info@suwar-magazine.org

سجناء دون قيود

سجناء دون قيود
Whatsapp
Facebook Share

 

ربما لا نرى قضباناً حديدية لكنها تقبع في مكان ما في خلفية عقولنا، لا أصفاد ولا سجّانين رغم ذلك حركتنا مدروسة ومحددة كأنّنا مقيدون ومراقبون، وما يحرّكنا رغم جهلنا به منظّم ومبني بدقة، يتضح ذلك حين نُخرج أنفسنا من دائرتنا الاجتماعية قليلاً ونراقب المشهد، كلماتنا بدورها مضبوطة وكأنّنا مبرمجون لقول ما يناسب من يستمع لنا، ليست الحرية هي القدرة على اتخاذ القرار والقدرة على الفعل وحدهما، فهذان بمتناول الجميع، ولكنّهما يبقيان ضمن الحدود التي رسمت مسبقاً، الحرية لتكون حقيقية ينبغي أن تكون نابعة من أعماق الفرد وحده دون تأثير من أحد ودون إرشادات ثابتة من سلطة لما يمكننا فعله وما لا يمكننا، و تظهر جليّةً في كلّ فعل أصيل لا يتبع ظروفاً أو سياسات أو ثقافة.

 

"هل أنا شخص حر؟" لن يخطر على بال أحد سؤال كهذا، فالغالبية يعتقدون أنّه أمر مفروغ منه، القدرة على الفعل والعيش هي حرية في نظرهم، قلّة هم من يحاولون فهم حدود حريتهم ويستمرون بطرح الأسئلة ليصلوا إلى نقطة تصبح الإجابات فيها مبهمة ومعقّدة، أحرار بنسبة ضئيلة وخاضعون في معظم الأحيان ربما الحالتان هما وجهان يتناوبان في حياتنا وبنسب متفاوتة، ما الذي يتحكّم بحريتنا ويسبّب خضوعنا؟ هل نعبّر عن أنفسنا بحريّة في عصر نزعم فيه بأنّنا أكثر حرية من قبل؟

 

هل نمتلك حريتنا؟

 

لا يمكن لأيّ فرد أن يعزل نفسه ورغباته عن الآخرين، فهو أمام خيارين الأول أن ينخرط بالجماعة ويجاريهم ويتأثّر ويؤثّر بهم وهو بذلك يمتثل لقواعدهم، والخيار الآخر هو عزل نفسه عنهم ومحاولة التفرّد ورفض قواعدهم وهو بذلك يخضع حياته لسلطتهم نفسها بإبعاده، لا يمكن فصل أيّ إنسان عن مجتمعه، ومحاولة الانسلاخ عن المجتمع وتحقيق الحرية الخاصّة مهمّة صعبة، فهي تتطلّب شجاعة وانفلات من جميع الضوابط المجتمعية بالإضافة إلى فقدان الأمان المتمثّل بالانتماء للجماعة وبذلك تصبح الحرية مرادفاً للقلق، تتساوى الحريّة المطلقة مع المسؤولية المطلقة فأن تكون حرّاً يعني أن تكون مسؤولاً عن كلّ قول وفعل تأتي به، وذلك من الصعب تحقيقه ضمن المنظومة القائمة.

 

فالإنسان ومنذ لحظة ولادته يكتسب صفات وتبقى لصيقة به للأبد تعود لعائلته ومجتمعه وثقافتهما، وتتشكل دوافعه بناء على أسلوب تربيته ومايراه من سلوك الآخرين حوله، لا يمكن أن نقول عن طفل يعزف آلة البيانو في السابعة من عمره بأنّه حر باختياره ورغبته أصيلة نابعة من ذاته، فهو يفعل ذلك لأنّ والديه وضعاه في موقع العازف، وموسيقى مجتمعه أو ما يستمع له بانتظام أثّرا به ليكون عازفاً لنوع محدّد من الموسيقى، وذلك ينطبق على جميع الأفعال التي يقوم بها أيّ إنسان.

 

فجميعنا ومنذ لحظاتنا الأولى ترتسم الكثير من ملامح حياتنا وفقاً للآخرين ورغباتهم، وتصبح أفعالنا مع الوقت محاكاة لأنماط موضوعة مسبقاً ومتبناة من قبل الجميع لدرجة أنّنا حين نختارها نظن أنّها خيارنا وحدنا، ولكن عملية اختيارنا هذه مبنية على مجموعة كبيرة من التفضيلات الذاتية والتي راكمناها مع الوقت مما يعجبنا بالآخرين وما لا يعجبنا بهم، وبذلك من غير الممكن أن تكون خياراتنا نابعة عن إرادة حرة، فهي انعكاس حتمي لما نراه مناسباً لمجتمعنا ولنا أو العكس.

 

من الممكن أن تتغيّر رغباتنا في مراحل حياتنا المختلفة لكن تغيرها يعتمد على ما نفضّله في كلّ مرحلة، ويصبح الخضوع للأدوار التي نقوم بها في حياتنا جزءاً من هويتنا كأسمائنا التي من الصعب أن نتخلى عنها.

 

السلوك الإنساني والمجتمع

 

السلوك الإنساني هو ليس سلوكاً حراً بل سلوك متأثر بالآخرين، والآخرون هنا هم الجماعة وثقافتهم وضوابطهم، وبالوقت ذاته تتشكّل هذه الضوابط الاجتماعية نتيجة مجموعة من العوامل أهمها السلطة السياسية والنظام الاقتصادي بالإضافة للدين والأخلاقيات ودورهما، كما يرتبط بالاقتصاد والسياسة بشكل كبير فهما مصدر قوة.

 

يعيش معظمنا حالة من الانصياع الكامل لسلطات خارجية دون وعي، يبدأ ذلك من تفاصيل صغيرة جداً لينسحب إلى ما هو أكبر حتى فيما يخصّ القرارات التي تشكل مصيرنا، من ساعات عملنا، أجورنا، قدرتنا على الشراء، ما نأكله وما نشربه، أين نقضي وقتنا وما الأمور التي نرغب بها وتلك التي لا نستطيع فعلها.

 

والانصياع هنا يبدو في ظاهره وكأنّه نتيجة للظروف الذاتية، ولا نفكّر غالباً بأن جزءاً كبيراً منها مفتعل من خارجنا، بل ننسبها إلينا لشخوصنا وعوائلنا، عندما نقبل بأن نمارس هذه الأفعال نتخلى عن رغباتنا وما نريده حقاً، والخضوع هنا هو خضوع بشكل غير مباشر للسلطة التي تتحكّم باقتصادنا وأجورنا وحدود وعينا حتّى بما نتلقاه من إعلامها وخطابات مؤسساتها.

 

 

اقرأ أيضاً:

 

                      أسماء مستعارة

 

ومع الوقت تصبح الحالة المجتمعية مؤثّراً كبيراً حتّى على الأفراد الذين يمتلكون نزعة أعلى للتحرر وتحقيق رغباتهم، فالسلوكيات العامّة هي مؤثّر كبير على السلوك الفردي، ولا يمكن تغيير مجتمع أو تطويره إلّا عبر تغيير سلوكه وذلك يتبع بشكل أساسي تغيّر فكره، فكرة بسيطة قد تسبب عجزاً لأجيال، وحتى حين نعجب بفرد تجاوز قيوده وقام بفعل حر أصيل و يلهبنا الحماس، وربما في لحظة ما نحاول أن نجاريه ونقوم بنفس الفعل، يبقى فعلنا محاكاة مبنية على الإعجاب وحده وتقليد أعمى وهو ما يحدث كثيراً في مجتمعاتنا، لتصبح حتّى الأفعال التي تكسر الضوابط الاجتماعية مزيّفة وخاضعة بدورها لسلطة وقوة من قام بالفعل بداية.

 

العوامل الاقتصادية والسياسية

 

إحدى أهمّ الأساليب التي تعتمدها السلطات للسيطرة على شعوبها تتمثّل بالعامل الاقتصادي، وذلك بتجويع الشعوب وجعلها منشغلة بالبحث عن مصدر لرزقها للبقاء على قيد الحياة.

 

يمكننا الحديث عن الحالة السورية كمثال واضح على ذلك، فأسلوب السلطة بالسيطرة يرتكز بشكل أساسي على التلاعب بالاقتصاد، فمع كلّ زيادة على الرواتب ترتفع الأسعار بشكل هائل، وهذه السياسة تعتمد على الإيهام، من خلال رفع الرواتب نظنّ بأنّ حياتنا الاقتصادية ستتحسن في المقابل تسحب هذه المبالغ التي تمّت زيادتها بجميع الوسائل بدءاً برفع أسعار المواد الغذائية وصولاً إلى رفع العقارات والبيوت وإلهائنا بالبحث عن استقرارنا اليومي.

 

وفي خضم هذه المعركة مع المال للحفاظ على بقائنا، نصبح خاضعين للنظام الاقتصادي وتابعين لحركته، يتبدّى هذا الخضوع في أصغر السلوكيات مثل استنكارنا لرفع أسعار مواد نحتاجها، ولكن أثناء استنكارنا نقتنيها بحجّة أن لا خيار أمامنا للرفض أو الاستغناء عنها، وتصبح حياتنا سلسلة من الأفعال التي يحركها الخضوع والامتثال للأمر الواقع حتى نصل الدرجة التي لا ندرك فيها من نحن أو ما نفعله وما هي رغباتنا أو دوافعنا للعيش، مغيبين عن الواقع مسيرين بسلطة المال ونتحوّل لمستهلكين فقط لا يمكنهم أن يضيفوا أيّ معنى لحياتهم، غير فاعلين بل خاضعين لسلطة خارجية تحرّك حياتهم.

 

هذه السياسة القائمة بإلهاء الناس بمعيشتهم تأتي ضمن خطة السلطة السياسية للحفاظ على وجودها، فمن غير الممكن لشعب منغمس في البحث عن عمل أو مصدر للمال أن يشغل نفسه بمطالبات لتغييرات سياسية أو أن يتمرّد على السلطة ويرفضها، وغالباً ما تفتقد هذه الشعوب بسبب انشغالها بالبحث عن وسائل العيش للوعي السياسي الذي يجعلها تدرك أهداف السلطة وأساليبها الملتوية للإخضاع والسيطرة، معتبرين أنّ هذا جزء من طبيعة السلطة خاصّة في مجتمع مثل مجتمعنا يؤمن معظم أفراده أنّ القوة والديكتاتورية شيء بديهي لبقاء السلطة بدءاً من الأسرة الصغيرة التي يلعب الأب فيها دور السلطة التي لا يمكن مجابهتها، ليصبح نمط السلطة متكرراً وثابتاً في جميع المؤسسات والشركات والأماكن، مؤدياً لخضوع وقبول لدى الغالبية وهذا الخضوع يصبح أكثر سهولة وراحة من المواجهة والمطالبة بالحقوق.

 

تزداد القدرة على التنبؤ بالسلوك الإنساني هذه الأيام فالضبط الاجتماعي والسياسي والاقتصادي يحقق نتائج متقدّمة في إفشال الفعل الإنساني الحر، كذلك التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي أصبحت سبباً آخر للخضوع والانغماس بدور المتلقّي الذي يرى كلّ ما تنتجه هذه الوسائل حقيقي ويمثّل النمط الأكثر جذباً للعيش، وهذا النمط هو استهلاكي بشكل كبير يعتمد على تفريغ الإنسان من ذاته وتحويله لكائن مادي يملؤه الفراغ وتثقل جسده الأشياء والمقتنيات عبر ربط قيمته بامتلاكها.

 

تُنشر هذه المادة بالتعاون بين شبكة الصحفيين الكُرد السوريين (SKJN) ومجلة صور في برنامج تعاون ضمن مشروع "المرآة"، حول "حقوق الإنسان والحريات العامة".

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard