هل انتهى زمن الأغاني الخالدة؟
استجابة للجمهور المُعَدّ نفسياً للاستغراق طويلاً في الأغنية، كانت أم كلثوم تعيد غناء مقاطع أغانيها دون ملل، فهي وعبد الحليم حافظ ووردة وغيرهم من فنانيِّ الستينيات والسبعينيات كانوا جزءاً من ذائقة مالت لأن تأخذ الأغنية الواحدة حيّزاً كبيراً من حياتها، فتميّزت الأغنية بإيقاعها البطيء والمقدمات الموسيقية الطويلة وعمل الملحنون على هذا آخذين رغبة المستمع في الاعتبار ممدَّدين الألحان سواء طالت الأغنية أو قَصُرت. غير أنّ التغيّرات التي أحدثتها الثورتان الصناعية والمعلوماتية ستعيد تشكيل نفسية المستمع ليظهر بالتدريج مع كلّ مرحلة نوع جديد من الأغاني أكثر ما سيتغيّر فيه الزمن، فبعد أن غنّت وردة في التسعينات أغنيتها "في يوم وليلة" لساعة من الزمن ستُصدِر في 2012 سِت أغاني مِن خمس دقائق تحت ألبوم سمّته "اللي ضاع من عمري".
نسبةً إلى العام 2012 لم يكن ما عَمَلته وردة مفاجئاً، فالأغاني القصيرة التي زاحمت الطويلة استحوذتْ كليّاً مع مطلع القرن الحالي بعد أن وجدتْ نفسها النوع المُفضَّل لفنانين غنَّوا في التسعينات كفيروز وطلال مداح وأبو بكر سالم وعبدالمجيد عبدالله وغيرهم ولتصبح هي المَوضةُ المعاصرة لفنّاني الألفينية الجُدد.
وهكذا أعلن فنَّانو الأغنية القصيرة بغير قَصْد انتهاء فترة الأغاني الطويلة. ويمكن أن يُستثنى بعض الفنّانين منهم ميادة الحناوي فهي لم تستجبْ سريعاً لهذا النوع من الأغاني عندما غنّت في 2003 "أنا بعشقك" بوقتها الطويل لكنّها أيضاً كانت غير قادرة على إعادته لفترة التشبّع في الأغنية الواحدة، فالمستمع نفسه سيكون قد تحوّل دافعه لسماع الأغنية الطويلة عُرْضة لغرضين؛ الاستغراب أو الحنين.
وجد المستمع العربي نفسه قد تملّصت من الإنصات العميق، واختلفت تفضيلاته عن آبائه ليحدث فجوة كبيرة بين فترتين تميّزت إحداهما بالاستغراق والأخرى بالقلق. انتبهت فلسفة الزِّن منذ قرون عديدة لهذه الفكرة فهي تعتمد للوصول إلى السلام النفسي ضرورة التعامل مع كلّ سلوك كنوع من التدريب حيث يجب أن يتمّ كلّ سلوك باجتهاد شديد دون استسهال أو اختصار للطرق. غير أنّ ما يتسم به هذا العصر يختلف كليّاً عن الزِّن، فالتغريدات والحالات والمنشورات ومقاطع الفيديوهات القصيرة والوجبات السريعة والاقتباسات صارت لو عدنا إلى فلسفة الزن وسيلة للتدريب على القلق.
وبما أنَّ التطور لا يتوقف عن التسارع فبعد الأغاني القصيرة أدّى تطور الهاجس القَلِق إلى ظهور نوع مختلف من الأغاني، لكن قبله كان قد طال نفس الهاجس الأغاني الطويلة فنزولاً عند رغبات المستمعين ظهر كوكتيل للأغاني الطويلة أو اختصار لأغاني قديمة إلى خمس دقائق مع التنويه الجذّاب للمستمع بأنّ ما سيسمعه نسخة قصيرة كما فعلت "مزيكا" قناة الموسيقى المعروفة.
وهكذا أتى الميدلي كنوع جديد يفضّله المستمع العربي فما ظهر في القرن التاسع عشر كقالب لمزج مقطوعات الموسيقيين الراحلين سينتشر في الفترة الأخيرة بين الجمهور المعاصر الذي وصل مشواره الإنصاتي من ساعة ونصف إلى أقل من دقيقة. حيث يُعد الميدلي مزج بين أغانٍ لفنان واحد أو فنانين، ولا تَجمَع الأغاني أيّ فكرة جوهرية كالعتاب أو الحب إنما ثيمات شكلية كفنان معين أو مجموعة فنَّانين حقبة معينة حيث يظلّ المستمع يتنقّل من أغنية إلى أخرى على طريقة مقاطع الفيديوهات القصيرة أو التغريدات.
وعلى طريقة الميدلي أحيت ذكرى طلال المداح عن طريق غناء مجموعة مقاطع مُقتبسة من أغانيه، وقَبْله أَعدَّت هيئة الترفيه السعودية ميدلي لأغاني أبو بكر سالم وصلت إلى ملايين المشاهدات، كذلك غنّت جوليا بطرس قبلهم ميدلي لجميع أغانيها الوطنية وحضرت مؤخراً في مصر واليمن بعض الميدلي لفنانين سابقين وهناك الكثير أيضاً في يوتيوب إذ تحظى باهتمام كبير.
بسبب طبيعته الشكلية يحتوي الميدلي على مقاطع تَحمل مشاعر متناقضة تتبدَّل بين الحب والحسرة والعتاب والفرح، متجاوزاً الطبيعة القديمة التي كانت تحتفي بالأغنية وثيمتها الواحدة إلى مدّة قد تتجاوز الأشهر، وهكذا ليعبِّر عن حالة اختلاف جذرية في نفسية المستمع الحالي، فكلّ أغنية معاصرة تتوهج كترند لبضعة أيام ثم تُنسى، لما قد يدعو لطرح سؤال من نوع، هل انتهى زمن الأغاني الخالدة؟
ما زالت هناك حفلات تحضر فيها أغاني طويلة نسبياً، فأصالة مثلاً أحيت حفلات لأغاني عبدالحليم حافظ وغنّت "قارئة الفنجان" مع تقليص زمنها، وكذلك كاظم الساهر إذ يظهر في مقابلات كثيرة يتعجّب من شغف الجمهور في أغنية "أنا وليلى" محتجَّاً من أنّها طويلة، إذ تبلغ أربعة عشر دقيقة، غير أنّ جمهورهما هو وأصالة سيجزِّأ مقاطع مع أغاني تلك الحفلات ليتداولوها في فيديوهات لثواني في الريلز والتيك توك.
من الواضح حتّى بدون طرح أدلّة جنوح المستمع الجديد للومضات السريعة من الأغاني، لكن ما هو مثير للانتباه هي القفزة التي حدثت من عصر التسعينات حيث كان ما زالت هناك بعض الاغاني الطويلة إلى الزمن الحالي الذي اختصرت فيه الأغاني إلى أقلّ قدر ممكن.
ونظراً للتطوّرات المتسارعة التي سبقت الميدلي يمكن أن يطرح سؤال، ما هو النوع القادم الذي سيأتي بعده مع الأخذ بالاعتبار تطوّر الذكاء الاصطناعي حالياً مما يزيد من تجنّب الإنسان المعاصر لعمليات البحث والتركيز باعتبارها أعمالاً شاقَّة.
كانت الأغنية الطويلة وسيلة من وسائل التأمل للمستمع العربي القديم وانعكاساً لروحه التي لم يمَسَّها عصر السرعة بعد، كما أنّه هو الذي لا ينفصل عن العالم سيتأثر كأبناء جلده الآخرين بالتطوّرات التي اتَّسمت بالسرعة، وليس الإنصات سوى تبعة واحدة من مجموعة آثار ساهمت في ارتباك النفس العربية، ووفقاً للطب النفسي يعدّ القلق اضطراباً يصنَّف تحت أخطر الأمراض النفسية وبالرغم من أنّه لا يمكن اعتبار السرعة والاستسهال قلقاً يمكن لهما أن يحرّضان بشكل كبير على القلق وتوابعه النفسية، ناهيك عن أهمية التأمل في حياة الإنسان وتعزيزه لقراراته العقلية واستيعابه للأمور وتقديرها بل وحتّى الاستمتاع في حياته، ويحضُر ما قاله الكاتب اللاتيني جابرييل جارسيا ماركيز في مذكراته: "حينما انتهيت من رواية التحوّل لـكافكا لم أذهب إلى الجامعة في الأيام التالية خوفاً من أن ينكسر السحر الذي خلّفته في نفسي" ، متوافقاً في تجربته مع ذلك المستمع القديم الذي كان يطلب من أم كلثوم إعادة المقطع محاولة منه لتخليد اللحظة بكلّ تأمل.