info@suwar-magazine.org

رصاصتـــــان لـــــم تقتــــــــلا مجـــــد

رصاصتـــــان لـــــم تقتــــــــلا مجـــــد
Whatsapp
Facebook Share

 

من ذاكرة الحراك السّلميّ في حمص


 *فادي الداهوك 


 حانت ساعة الإفراج. مشى مع عنصر الأمن إلى غرفة الأمانات، حيثُ جُرِّد حين قدومه من كلّ ما يكون بحوزته. كانَ ينقصُه قميص وحذاء، وأمام الرّغبة الجامحة الّتي قبضت على تفكيره بتحسّس ضوء الشّمس اختار أقرب ما طالته يداه.


على باب فرع المخابرات الجوّيّة بحمص شاهدَ  سيارة أجرة، بدا له أنّ صاحبها حصلَ على باب رزقٍ دائم من خلال إيصاله للمعتقلين المفرج عنهم. 
دقائق قليلة وصلَ أمام منزله، أعطى السّائق المائة ليرة الّتي أعطوه إيّاها عند الإفراج، فأشار إلى أنّه يريد المزيد، طلب منه مجد الانتظار ليحضر له باقي المبلغ من المنزل فردّ السّائق عليه: "خلص مسامح، الله يعينك".


أوّل شخص تعرّف إلى مجد كان " أبو عديّ " صاحبُ محلّ صغير لبيع أدوات البناء بجوار منزلهم. لم يقترب الرّجل من مجد، فشكله المتّسخ  وشعره الكثّ وحتّى الحذاء الّذي اختاره في الفرع  يكفلون للنّاظر إليه أن يبقى واجماً دونما حركة.


خلال أولى خطواته إلى المنزل وهو يصعد الدّرج، كان يفكّر في شكله، فسائق سيارة الأجرة قال له: "الله يعينك" وجارهم أبو عدي لم يقترب منه. وصلَ أمام الباب، قرعَ  الجرس فلم يفتح أحد.


يقول مجد أنّه لا يستطيع تقدير الوقت الّذي قضاه نائماً على الدّرج، انهار من التّعب بعد سبع شهور قضاها معتقلاً داخل فرع  المخابرات الجوّيّة دون علم أهله الّذين لم يتواجد أحد منهم في المنزل لحظة وصوله. وصلت أمّه من السّوق أخيراً. في تلك الفترة الّتي احتوت تفاصيل عدّة حدثت بعيداً عن حيّهم أواخر العام 2011 كانت بيوت حيّ بابا عمرو لاتزال آهلة وقائمة.


وجد مجد عملاً في حيّ الوعر، فوزّع وقته بن العمل والتّظاهر. ويذكُر أنّه كان في يوم الثّلاثاء 27-12-2011 يتأمّل خيراً مثلَ معظم رفاقه بعد أن أعلنت لجنة المراقبين العرب نيّتها زيارة أحياء حمص المنتفضة، فبدأ مع رفاقه بالتّحضير لاستقبالهم، ويقول: "في السّاعة الحادية عشرة صباحاً ذهبت أنا وصديقي محمود إلى حيّ الخالديّة، وبعد صلاة الظّهر كان النّاس يتجمّعون بأعداد هائلة في الحيّ، وحضر مشايخ حمص سهل جنيد ومحمود دالاتي، وكان القرار أن نتوجّه إلى السّاعة، ونحاول الاعتصام فيها. رفض الشّيوخ هذا الأمر، لكن لم يلتزم أحد بما أوصوا به، فسرنا حوالي 500 شخص في البداية نحو السّاعة  وفي مقدّمة الصّفّ عبد الباسط السّاروت".


هو التّقليد الّذي لم يتخلّ عنه أهل حمص في كلّ جمعة، ورغم إحاطة الموت بهم من كلّ الجهات في ذلك اليوم تحديداً، أصرّوا على متابعة معركتهم الموعودة في تلك الجمعة بالذّات، حتّى يثبتوا للعالم أنّ ما يجري في سوريا هو ثورة، على عكس ما يدّعي النظام. ويتابع  مجد حديثه عن ذلك اليوم قائلاً: "علقنا في شارع سينما الكندي بين جورة الشّيّاح وقهوة الرّوضة، كنّا خائفين، وأعداد هائلة من الأمن والشّبّيحة انتشرت في المنطقة، كما أنّ القنّاصة اعتلوا أسطح المباني المجاورة، كان هناك شارع فرعي يطلّ على شارع الدّبلان، في هذه الأثناء كان الأمن يعتقل كلّ من استطاع الإمساك به، وصرنا بحدود 300 شخص، دخلت أنا إلى بناء سكاي فيو، وجدت طفلة صغيرة ضائعة أخذتها معي واختبأنا في البناء. فكّرت أن أقطع شارع البريد نحو الدّبلان، لكنّ أمامنا نادي الضبّاط اعتلاه قنّاصون ومسلّحون للأمن، وبناء المحافظة كان ينتشر حوله عناصر أمن وعلى سطحه قنّاصة. قلت للطّفلة أنّنا سنركض لنذهب إلى الشّارع الثّاني، التفتّ إلى اليمين فوجدت صديقي محمود آتياً ليقطع الشّارع، أطلقوا عليه النّار فاستشهد على الفور، أمسكت بالطّفلة وركضنا، رميتها إلى طرف الشّارع، فأطلقوا النّار عليّ وأصابوني في قدمي، حاولت الزّحف باتّجاه بناء مقابل الشّارع فأصابوني برصاصة ثانية في بطني، استطاع بعض الشّبّان الوصول إليّ وسحبوني إلى ما يمكن تشبيهه بغرفة مهجورة، فوجدت نفسي بين أربعة جثث".


كثيرٌ من السّورييّن استشهدوا بسبب تعذّر نقلهم إلى المشافي لأنّ الأمن كان يمنع سيّارات الإسعاف من الوصول إلى الجرحى، وإن استطاع أحد أن يصل إلى جريح وينقله، فربّما تصيبه رصاصة قنّاص. مجد هو الشّخص الوحيد الّذي بقي على قيد الحياة من أصل خمسة شبّان كانوا متكوّمين فوق بعضهم البعض، ويروي تلك التّفاصيل قائلاً: "القنّاصون الّذين اعتلوا نادي الضّبّاط كانوا يطلقون النّار بكثافة أعاقت نقل الجثث ونقلي إلى المستشفى، فطلبت من الشّبّان الّذين انتظروا توقّف إطلاق النّار أن يذهبوا ويتركوني".


يحتفظ مجد بمقطعٍ مصوّر نشره أحد الشّبّان الّذين أنقذوه على "اليوتيوب" يظهر فيه  وهو مصاب ومرميّ إلى جانب أربعة جثث، ويجادل شخصاً فيبتسم ويتحدّث عن سبب الجدل الّذي حصل بخجل ويقول: "بعد تأخّري عن العمل واتّصال مديري، كنت على وشك أن يغمى عليّ. رنّ جوّالي مجدّداً، قرأت على شاشة الجوّال بصعوبة اسم حبيبتي، فأخذ أحد الشّبّان الّذين انتظروا بجانبي الجوّال وردّ عليها، انزعجت كثيراً عندما قال لها إنّني مصاب".


تمكّن الشّبّان فيما بعد من نقل مجد إلى مستشفى دار الشّفاء في الدّبلان، لكنّ المستشفى رفض استقباله بحجّة أنّه غير مجهّز لاستقبال حالات مثل حالته. يذكر مجد أنّ حالة بكاء هستيريّة أصابت الممرّضات اللّواتي رأين أحشاءه خارجة من بطنه، وكان الطّبيب يصرخ بهم ليضمّدوا له الجرح قبل أن يُنقل إلى مستشفى آخر يقدر على استقباله وعلاجه.


وصلَ مجد بعدها إلى نقطة للهلال الأحمر في غوطة حمص، وكان فاقداً وعيه، ليستيقظ أخيراً في مستشفى البرّ في حيّ الوعر، وجراحه مضمّدة ونزيفه متوقّف، لكنّ الشّظايا ما زالت في قدمه. ولأنّ قصّته مع أجهزة الأمن لم تنتهِ عند إصابته، ظلّ اسمه معمّماً على الحواجز الأمنيّة بتهمة الشّغب، إلى أن استطاع الخروج من حمص، والوصول إلى لبنان ليضاف اسمه إلى عشرات آلاف الأسماء من الّذين سبقوه.

 

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard