info@suwar-magazine.org

البنزين، ثورة الرائحة

البنزين، ثورة الرائحة
Whatsapp
Facebook Share

 

*فريق صور

 

في مدينة قامشلو المحتضنة مئات الأسر من دير الزور وحمص ثمّة العديد من الأطفال النازحين، الذين ربّما فقدوا ذويهم، أو اُغتصبت أبصارهم بجثث اقتحمت عالم طفولتهم ، ومشاهد دمارٍ وخراب عكّرت مشاغباتهم وتقافزهم. الألعاب تغيّرت، مشاهداتهم اكتسحها الغبار والبارود، ولم تعد تُّمتع حواسّهم المرهقة. المشهد برمّته غدا مخيّلة تنكأ الجراح وتحيل براءة الصبية والفتيات إلى حسرات وهموم .

 

في هذه المدينة الأرصفة مزدحمةٌ بالباعة أمام المحالّ، البيوت، مفارق الشّوارع وحتّى منصّف الطريق، باعةٌ لم نكن نراهم قبيل الثورة، وجوه غريبةٌ تماماً عن ملامح المدينة، الخوف الذي ينهال من أنفاسهم كفيل بالدّلالة على مآسيهم، قلق وجودهم في بقعةٍ ما كان أناسها - من غالبيّتها الإثنيّة - مجرّد وحوش(حسب ثقافة ورثوها من النّظام وبروباغندا أجهزتة الأمنيّة ).

 

الأعمال التي يزاولونها غير ملائمة لأعمارهم وأجسادهم التي تبدو كسرابٍ حين كنت أراقبهم من النافذة في منتصف الظهيرة مثل غَبش عدسة القنّاص حين يحاول جاهداً ضبط دريئته، المواد التي تباع ليست غريبة مثل أخلاق التجار عادةً، غير أننا ،دائماً، كنّا نراها تباع في مساحة مخصّصة لها أكبر بكثير من الحيّز المرسوم مثل سجنٍ انفرادي في الشارع، ما يحدّه عن الشارع بضع عُلبٍ بلاستيكيّة من المشروبات المندرين، الكولا، ميرندا تفاح وغيرها من أسماء المشروبات الغازية تُستعمل لعرض سائل غير قابلٍ للشرب، مع العلم أنّه أيضاً يتمّ شفطه عن طريق الفم من خلال قطعة خرطوم. البنزين؛ المادّة الأكثر استخداماً وطلباً في المدينة، الارتفاع الملحوظ في السعر وشحّ المادّة في المدينة جعلا من التجار يتوجّهون لجلب كمّيات كبيرة منها من مناطق مختلفة في جنوبي محافظة الحسكة، ومن محافظة دير الزور وريف الرقة أيضاً.

 

في هذه المحافظات والمناطق استطاعت بعض الجماعات استخراج النفط الخام من خلال ثقب الأنابيب الممتدّة من الآبار والمارّة في أراضيها، ومن ثمّ يتمّ استخلاص مادّة البنزين عن طريق مصافي محليّة الصنع، والتي تعدّ من أخطر الاختراعات على الشعب السوري والبيئة معاً، لتصريف هذه المادّة في الأسواق تطلّب وجود مندوبين ومراكز عديدة للبيع، لأنّها تعتبر من المواد المهرّبة إلى المدينة من جهة، ولرداءة نوعيّتها مقارنة مع منافسها البنزين العراقي المهرّب أيضاً من جهة أخرى. الأطفال النازحون والذين لا تتجاوز أعمارهم الخامسة عشرة، كانوا الأكثر استغلالاً من قبل التجّار والمهرّبين الذين قاموا باستقطاب عددٍ منهم ليكونوا باعة للبنزين في الشوارع مُستغِلّين حاجتهم للعمل.

 

الرائحة من شأنها أن تضفي مع الأيام شعوراً بنشوة غير معلنة قد توازي أيّ طقس طفولي ضمن بيئة مستقرّة كالذهاب للمدرسة، أو اللعب أو شرب العصير. إنّهم يعتادون الحالة، ويتماهون معها، ويحتسون منطق السوق والحاجة كبقايا البنزين التي تنزل إلى حلوقهم المخدوشة عند شفطها أو عندما يتلمّظونها بعد البصق .

 

السياسة والعسكرة جعلتا الكثير من المفاهيم تتغيّر، لا سيّما في عالم الطفولة التي استبقت وعيها المُدرِك لجزئيّات كانت السّبب الرئيس في قتل ما كانوا في أمسّ الحاجة إليه في هذه المرحلة، لا بدّ إذاً من العمل على عدم تشويه براءة الأطفال، وإبعادهم عن مظاهر العنف والوحشيّة، والحفاظ على ما تبقّى من روحٍ مرهفة لديهم؛ لنحمي رونق الإنسانيّة المتبقية في عالم بات من الصّعب أن ينفض الغبار عن وجوه أُناسه المثقلة بالكراهية والنّفور وشهوة الدّم والمال .

 

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard