info@suwar-magazine.org

الديمقراطية سيرورة لامنتهية ولايجب أن تكون ذات سقف

الديمقراطية سيرورة لامنتهية ولايجب أن تكون ذات سقف
Whatsapp
Facebook Share

 

أستاذ الفلسفة الغربية المعاصرة والباحث والمترجم خلدون النبواني:

 *حاوره : بيروز بريك

 

- تبرز الحرية كقيمة كبرى يتشبث بها المحتجون على واقعهم ضمن ربيع الثورات القائمة، فهل تبنى الحرية أو تقام ركائزها على أنقاض حراك سلمي نسفه جبروت القمع العاري والنزوع الغرائزي للسلاح كما في سوريا ؟ هل التجاوزات التي يقترفها الثوار أو المحسوبون على الثورة مقترنة بمقتضيات الظرف فقط أم أن تأثيراتها ستستطيل إلى المآلات كبنية الدولة أو شكل الحكم فيها ؟


اسمح لي هُنا أن أُقارب مفهوم "الحُرية" من وجهة نظر فلسفيّة خاصّة لأحاول انطلاقاُ منه أن انتقل من المفهوم إلى المؤسسة التي تُبنى عليها مؤسسات الدولة والمجتمع المدنيّ. إن ما أود التأكيد عليه هُنا هو ضرورة الانتباه والحذر الشديد من مُصطلح "الحُريّة" الذي قد لا يكون في النهاية سوى شركٍ أو سجنٍ أو قيد. إنني أدعو إذن إلى إقامة تمييزٍ ضروري بين التحرُّر من جهة والحرية من جهة أُخرى. فقد تتحول الحُريّة ـوهذا ما يحصل دائماًـ إلى سجنٍ حديديّ بحيث تَلتَهم مقولاتُ الحُريةِ الحريةَ نفسها وتحجزها في قالب مفاهيمي ضيق فتصبح الحريّة مسورة بجملة أفكار أو مفاهيم تقوم بالتقييد والتنميط والنمذجة. يحدث هذا على مستويين اثنين الأول خبيث يتعلق بخُبث المُصطلح أي بطرح المُصطلح لتكريس نقيضه. فيُطرح شعار الديمقراطية لمُمارسة الاستبداد وشعار الحرية لتكريس العبودية. لنتذكر مثلاً أن الثورة السورية التي قامت من أجل الحرية قد قامت ضد عبودية نظام يطرح الحرية شعاراً: "وحدة، حرية، اشتراكية". إنها ثورة بكل معنى الكلمة ضد مقولة الحرية السياسة المطروحة زيفاً من قبل نظام. إنها ثورة لفضح خُبث المُصطلح الذي لا يُمارس في العمق سوى النقيض المباشر لما يطرحه على السطح أو يُعلن عنه. أما المستوى الثاني وهو الأخطر هنا فهو يتعلق بمدة انتهاء صلاحية حُريةٍ ما. إن ما كان حُريةً في زمنٍ ما يتحول لاحقاً (سواء تحقق أما لا) إلى عائقٍ حقيقي في وجه الانعتاق والتقدُّم. لا توجد حُرية دائمة الصلاحية فالزمن يتجاوز كل شيء وما كان عامل تقدُّم في فترةٍ ما يُصبح -إذا ما تم تجاوزه- عامل تأخر وتخلُّف لا يمكن الاعتماد عليه في إطار واقع جديد. هنا تصدأ الحرية نتيجة عامل الزمن ويُصبح التنبه إلى ضرورة تجاوزها أمراً حاسماً للانعتاق وتحقيق التقدم. من وجهة النظر هذه فإن الحرية ما أن تتحول إلى مقولات ثابتة حتى تتصلب مقولاتها وتتحول إلى جدران سجنٍ مُخكم الإغلاق لا بد من تفكيكه. من هُنا الحُرية ليست مُطلقة ولا مُقدّسة ولا كونيّة ولا يجب أن تكون كذلك، بل يجب دائماً مراجعتها والتحررُ منها. إن المفارقة التي أدعو لها بكلامي هنا هي ضرورة التحرُر من قفص الحرية وسِجنها. بهذا المعنى أنا أدعو إلى التمييز ما بين التحرر والحريّة بحيث أفهم التحرر بوصفه عملية مُتكرّرة ضرورية تقوم بخيانة مقولات الحُرية التي تحجّرت وذلك لفتحها على إمكانية جديدة وأفق جديد...
إني على وعي بأن مفهوم التحرُّر الذي أطرحه هُنا لا يمكن اعتماده مؤسساتيّاً، فالدولة والمجتمع يحتاجان إلى قوانين ناظمة ثابتة ومعايير واضحة مُحدّدة وضعيّاً ليتم التشريع لها والحكم على أساسها، ولكن التحرُّر يجب أن يظل أُفقاً دائماً مُتاحاً يجب التيقظ له والتنبه لوجوده كإمكانية لتحرير الحرية التي تتحول لاحقاً إلى سجن مقولاتي مفاهيميّ. التحرّر هو ما يعتق الإنسان من مقولات الحُرية التي يسهل التلاعب فيها من قبل السُّلطة، أية سُلطة والتي تسعى بطبيعتها إلى السيطرة والهيمنة والاستعباد.


الآن وبالعودة إلى سؤالك فلا شك أن ما يحدث في سوريا من انتهاكات وفظائع وجرائم وسُعار طائفي لا يُمكن أن يؤسس للحرية. لا يُمكن بناء الحرية بالسلاح وبالآلة العسكرية وتشهد على ذلك كل تجارب التاريخ. ولكن التفاؤل يدفعني لللإيمان بأن هذه التجاوزات لا تُمثِّل إلا عرضاً طارئاً من أعراض الثورة سيزول لو تمت معالجته بشكلٍ صحيح. لا توجد دولة تقريباً لم تعرف حرباً أهلية في تاريخها، ولكن الكثير منها قد تجاوز الحرب المدنية إلى المجتمع المدني عبر عقد اجتماعيٍّ قانونيّ. حصل هذا في إسبانيا وفرنسا وبريطانيا وأمريكا الخ الخ.
لا أعتقد أن لهذا التوجه الوحشيّ الحالي أي مُستقبل في سوريا لا على المدى البعيد ولا حتى المتوسط. ما أن يتم أيقاف القتل حتى يتوقف صوت الرصاص ويعود السلام ليحتل مكانه شيئاً فشيئاً دون أن يعني ذلك بالضرورة أن الديمقراطية والحرية قادمتين لا ريب فيهما أو أنهما تحصيل حاصل...


- مستقبل الديمقراطية في سوريا يأخذ الأذهان إلى مواضع الشك والتخمين وربما التشاؤم أحيانا، ماهي رؤيتكم لمستقبل الديمقراطية في سوريا ؟ وهل سيكون بمقدور السوريين الوصول إلى صياغة عقد اجتماعي يكون رافعة لدستور يستوعب جميع المكونات والطوائف والشرائح ؟


الديمقراطية سيرورة لا منتهية ولا يجب أن تكون ذات سقف. سأكون مسروراً لو استطعنا في سوريا بعد الانتهاء من هذا النظام المارق أن نبدأ بداية ديمقراطية ولو متواضعة. ليس علينا أن نُبالغ في التفاؤل، لكي لا نصطدم ببلادة واقعنا بعد ذلك، فنتصور أن الديمقارطية ستتأسس في حياتنا ودولتنا القادمة بين ليلةٍ وضحاها. لا شك أننا سنعرف هزّات وخلخلات وانتكاسات إلى زمنٍ ليس بالقصير نسبياً، ولكن معيار النجاح يتحدد هنا بقدرتنا على تصحيح المسار كُل مرّة من جديد.
لستُ متفائلاً جدّاً بمستقبل الديمقراطية وذلك لعدّة أسباب. الأول كثرة الأيادي الغريبة والمشاريع الخارجية والداخلية في صناعة سوريا أو تفكيكها. والسبب الثاني هو عدم نضج النخب السياسية عندنا بحيث تستطيع أن تواجه هذه التحديات الهائلة واستلام دفة تقرير مصير الدولة والمجتمع بمعزل عن الأجندات الغربية أو الإقليمية المتصارعة في المنطقة.

 

يتطلب إنهاء الحرب حالة من حالات العقد الإجتماعي بالضرورة، ولكن الخطير هو شكل هذا العقد. فإذا كان يقوم مثلاً على تقسيم البلد كما حصل في العراق فهو كارثة حقيقية لا يقل خطورة عن الحرب نفسها وهو لن ينهيها بقدر ما يؤجلها ويبني حواجز جديدة بين السورين لتُضاف إلى حواجز الانتماءات الإثنية والطائفية التي تكشّفت عن صلابة لا نُحسد عليها. أما إذا كان العقد الاجتماعي يقوم على أساس المُحاصصة السياسية القائمة أصلاً على توزع طائفي وديني وعشائري ومالي..الخ كما هو الأمر في لبنان، فإن هذا كارثة أيضاً وهو سيكون أكبر عائق أمام الديمقراطية, فنحن هنا سنكون من جديد أما خُبث المُصطلح الذي يُطرح ليُمارس نقيضه. وما أعنيه بذلك أنه سيتم طرح "ديمقراطية" على الطريقة المحاصصة الطائفية اللبنانية التي هي بالأصل تقوم ضد الديمقراطية وضد تحقيق الحريات المدنية.


-عدا عن الصورة ومتعلقاتها من الفنون البصرية لم ينتج الحراك الثوري والاجتماعي والمدني منتجات ذات أثر على المستوى الفكري والأدبي أو الفني أوالنقدي هل هذا عائد لطغيان الشعبوية على الثورة، أم لكون النخبويين متراجعين للصفوف الخلفية ؟ وهل انتفى دور المثقف العضوي – على حد وصف غرامشي – ضمن الحراك السوري القائم ؟

 

دعني أختلف معك في توصيف الحالة. إنني أرى أن ما حصل قد فتح الباب على مصراعيه أمام تفجُّر المواهب المكبوتة وتفتيح الطاقات. لا شك أن أثر هذه الظاهرة لن يظهر مباشرة فهو يحتاج إلى زمن ليتكشّف ويتبلور ويُصبح قابلاً للتأمل فيه كيفاً وكمّاً. لا يمكن لنا أن نلحظ هذا الأثر بوضوح ونحن نعايشه يومياً. إننا نحتاج أن نقيم مسافة معه لنراه على "حقيقته". اليوم ومع لعلعة صوت السلاح لا يُسمع صوت العقل ولا يُلمح الأثر الفني الذي طغت عليه الدماء وهذا ما يُفسّر احساسك بتراجع النخبويين إلى الصفوف الخلفية. أنا على قناعة بأن ما أُنتج أدباً وفِكراً وفنّاً في خضم الثورة هو مهم جداً ويمثل ثورة بحد ذاته قياساً بمرحلة اليأس التي سبقته في ظل نظامٍ قضى على الفكر والثقافة وربط الفن (أقصد الدراما هنا) بالإنتاج التلفزيوني الربحيّ فقط.
أما بالنسبة لدور المُثقف العضوي فأنا لا أعتقد باختفائه كما يفترض سؤالك، بل على العكس تبلور حضوره ربما للمرة الأولى في تاريخنا الحديث. لقد طرحت مسألة الثورة فكرة المثقف والتزامه ومنحت المثقفين فرصة ليظهروا مدى قربهم الحقيقي من الشعب والناس ووعيهم بالتاريخ. في الثورة السوريّة يُقدِّم نموذج ياسين الحاج صالح فرادةً غرامشية في هذا المعنى. لقد انتمى الرجل للثورة بعمق وتكشَّف عن ارتباط عضوي بالمكان والإنسان. رفض الحاج صالح رفاهية الخارج قياساً بمعاناة الداخل بل وذهب إلى المناطق الخطرة والتي يتم قصفها ليرقب الأحداث عن قُرب مُعرّضاً حياته للخطر. ياسين الحاج صالح هو غرامشي الثورة السورية وهذا رأيي أعجبه ذلك أم لا. ولكن علينا أن ننتبه أن هذا النموذج يجب ألا يبتلع غيره من النماذج الثقافية التي قدّمتها الثورة السوريّة. إني أرى إن أخطر ما يمكن أن يحدث للثقافة هو محاولة عسكرتها أو أدلجتها وما أقصده هنا لا علاقة له بالنظام السوري وكتبتِه فأنا لا أراهم لا مثقفين ولا هم يحزنون. إنني أتحدث هنا عن جملة توجهات شعبوية صارت تطال المثقف والثقافة المعارضة من قبل المثقفين المعارضين أنفسهم. كأن يُصبح هناك صورة نمطية واحدة للمثقف تم تفصيلها على مقياس أحدهم وبالتالي كل من لا يتماها مع هذه الصورة القالب/ القالب السجن حتى يتم التشكيك بهويته وبوطنيته وبإنتاجه. بهذا المعنى لكي تكون مُثقفاً حقيقياً من وجهة نظر هذه الأيديولجيا "الثورية" (التي هي محافِظة ومُحنِّطة بالعمق) هو أن تنخرط في السياسة بالكامل بحيثُ تُستَغرَق فيها ويصبح من الخيانة بمكان أن تكتب فيما عدا ذلك أو أن تسمع أغنية أو أن تُحب. هُنا تفقد الثقافة حُريتها وتُصبح تابعة بالكامل للتوجه الإيدولوجي السياسيّ الذي وبدل أن تكون هي المؤسِّس والمُشرّعِن له تُصبح هي مؤسسة به ولا تستمد شرعيتها إلا منه.


الغرامشية ثقافة رائعة أصيلة وحقيقية، ولكنها ليست إلا صفحة واحدة من مُجلّد الثقافة اللامنتهي.
الثقافة بهذا المعنى هي الوطن وأكثر منه. فالوطن جزء من الثقافة وليس الثقافة كل الثقافة. لا شك أن هذه الرؤية التي أُقدمها هنا قد تبدو نخبوية أو برجوازية بالمعنى السيّء الذي تعطيه الماركسية لهذا المُصطلح إلا أنني حسّاس من أي إطار يمكن أن يؤطر الحرية ويقضي على الاختلاف. بهذا المعنى أنا أخون وطني على الطريقة الماغوطية لأُصرّح وأنا بكامل قواي الثقافية: حتى أنت يا وطني لستَ أغلى من حريتي...


-كيف تقيم تجربة الأكاديميين والمثقفين والباحثين في معترك السياسة ومجالس المعارضة وخصوصا تجربتك ضمن المجلس الوطني السوري ؟


جيدة وسيئة معاً. لقد تكشّف وكشف الأكاديميون عموماً عن تلك الهوة الواسعة حقيقةً ما بين النظرية والتطبيق؛ بين عالم ما يجب أن يكون الفكريّ وعالم ما هو قائم السياسيّ. وهذا ليس ذنبهم بالإجمال. لعل خطأ بعضهم يتمثّل في إصرارهم على السياسيّ الذي أثبتوا فيه فشلاً كبيراً وتخليهم عن الثقافي الذين اثبتوا فيه أنفسهم. تتعدّد التجارب هُنا وهناك، فهناك من استجاب لنداءات السُّلطة وإغراءاتها  فجرى وراء اليوميّ الزائل على حساب الثقافيّ الدائم. لقد سبق لأينشتاين مثلاً أن اختار المعادلات الخالدة على السياسة الزائفة عندما اقتُرح عليه رئاسة اسرائيل. لا أريدُ أن أدخل في معمعة مع أحد وهم أساتذتي وأصدقائي، ولكنني سأسمح لنفسي بالتعبير عن أسفي وصدمتي بما حصل معهم. لا شك أن هناك منهم من لديه ذاتية عالية تحكمت بنظرته وانخراطه فهو لم يرَ في الثورة لسورية سوى نفسه فيها كنبيٍّ جديد مُخلّص؛ وهناك من استجاب لمقولات طالما حاربها سابقاً ليتبناها بشكلٍ ارتداديّ باسم الواقعية السياسيّة على حساب ما يجب أن يكون؛ وهناك من تأخر في الانخراط بالثورة ولم ينتمِ إليها صراحةً إلا عندما تيقن أن النظام زائل وإن مصيره ومستقبله وسمعته وربما فائدته في تبني المُنتصِّر. مع كل هذه النقاط السلبية التي يُمكن أخذها عليهم كمثقفين وأكاديميين إلا أن هذا لا يُشكك بالتزام بعضهم وبرفضهم الظلم والذل والعبودية وانتماءهم الصريح والواضح للإنسان وللحرية...
عني شخصياً أيضاُ أقيم تجربتي القصيرة في المجلس الوطني بالإيجاب والسلب. لا شك أنني نادم عليها الآن واعتبرها خطوة خاطئة، ولكن هذه الرؤية السلبية جاءت مع الزمن ففي البداية لم يكن الوضع كذلك. كنتُ متوهماً حينها أن الثورة في سوريا لن تطول لتأخذ هذا المنحى التراجيدي الذي لا طاقة لي على احتمال آلامه. فهمتُ الموضوع يومها على أنه تحمُّل لمسؤلياتي "كمُثقف" في مرحلة انتقالية سريعة كما حصل في ثورتي تونس ومصر. لا شك أن إحساسي بالندم اليوم هو شيء إيجابي فقد تعرفتُ على نفسيّ أكثر وعرفتُ حدودي وفضاءاتي وعدم صلاحيتي لما هو سياسيّ. من بين المثقفين السوريين كان ياسين الحاج صالح الأبعد نظراً والأكثر التزاماً بالثقافة من الجميع بما فيهم أنا (لو اعتبرتُ نفسيّ مُثقفاً) فهو حفظ الثقافة من لوثة السياسة...
أفلاطون مُخطئ إذ ليس من مهمة الفيلسوف الحُكم ولا السُلطة السياسيّة فهو أفشل من يمكن أن يقوم بذلك.

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard