إقصاء النساء من الحياة العامة
خلال سنوات طويلة من التأسيس للفضاء العام عبر الحضارات، لم يُؤخذ تواجد النساء فيه بعين الاعتبار، فالعالم بوجهه الحالي هو عالم شيّده الرجال وفق نظرتهم واحتياجاتهم وما يناسب حركتهم، ويمكننا القول بشكل أدقّ أنّ الفضاء العام لم تكن النساء جزءاً منه منذ البداية، فالمساحات التي يتضمنها هذا الفضاء محكومة بسياسات ثقافية واجتماعية راسخة، وبعد ظهور حركات التحرّر النسوية وخروج النساء من منازلهن وتعلمهن والانخراط في العمل المؤسساتي، اصطدمن بعالم لا يراعي وجودهنّ، لم يؤسّس ليكنّ ضمنه.
في سوريا كما في الكثير من الدول، كان الفضاء العام لسنوات طويلة فضاءً يخصّ الرجال وحدهم، كيف تتحرك النساء ضمن الفضاء العام في سوريا وهل سنوات الحرب غيرت من حضورهن فيه؟
حريّة مزيفة
تبعت سنوات الحرب في سوريا حالات من التهجير والخسارات المعنوية والمادية، نساء خسرن أزواجهنّ في الحرب وبيوتهنّ وأبنائهنّ، وتحوّلت حياتهنّ من حالة التبعية التي كنّ يعشنها للرجال، إلى وضعية المسؤولية المطلقة التي تحتاج منهنّ أن يغيّرن من سلوكيات كثيرة تربين عليها وأجبرهنّ المجتمع على سلوكها، نتجت الحرية لدى هاته النسوة من الحاجة إليها، فهنّ لم يقمن بفرضها على المجتمع ولا بتبنيها كحالة يرغبن بتحقيقها، بل هي نتيجة لظروف محدّدة وُضعن فيها وجعلتهنّ بحاجة للفعل والحركة خارج نطاق الحدود المرسومة لهنّ، لا يمكننا اعتبار هذه التغيرات خطوة على طريق تحقيق المساواة، فهذه من أبسط حقوق النساء أن يخرجن ويعملن ويحققن أمانهن المادي والنفسي دون الاعتماد على أحد.
حرية المرأة مصطلح مُفرغ من معناه، فهذه الحرية تأتي تبعاً لشروط محدّدة وضمن إطارات معينة، قد يبدو أنّ المرأة اليوم في سوريا أكثر تحرراً من قبل، وقادرة على الفعل والحضور الاجتماعي، لكن هل هذا التغيّر حقيقي وتابع لتغيّر في آلية التفكير والذهنية الاجتماعية.
تبعاً للواقع يبدو أنّ التغييرات ما زالت على السطح ولا زال تواجد المرأة ضئيلاً، فالنساء ينكمشن على أنفسهن في الأماكن العامة وإذا كنّ منفتحات وأكثر حرية غالباً ما يبذلن جهداً كبيراً ليكون هذا الحضور مقبولاً ولا يواجه بالرفض والإقصاء، تُشكّل الحياة العامة تحدياً بالنسبة للنساء، فالتواجد فيها يتطلب منهنّ أن يتنكرن لطبيعتهنّ ويتماشين مع الرؤية التي تفرضها الثقافة الاجتماعية والتي يهيمن عليها الرجال، هناك مقاييس تحتاج المرأة أن تحققها لتكون مقبولة وغير ذلك تُصبح عرضة للنقد والتحرّش والعنف الجسدي واللفظي.
من جهة ثانية يصعب على الرجال التخلّي عن الحالة التي تحكم علاقتهم بالمرأة "الهيمنة" واستبدالها بالمساواة، فقد يخلق هذا التخلّي حالة من الفوضى بالنسبة لهم وخروج لأمور اعتادوا على التحكم بها عن سيطرتهم.
اقرأ أيضاً:
الامتياز الذكوري
يُعتبر الفضاء العام مكاناً آخر لفرض الأدوار، فالرجال لديهم دور في الأماكن العامة والنساء كذلك الأمر، وذلك يظهر من خلال سلوكيات بسيطة لكنّها راسخة كطريقة الحركة والكلام والتراتبية في العمل والتفضيلات الاجتماعية، لا زال جسد المرأة في الفضاء العام خاضع للآخرين فهو يلاقي القبول أو الرفض حسب تحقيقه للشروط الذكورية، والنساء بدورهنّ يسعين لكسب هذا القبول، ويعشن منقسمات بين جسدهن الفعلي والجسد المثالي الذي عليهنّ امتلاكه، هناك حواجز لا يمكن للنساء تخطيها ومساحات لا يستطعن اختراقها، والسبب الرئيسي هو السيطرة الذكورية على هذه الأماكن، إن كانت مقاهٍ أو شوارع ونوادي أو حتّى وظائف لا يستطعن امتهانها وأدوار قيادية لا يمكنهن الوصول لها، والتبريرات جاهزة في عقل الرجال، فهم مقتنعون بأنّ النساء أقل قيمة منهم وأضعف من جهة القدرات والذكاء، ويرى هؤلاء أنّ العواطف هي ما تحكم تصرفات النساء ولذلك عليهن الالتزام بالقواعد الأخلاقية التي وضعت لهنّ، ويجب أن يبقين خائفات من الاقتراب لأماكن لا تناسبهن.
لدى الشباب رؤية عامة بأنّ الأماكن العامة وجدت من أجلهم، فهم المسيطرون الفعليون عليها، وإن وجدت النساء فيها فعليهم دور حمايتهنّ ويتوجب على النساء من جهتهن ّأن يكن لطيفات خاضعات يولين أنوثتهن المرتبة الأولى وبعد ذلك تأتي باقي الاهتمامات، ولا يتوقف ذلك على جيل بعينه بل أن الشباب الأصغر سناً المواكبين لحركة الانفتاح لديهم نفس هذه التصورات ويدافعون عنها بشدة، وبذلك يبقى الجسد الأنثوي حبيس الصورة النمطية، موجود من أجل الآخر وتنحصر حركته وسلوكياته بما يناسب هذا الآخر، في الوقت الذي يزداد الانفصال بين النساء وأجسادهن.
حضور النساء في الفضاء العام
يبدو أنّ النساء أنفسهنّ يصعب عليهنّ التخلّص من الصورة النمطية عن وجودهنّ في الفضاء العام وما يتوجب أن ينجزنه بحياتهنّ، ويعود ذلك للاستعدادات الكبيرة لديهنّ ليخضعن للتنميط، فالتربية على امتداد أجيال فعلت فعلها، ولا يمكننا إيجاد امرأة لم تتعرض لنوع من العنف والاستغلال لوجودها في الأماكن العامة، وإن لم يكن واضحاً وصريحاً فغالباً ما يكون عنفاً مبطّناً بهدف الإقصاء والحدّ من الفعل والحركة.
وأصبحت النساء لديهنّ ميل متأصل لقبول الهيمنة الذكورية، فهن وإن رفضن عدم المساواة في العمل والتعليم، يتسابقن لتحقيق الصورة النمطية عن الفتاة المثالية إن كان من الناحية الجمالية وحتى السلوكية ويقبلن بالكثير من القيود التي تعيق نجاحهنّ كي يحصلن على الرضى المجتمعي، وينطبق هذا على نسبة كبيرة من نساء المجتمع السوري، فالبناء الاجتماعي يرتكز على مجموعة من القواعد والأخلاقيات التي يصعب تجاوزها أو المساس بها.
من جهة أخرى لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً كبيراً في زيادة ترسيخ الصورة النمطية، وتلقين النساء بكافة الوسائل عن ما يجب أن يكن عليه، ويؤثّر هذا بشكل كبير على الفتيات في عمر المراهقة فهنّ يتلقين بشكل يومي معلومات ومفاهيم خاطئة عن المرأة وحياتها وسلوكياتها، ويتحولن بشكل تدريجي لكائنات مُستهلِكة، تسعى لتحقيق حضورها في الفضاء العام وحتى الافتراضي عن طريق التزييف المستمر لصورتها وما تفضله وما ترغب به.
التعليم والعمل ودورهما
أحد أهم الركائز التي من الممكن أن تغير وضع المرأة في الفضاء العام هو التعليم، ليس التعليم الثانوي فقط بل الحصول على شهادات عليا والانخراط في سوق العمل، وزيادة الانتاجية وتحقيق الاستقرار المادي، فكلما ازداد تمثيل النساء في المهن إن كانت فكرية أو عملية كلما أصبح حضورها أكثر فاعلية.
وبانعدام خضوع النساء للشروط التقليدية الذكورية لوجودهنّ في الحياة العامة يستطعن أن يحققن المساواة ولو كانت بخطوات بطيئة، ويمكنهن خلخة هذا الثبات في شكل العلاقة بين الرجل والمرأة ووجودهما في الحياة العامة، بالإضافة لذلك هناك حاجة حقيقية لإبطال حالة التلقين التي تخضع لها النساء منذ صغرهن عن دورهن، وذلك يتطلّب تربية أسرية مختلفة، ومناهج مدرسية مختلفة، ورقابة على وسائل التواصل الاجتماعي ونوع المعلومات والمفاهيم التي تُطرح من خلالها، وهذا أمر يحتاج وقتاً وجهداً لكنّه ممكن ضمن حملات توعية ونشر للوعي بأهمية المعلومة ومدى تأثيرها على البنى النفسية للنساء والرجال والعلاقة بينهما.
.......
تُنشر هذه المادة بالتعاون بين شبكة الصحفيين الكُرد السوريين (SKJN) ومجلّة صُوَر في برنامج تعاون ضمن مشروع "المرآة"، حول "حقوق الإنسان والحريات العامة".