info@suwar-magazine.org

أزمة اليسار العربي: من الهزيمة إلى الذوبان في الإسلام السياسي

أزمة اليسار العربي: من الهزيمة إلى الذوبان في الإسلام السياسي
Whatsapp
Facebook Share

 

منذ هزيمة 1967 ورحيل جمال عبد الناصر، دخل اليسار العربي مرحلة تراجع طويلة، لم يستطع تجاوزها حتى اليوم. فقد مثّلت النكسة ضربة استراتيجية للمشروع القومي الاشتراكي، وأظهرت عجز الأنظمة اليسارية عن تحقيق وعودها الكبرى بالتحرير والوحدة والتنمية. ومع صعود موجات الانفتاح الاقتصادي والتحالف مع الغرب، بدأ النفوذ السياسي والاجتماعي لليسار بالانكماش تدريجيًا، ليتحول ببطء إلى هامش سياسي وفكري، فاقدًا دوره القيادي.

 

هذا التراجع لم يقتصر على فقدان السلطة، بل انسحب على المستوى الأيديولوجي أيضًا، حيث فقد اليسار بوصلته الفكرية، وأخذ يبحث عن قوى جديدة يحتمي بها أو يتحالف معها. في هذا السياق، وجد اليسار نفسه – ولو بتردد – يدعم الثورة الإيرانية عام 1979، باعتبارها حركة تحرّرية مناهضة للهيمنة الأميركية، رغم طابعها الديني المحافظ. لاحقًا، تكرّس هذا المسار مع تبنّي اليسار خطاب الدعم لحركات المقاومة الإسلامية مثل حزب الله وحماس، غاضّاً الطرف عن الفوارق العميقة في المرجعيات الفكرية.

 

وكان من الواضح أيضاً مع بروز أحزاب وتيارات يسارية مهجنة ووليدة عن انشقاقات في صفوف اليسار القومي، وقوفها مع السلطات الديكتاتورية في العالم العربي كسوريا ومصر والأردن والعراق، ولا يسعنا هنا في هذا المقال الحديث عن أمثلة إلا أنّها كثيرة.

 

اقرأ أيضاً:

 

                  الرأي العام والمحاسبة الأخلاقية في الإعلام والفن العربي

 

 

الربيع العربي: تكريس التماهي

 

جاء الربيع العربي ليزيد هذا المشهد تعقيدًا. ففي مصر وتونس، تحالفت قطاعات واسعة من اليسار مع التيار الإسلامي، لا سيما الإخوان المسلمين، تحت شعار "الديمقراطية أولًا" و"إسقاط الاستبداد"، متجاهلين التناقض البنيوي بين مشروع الدولة المدنية الحديثة الذي يتبناه اليسار، ومشروع الدولة الدينية الذي تطرحه الحركات الإسلامية.

 

 

واليوم، مع التطورات الأخيرة في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد وهيمنة الشرع الإسلامي على دمشق والمناطق الساحلية والداخلية، يعود اليسار العربي مرّة أخرى للتماهي مع الإسلام السياسي. حيث بات يُنظر إلى هذه الحركات على أنها امتداد للمقاومة ضدّ الاستبداد والاحتلالات الخارجية، رغم أنّها، في بنيتها وبرنامجها، تمثّل انحيازًا واضحًا لقيم محافظة ودينية تتعارض مع المبادئ اليسارية الكلاسيكية.

 

 

اليسار العربي واليسار الأوروبي: تحالف في ترسيخ الإسلام السياسي

 

لا يمكن فهم أزمة اليسار العربي بمعزل عن أزمة اليسار الأوروبي. فقد شهد اليسار الأوروبي، خلال العقود الأخيرة، تحوّلات أيديولوجية عميقة، جعلته يتبنّى سياسات الهوية أكثر من التركيز على الصراع الطبقي. واحدة من هذه التحولات كانت "التماهي مع الخطاب الإسلامي المهاجر في أوروبا"، بدعوى الدفاع عن الأقليّات، ومحاربة "الإسلاموفوبيا"، والدفاع -على سبيل المثال لا الحصر- عن حقّ ارتداء الحجاب في المجال العام.

 

هذا الموقف، الذي بدأ كدفاع عن الحقوق الفردية، تحول تدريجيًا إلى "تقديم غطاء سياسي وأخلاقي لمشاريع الإسلام السياسي داخل المجتمعات الأوروبية نفسها"، بما في ذلك جماعات مقرّبة من الإخوان المسلمين، أو منظّمات تتبنّى أجندات محافظة اجتماعيًا لكنّها ترفع شعارات الحريات.

 

وهذا التماهي انعكس مباشرة على اليسار العربي، الذي وجد في هذا الدعم الأوروبي "شرعية ثقافية" جديدة، تغضّ الطرف عن التناقضات البنيوية بين الإسلام السياسي ومبادئ التحرّر والمساواة والعلمنة. بل إنّ بعض وجوه اليسار العربي أصبحوا وسطاء بين هذه البيئات الأوروبية والمنظمات الإسلامية، بحجّة "توسيع التحالفات" و"دعم المقاومة."

 

الناشطيّة السياسية: يسار بلا يساريّة، أجندات بلا مشروع

 

في قلب هذه التحوّلات برزت ظاهرة "الناشطيّة السياسية المدعيّة الانتماء لليسار". هؤلاء الناشطون يتبنون خطابًا يساريًا لغويًا، لكنّهم يمارسون على الأرض دعمًا مباشرًا أو غير مباشر لمشروع الإسلام السياسي. يتمثل ذلك عبر:

 

- الترويج المستمر لفكرة أنّ الإسلام السياسي هو "الممثل الطبيعي" للفئات الشعبية، بدعوى أنّ الأكثرية مسلمون "بالولادة"

- تبرير الخطابات المحافظة الدينية بدعوى أنّها "تعبير عن ثقافة محلية"

- إدانة أيّ نقد للخطابات الدينية السياسية باعتباره "خطابًا معاديًا للإسلام" أو "متماهيًا مع الإسلاموفوبيا الغربية".

 

هذه الناشطية لم تعد تعمل في فراغ، بل ارتبطت مباشرة بأجندات "منظمات المجتمع المدني الممولة دوليًا"، والتي كثيرًا ما خضعت لاختراق أو سيطرة تيارات إسلامية سياسية، خاصّة من جماعة الإخوان المسلمين. وهكذا، تحوّل جزء من المشهد "المدني" العربي إلى واجهة ناعمة لمشروع الإسلام السياسي، بينما فقد اليسار استقلاليته وأدواته التنظيمية، ليصبح مجرد مشارك في لعبة أكبر لا يملك مفاتيحها.

 

هل يمكن إنقاذ اليسار؟

 

رغم هذا التدهور، لا يزال من الممكن التفكير في شروط بعث جديدة لليسار العربي، بشرط مراجعة جذرية وصادقة للمسار:

يجب على اليسار التحرّر من التماهي مع الإسلام السياسي، واستعادة الوضوح الأيديولوجي في الموقف من القوى الدينية السياسية، دون الوقوع في فخ التحالفات البراغماتية قصيرة النظر.

كما أنه من الضروري إعادة بناء العلاقة مع الطبقات العاملة والهامشيّة، لا عبر الخطاب، بل عبر التنظيم، والنقابات، والعمل الميداني المباشر، بعيدًا عن الوسطاء والمؤسسات المموّلة.

ومن المهم أيضاً تحصين الهوية الفكرية لليسار ضدّ الاختراقات الناعمة القادمة من "الناشطية المموّلة" أو "يسار المؤسسات"، عبر استعادة مركزية الصراع الطبقي في التحليل السياسي.

وأخيراً وليس آخراً، إقامة حوار نقدي مع اليسار الأوروبي، يوضّح الفرق بين الدفاع عن الأقليّات، وبين تقديم غطاء سياسي لمشاريع محافظة دينية تكرّس التمييز والرجعية.

 

إن أزمة اليسار العربي اليوم لم تعد أزمة سلطة فقط، بل أزمة وجود وهوية وفكر. لقد فقد اليسار استقلاليته، وانجرف نحو تحالفات ظرفية تُفرغه من مضمونه. بات اليسار رهينة بين تمويل غربي يضمن بقاءه الشكلي، وتحالفات دينية تهدد بتحويله إلى مجرد أداة داخل مشروع لا يشبهه.

 

الخيار الآن ليس سهلاً، لكنه ضروري: إمّا عودة جذرية لمشروع تحرّري مستقل يتحلّق حوله الفئات الشعبية باختلافها وتنوّعها، أو اندثار بطيء في مشهد سياسي يبتلع كلّ ما لا يملك مشروعًا حقيقيًا.

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard