوردها تجار تقاسموا البلد مع العسكر بديلا عن باصات النقل الداخلي المتهالكة التي كانت تكتظ بالناس وهي تمخر شوارع المدينة. يعتبرها قمة الرفاهية والعز...

 

فقد ربّوا السوريين على طريقة الأنظمة الشمولية كلها، بأن كل ما "تتمتع" به من متطلبات الحياة الأساسية، من سكن وخبز ولبس وتعليم وصحة وطرقات وسكك حديد وغيرها، هي من هبات الحاكم الأوحد وأفضاله علينا، وتستحق إقامة المهرجانات والاحتفالات ولاءً ووفاءً له.

 

نعمة الخليوي

 

كان الموبايل، وهو شقيق الإنترنت زمنياً وإحدى وسائله أيضاً، حلماً لا نشاهده سوى في الأفلام والمسلسلات، بل كان الحصول على مجرد خط هاتف أرضي يتطلب وساطات ودفع رشاوي، وأحياناً قد يعجز وزير عن تأمين خطّ هاتف أرضي لك.

 

في لبنان حيث عملنا كعمال مياومين، تاركين أعمارنا التي قضيناها في التعليم وشهاداتنا الجامعية هناك داخل الأسوار، كنا نشاهد أشقاءنا اللبنانيين يتبخترون وهم يحملون (السيليولير) ويتكلمون عبره، ونتساءل ببراءة طفل محروم: كيف يمكن أن يسمعه الطرف الآخر ولا توجد سماعة أمام فمه؟!  

 

كنا نحسدهم: كيف يكون عندهم هذا الاختراع المدهش ونحن لم نتعرف عليه بعد، رغم أننا "شعب واحد في بلدين" كما كانت تردد الشعارات التي تملأ الجدران ووسائل إعلام جوفاء؟

 

ثم حين جاءهم (النت) بقينا أيضاً بعيدين حتى الألفية الثالثة، بعد أن زاد انتشاره وأصبح من هبَّ ودبّ يملك (إيميلاً) و(مسنجر) وموقعاً أحياناً..

 

ثم، بعد طول انتظار وفحوص وإجراءات مشددة، دخل النت حياتنا.. وكان ثورة متأخرة..

 

ثورة (غصباً عن اللي يرضى واللي ما بيرضى) على لغة الفنان الراحل عمر حجو في مسلسل حاول ملامسة الحرب السورية.

أصبحنا نقرأ أخبار بلدنا في المواقع الغريبة البعيدة، المواقع المغرضة كما يسميها الإعلام الرسمي وتوابعه، كما كان آباؤنا وأجدادنا يتابعونها على إذاعتي (بي بي سي ومونتي كارلو)، فيما كانوا يكتفون بمتابعة (حكم العدالة)، وما (يطلبه المستمعون) على إذاعة الوطن.

 

صدقوني أن المسؤولين من أرفع المناصب كانوا، وما زالوا، يبحثون عن الخبر السريع الأقرب إلى الصحة، في تلك المواقع والقنوات "المغرضة" غالباً، فيما يتباهون في العلن أنهم قد حذفوها من أجهزتهم أصلاً؟!

 

حوار مع يساري

 

في هذا السياق سأورد حواراً ما زال في الذاكرة بيني وبين صديق يساري متطرف في ثمانينيات القرن الفائت، وكنا نتجادل (وليس نتحاور، فالحوار لم ولن نكتشفه) حول موضوع سياسي، فاستشهد هو بخبر من إذاعة (بي بي سي)، وهنا أمسكته من تلابيبه وظننت أنّي سأصرعه بالضربة القاضية، وقلت له: ها أنت ذا أيها اليساري الثوري، الذي تتهمنا بالانتهازية والانبطاحية والتبعية، تستقي أخبارك من هذه الأفعى السامة التي تدسّ السّم في الدسم (هكذا كان يعلّمنا الرفاق الكبار)..

 

ضحك صديقي حتى بانت نواجذه، وقال، أتمنى أن تذهب وتسأل زعيم الشيوعيين: هل يستقي أخباره من إذاعة موسكو أم من إذاعة الجمهورية العربية السورية من دمشق أم من الـBBC و"مونت كارلو"...؟ (لم تكن حينها فضائيات وانترنت وسواه، وكانت الإذاعتان من منابر الإعلام الأقوى).

 

هنا، أُسقط في يدي فعلاً، فقد كنت أعلم جيداً أن لا أحد ـ ومنهم الرفيق خالد بكداش الأمين العام المزمن للحزب الشيوعي السوري أشد القوى عداء للامبريالية وارتباطا بالسوفييت ـ يستقي أخباره ومعلوماته من إذاعة موسكو أو إذاعات المنظومة الاشتراكية او كوريا الشمالية مثلا، وهي إذاعات مؤطرة وموجهة تعمل تحت إمرة أناس حزبيين لا يفقهون أصول الإعلام العصري، يعملون في الإعلان والدعاية فحسب، وآخر همهم إرضاء المسؤول الأعلى منهم. . .

 

هذا لا يعني أن (بي بي سي أو مونتي كارلو) وغيرها كانت منابر حيادية ونزيهة، لكنها كانت تتقن عملها وتستخدم ـ وما زالت ـ كل منجزات علوم الإعلام وعلم النفس والتكنولوجيا أيضاً لخدمة توجهها ضمن احترام عقل المتلقي، فيما كان الإعلام (المناضل) ـ وما زال أيضاً في غالبيته ـ ينظر إلى الناس كمجموعة مهابيل، تجمعهم في مدرسة أو معمل ليصفقوا لك، وأنت تلقي دررك عليهم دون أن يسمعوك، ثم ينصرفون إلى منازلهم بعد انتهاء المهرجان، وقد كسبوا يوم عطلة عن دوام يأسرهم دون أن يفعلوا شيئاً.

الفتح العظيم!!

 

مع بدايات الألفية الثالثة دخل الانترنت بلادنا، وكان ببطء السلحفاة طبعاً، تستطيع إنجاز أعمالك المنزلية كلها بينما تنتظر أن تفتح صفحة أو موقعاً بالdail up.

 

لكنه كان نافذة تطل من خلالها على عالم لم نألفه، عالم يقول فيه الناس ما يريدون دون خوف، بل كنا، ونحن نقرأ لهم نرتجف خوفاً ونحذف كل ما قرأناه من الـhistory حتى لا نتهم بالخيانة ووهن عزيمة الأمة، وإضعاف الشعور القومي، التهمة الجاهزة التي رُمي بها آلاف السوريين في غياهب العتمة.

 

كانت الفضائيات والمواقع الإلكترونية الخارجية متنفساً لكتّاب ومثقفين سوريين يعيشون في الخارج، ولقراء في الداخل ينتظرون قطرة مطر تروي ظمأهم لفكر مختلف عما حاصرهم عمراً بكامله.

 

ثم جاء الفيسبوك، وكان ثورة جديدة في حقل التواصل الاجتماعي والثقافي، مع كل الانتقادات التي وُجهت له بأنه سمح لفيالق الحمقى أن يسفهوا مفكراً كبيراً لمجرد أنه لا يتبع هواهم.

 

كان ملاذاً غير آمن لملايين الناس في البلدان التي لم تعتد شعوبها على قول ما يخالف السائد الذي ينيخ بكلكله على أرواحهم وعقولهم.

 

سرعان ما اندلعت شرارات الربيع العربي التي أشعلت ثورات في تونس ومصر واليمن وسوريا. تحقق بعض ما حلم به الناس في تونس ومصر، فيما تحول هذا الربيع في سوريا واليمن إلى حرائق ما زالت تحرق اليابس فيها بعد أن انمحت ملامح الاخضرار.

 

لعبت وسائل التواصل دوراً أساسياً في حشد الناس ودعوتهم إلى التظاهر مطالبين بحياة تليق بالبشر، وفي نقل حقائق على الأرض أراد الطغاة لها ان تبقى في العتمة، وأنكروها طويلاً دون جدوى.

 

لكن، كعادتهم تمكن الطغاة من الدخول إلى هذه الوسائل ومراقبتها ورصدت ميزانيات خيالية لذلك لو صرفت على الشعوب الجائعة لخففت كثيراً من الاحتقان والغضب لدى قطاعات كبيرة منها.

 

أصبح مجرد "اللايك" يكلفك أحياناً السجن والتغييب والموت أحياناً،.

 

حدث في سوريا

 

كان رجال الحواجز التي نصبت على مداخل المدن والأحياء والشوارع، أول ما يأخذون من الشخص الذي يشتبهون به بعد الاطلاع على هويته والحقل الذي يظهر انتماءه المناطقي تحديداً (يقرؤونها الطائفي طبعاً) جهاز الموبايل الخاص به، ليبحثوا فيه عن أي نشاط إلكتروني معارض أو مخالف لتوجهات السلطات، أو عن صورة لتظاهرة او "حفلة تعذيب" أو إشارة لمقالة أو منشور يحاول قول الحقيقة.

 

مشهد واحد كنت شاهد عيان عليه كفيلٌ بتوضيح الصورة أكثر: على مدخل حي من أحياء دمشق الثائرة توقفنا على الحاجز، كانت امرأة خمسينية ترتدي الزيّ الريفي الخاص بالمناطق الشرقية من البلاد، تتحدث مع العسكري بلهجة بدوية، تسأله عن ابنها الذي أوقفه الحاجز وهو صبي لم يتعد الثالثة عشرة من عمره: أين ابني، أين أخذتموه؟ انه طفل.


فيرد عليها العسكري: اذهبي، سنتركه بعد أن نتحقق منه.
ـ مم تتحققون؟ تقول المرأة بصوت عال، ماذا فعل طفلي؟


يصرخ العسكري بشتيمة مقذعة للمرأة: اذهبي قبل أن نلحقك به.
تصرّ المرأة: أريد ابني، الولد لم يفعل شيئاً.


* لقد فتشنا موبايله ووجدناه عليه عبارة "الله اكبر" على شاشة الموبايل.
بدأت المرأة تصرخ: هل عبارة "الله اكبر" أصبحت جريمة؟


امسك العسكري بالمرأة وجرّها إلى داخل الغرفة الرمادية وهو يكيل لها المزيد من الشتائم على مرأى ومسمع عشرات الواقفين الذين ينتظرون بخوف عبور الحاجز..

 

بقينا صامتين نغالب دموعنا وخوفنا وذلنا حتى عبرنا، فيما بقيت المرأة مع ابنها لدى "رجال الله" كما يسمون أنفسهم، والتهمة وجود عبارة "الله اكبر" على شاشة موبايل ولد مراهق.

 

ما زلنا صامتين حتى تاريخه، رغم أن الدم وصل إلى الأعناق، ونوشك على الغرق في بحوره.

 

ما زال مطلوباً من السوري المقيم في سوريا، المواطن الملتزم بدوامه وإيمانه ببلده وشعبه، أن يثبت ولاءه للبلد بهذه الطريقة، أن يعيش بوجهين، وجه معلن يدّعي كاذباً أنه لا يقرأ ولا يشاهد ولا يسمع سوى ما يرضي أصحاب القرار ويبيض صفحاتهم السوداء، ووجه خفيّ حقيقي يبحث عن التنوع، يبحث عن الآخر المختلف حتى لو كان في موقع إلكتروني محجوب، أو صفحة فيسبوك مغضوب عليها، أو قناة لا تعجبك سياستها..

 

هؤلاء نحن، ما زلنا، في زمن ثورة الاتصالات، نريد (إخفاء السماوات بالقبوات).. وسنبقى طويلاً كما يبدو..                                                                     

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard