أسماء مستعارة
إنكار ما نفكر به من أجل الآخر هو إنكار لذواتنا:
فكرت ملياً قبل البدء بكتابة هذا النص، فأن تكتب عن سبب غياب اسمك الحقيقي عن نص كتبته يتطلب بحثاً عميقاً داخل ذاتك ومن حولك والسياسات التي تخضع لها وتتحكم بحريتك.
يمكننا أن نفند عشرات الأسباب التي تدفع صحفياً أو كاتباً لإنكار اسمه وتبني شخصية خيالية تجنِّبه عبء التورط بما يقول والمسؤوليات التي تتبع ذلك، ويبقى ذلك النص الذي ينتمي لشخص غير معروف خارج التقييم فهو نص لأي يكن، بإمكانه أن يكون سيئاً ومنسياً أو رائعاً دافعاً فضول القراء لمعرفة كاتبه، وبمجرد أن نعرف كاتبه سيختلف تقييمنا ويصبح منحازاً لما نعرفه مسبقاً من صفات كاتبه، أو إسقاط ما يقوله على شخصه إن كنا لا نعرفه، ويصبح النص مثار جدل وبدوره يصبح صاحبه خاضعاً لنظرتنا ورؤيتنا الذاتية بما يكتب نقيده ضمن رؤية معينة وإسقاطات معرفية تخصنا ونصنف أسلوبه كما يحلو لنا، ليصبح حبيساً لفكرتنا عنه مقيداً بقيد إضافي يصعب عليه معه فعل الكتابة بحرية.
فهل الكتابة بأسماء مستعارة تنجي صاحبها من التورط بنصه وأفكاره، أم أنها طريقة سهلة للعمل دون ضجيج؟
نفي الذات:
منذ زمن بعيد انتشرت ظاهرة الكتابة بأسماء مستعارة، كانت وسيلة مبتكرة لتجنب الظلم الذي تحدثه السلطات على من يتجرأ الجهر برأيه ومعارضتها، لم تكن هذه السلطات سياسية فقط بل اجتماعية وعائلية في أحيان كثيرة، يرتبط فعل الكتابة بشكل كبير بالحرية، حرية أن تقول وتعبر عن نفسك وعن الأشياء التي تراها حقائق لا جدال فيها دون أن تخضع لأية رقابة داخلية كانت أم خارجية، نعيش كبشر مقيدين بمجموعتين من القيود والضوابط تلك الداخلية المرتبطة بقناعاتنا وخطوطنا الحمراء وآثار تربيتنا، والخارجية المرتبطة بالسلطات وممارساتها وما تفرضه علينا من نواهي، الكتابة باسم مستعار هي محاولة للتملص من مواجهة السلطة بشكل رئيسي، ونشر الأفكار والوعي بحرية دون التعرض لخطر الرقابة، هو نوع من ممارسة الحرية بثمن والثمن هنا أن تنفي ذاتك، أن تبقى مجهولاً مختبئاً وراء كلماتك، لكن هذه التضحية بذاتك للكتابة بحرية ألا تتضمن في داخلها خضوعاً؟ بقدر ما يبدو فعل الكتابة باسم مستعار فعل مواجهة وإصرار على قول الحقيقة بقدر ما هو فعل خضوع، فاللحظة التي تقرر فيها أن تنفي تهمة الكلمات عنك، هي لحظة إنكار للذات ووجودها إرضاءً لسلطة أعلى منك، فيصبح العام أكثر أهمية من الخاص، وعند الفصل بين الذات وما تقوله يولد سوء الفهم والإدراك للذات والآخر معاً، وإذا نفينا الخوف من السلطة الخارجية كسبب لغياب اسم كاتب عن نصه، تبقى لدينا تلك الأسباب المرتبطة بقيود ذاتية داخلية، هناك الكثير من الفرضيات التي يمكننا وضعها كسبب، لكن جميعها تصب في فكرة واحدة" لست أنا من يقول ذلك"، وفي هذه الحالة يمكن للكاتب قول ما يريد دون أن يقوله، فهو يتحدث ولا يتبنى أقواله، وهذه النقطة بالذات هي المزج بين الحرية والخضوع في وقت واحد، فأنت حر فيما تكتب ولكنك خاضع لخوفك في حريتك تلك، إنكار الارتباط بين ما كُتب ومن كتبه، هو حالة من الرفض المطلق رفض للنقد رفض للتقييم رفض للاتهام رفض لاختصار من يقول الكلام بكلماته فقط وحصر شخصه بها، وأسباب الرفض هذه هي خوف أيضاً من عواقب الإجهار بالاسم، الخوف من الصورة الذاتية وما قد يمسها ومن العقاب ذلك المرتبط بالسلطات المختلفة من سياسية واجتماعية وغيرها.
السياسة واللغة:
يجوز القول بأن مرحلة التحول الحقيقي في حياة البشر هي لحظة ابتكار اللغة والكلمات كوسيلة للتخاطب والتعبير عن المشاعر والرغبات، وبتطورها بدأ يتطور الوعي والفكر، ويصبح هو المحرك الرئيسي للشعوب، تعتمد السياسة من القدم على فن الخطابة، فالساسة قديماً هم من يتقنون إلقاء الخطابات والتأثير على الآخرين، لم يتغير ذلك جوهرياً وإنما تطورت الوسائل، السياسة تعتمد على الخطاب الذي تفرضه السلطة و على ما يتم تلقينه في المدارس وما يبث في وسائل الإعلام، في العالم العربي وفي سوريا بشكل خاص، الخطاب السياسي فارغ من المعنى، فهو يعتمد على صياغة جمل ذات شعارات رنانة لكنها غير واقعية، اعتمد هذا الأسلوب في المدارس والإعلام وجميع الوسائل التي تستحوذ على عقل الجمهور، ليعيش الناس في حالة من انعدام الوعي مأخوذين بكلمات مبهمة، الوسيلة الوحيدة والأكثر قوة لتعرية هذا الخطاب كانت بإنتاج خطاب معاكس، وهو ما قام به العديد من الصحفيين والكتاب في سوريا، ومع كل محاولة جديدة لشرح ما يحدث ونشر الحقائق، كانت وسيلة السلطة هي تغييب صاحب الخطاب وسجنه، وبهذا بدأ الكتاب يلجأون للكتابة بأسماء مستعارة، متنازلين عن حقهم في ما يكتبون، فالقيمة الأعلى هي للقضية التي يدافعون عنها وبرغبتهم الكتابة والعيش بحرية، وبالرغم من أن هذه الظاهرة بدأت منذ بداية القرن المنصرم، فما زالت رائجة حتى اليوم وهذا يبين بشكل قطعي أن القوة العسكرية تتفوق على العقل، وأن الخطاب الذي يصدر عن سلطة تمتلك قوة هو أكثر تأثيراً من ذلك الذي يصدر عن فكر حر، وبمعنى آخر الخوف هو ما يحكم في النهاية على إمكانية تبنينا لموقف أو رفضه. وباعتبار أن الصحافة هي مهنة تتطلب قول الحقيقة ورصد جميع التغيرات السياسية والمجتمعية بدقة وموضوعية، فمن غير الممكن على من يمتهنها أن يتعامل معها كمهنة لكسب المال فقط، لا يمكن للصحفي أن يتجنب قول ما يجب قوله أو نقل الحقيقة كما هي من أجل المال، من يختار مهنة كهذه يعرف مسبقاً أنها لا تحقق الثراء ولا يمكن مزاولتها بشكل سطحي لكسب العيش والبقاء بعيداً عن الخطر.
المرأة والتخفي:
ارتبطت الكتابة لوقت طويل بالرجال، إن كانت كتابة أدبية أو صحفية فهي مهنة الرجال ولا يمكن للمرأة أن تخطو باتجاهها أو تجرؤ على التفكير بذلك، يعود ذلك لانعدام المساواة التي عانت منه النساء لوقت طويل ومنعها من الحضور ضمن الحيز العام ليس فقط بفعل الكتابة بل بكافة أوجه الحياة المهنية والاجتماعية، في الغرب وفي العالم العربي بدأت النساء الكتابة بأسماء رجال كي لا يحكم على ما تكتب بشكل مسبق، وليس فقط الكتابة السياسية بل تلك الأخرى من قصص الحب والقصص الاجتماعية وكل ما يتعلق بالدين والجنس لا يمكن للنساء تناولها أو الجهر برأيهن فيها، مع بدء الحركات النسوية واكتساب المرأة لبعض حقوقها أصبح ممكناً مزاولة مهنة الكتابة والخوض فيها بشكل أعمق، ولكن ذلك لا ينفي الخطوط الحمراء التي ما زالت قائمة حتى يومنا هذا، فمواضيع السياسة والدين والجنس مواضيع حساسة غالباً ما يواجه من يقترب منها بالنقد أو التغييب، المرأة تكتب بأسماء مستعارة للأسباب نفسها التي يكتب رجل باسم مستعار والتي مصدرها الخوف من السلطات، بالإضافة لسبب آخر وأساسي وهو أنها امرأة، تحتاج النساء للكثير من الجرأة والقوة والثقة بأفكارهن وما يكتبن عنه، كي يقمن بهذا الفعل بأسمائهن الحقيقية، فالثمن الذي سيدفعنه كبير من رفض وتهميش وتجريح، وهذا ما يجعل النساء مقيدات، لا يغامرن بقول كل ما يردنه، يقتربن من عمق الأشياء ومن ثم يقررن الانسحاب والكتابة ضمن المساحة التي تحمي أمانهن، هناك نساء تجاوزن ذلك بالتأكيد وكتبن ونشرن كل ما يردن قوله، لكننا لا نستطيع نفي القيود التي تخضع لها النساء ليفعلن ويكتبن ما يشكل قناعتهن مهما كانت هذه القيود بسيطة، ولهذا تلجأ الكثيرات للكتابة بأسماء مستعارة وتبقى أخريات يحملن أفكارهن برؤوسهن دون القدرة على وضعهن على ورق يقرأه غيرهن، هنا يكون الاسم المستعار ملاذاً آمناً.
الكتابة بأسماء مستعارة هي اعتراف من الكتاب ومن رؤساء التحرير ومديري الوسائل الإعلامية ومديري دور النشر، بأننا لسنا أحراراً فيما نكتب وما ننشر، هي بمثابة تواطؤ جماعي على أن ما يقال لا يستسيغه الآخرون مهما كانت سلطتهم، وهذا ينفي حرية الرأي والفكر لدينا كأفراد ويؤكد تقبلنا المشروط لبعضنا البعض.