info@suwar-magazine.org

المناطق الحرّة.. موجة العولمة وترهّل السيادة...

المناطق الحرّة.. موجة العولمة وترهّل السيادة...
Whatsapp
Facebook Share

 أحمد إلياس 

 

المناطق الحرّة آليةٌ قديمةٌ من آليات التجارة والتنمية، تعود أقدم تجاربها إلى عصر الإمبراطورية الرومانية، إذ تشير المعلومات إلى تخصيص جزيرة DELOS في بحر إيجة لأغراض إعادة الشحن والتخزين وإعادة التصدير إلى خارج حدود الإمبراطورية. وفي العصر الحديث عمدت البلدان الاستعمارية إلى إنشاء المناطق الحرّة، ولا سيما في الموانئ الاستراتيجية، كأداةٍ للربط مع مستعمراتها (جبل طارق 1704 م؛ سنغافورة 1819 م؛ هونغ كونغ 1842 م).

 

 

وبالرغم من قدم فكرة المناطق الحرّة وتطبيقاتها إلا أننا لا نستطيع الوقوف على تعريفٍ موحّدٍ لها، إذ تختلف تشريعات وقوانين البلدان في تناولها للموضوع، بل إننا نجد اختلافاً حتى في استخدام المصطلح. فإلى جانب مصطلح المنطقة الاقتصادية الحرّة يستخدم البعض مصطلح المنطقة الاقتصادية الخاصّة أو المنطقة التجارية الحرّة أو المنطقة الحرّة التصديرية، لا سيما في ظلّ تطوّر ماهية وأنماط الأنشطة التي تتمّ في المناطق الحرّة، التي لم تعد قاصرةً على الشكل التقليديّ للمناطق الحرّة التي تتخذ شكل منطقةٍ محدّدةٍ جغرافياً لا تخضع السلع الواردة إليها أو المصدّرة منها للحقوق الضريبية أو الجمركية، بعد أن ظهرت إلى الوجود المناطق الحرّة الاستثمارية والمناطق المصرفية الحرّة والمناطق الصناعية العلمية ومناطق التأمينات الحرّة. لذلك فإن أغلب التعريفات تتناول جانب الشكل دون الإحاطة بالمضمون المتسارع في التطوّر، وإن كنا نستطيع تحديد ثلاثة ملامح مشتركةٍ في معظم التعريفات، وهي:

 

 

- المنطقة الحرّة مساحةٌ جغرافيةٌ محدّدة.

- لا تخضع للقانون الجمركيّ أو الضريبيّ للدولة التي توجد فيها.

- تُمارَس فيها الأنشطة التجارية والصناعية والخدمية.

 

بطبيعة الحال، تتعدّد الأهداف التي ترمي إليها البلدان عند اتخاذ القرار بإنشاء المناطق الحرّة، حسب ظروف كلّ بلد، بحسبانها خطوةً لدمج الاقتصاد الوطنيّ بالاقتصاد العالميّ، والعمل على مواكبة التطورات والتأقلم معها أولاً بأول. وفي مقدمة هذه الأهداف إنشاء المشروعات الإنتاجية الصناعية الموجّهة إلى التصدير، بغرض زيادة حصيلة البلد من العملات الأجنبية والمساعدة في تخفيض عجز ميزان المدفوعات. كما أن الاستثمارات الأجنبية، بما تورده من أساليب إنتاجٍ وإدارةٍ حديثةٍ، تساعد على نقل التكنولوجيا. بالإضافة إلى التخفيف من حدّة البطالة وإيجاد فرص عملٍ جديدةٍ للشباب، وتخفيف الضغط السكانيّ عن مناطق العاصمة والمدن الكبيرة ولفت الأنظار نحو المناطق المهمّشة والنائية بغرض تنميتها اقتصادياً.

 

 

لتحقيق هذه الأهداف وغيرها لا بدّ من توافر مقوّماتٍ أساسيةٍ لدى اتخاذ القرار بإنشاء المنطقة الحرّة، تتجسّد بالدرجة الأولى بوجود قرارٍ سياسيٍّ يهدف إلى التوفيق بين مصالح البلد المضيف والشركات الساعية لتعظيم أرباحها. فالشركات المستثمرة تهتمّ بمخاطر عدم الاستقرار السياسيّ وعدم اليقين، إلى جانب وجود اقتصادٍ كليٍّ مستقرٍّ ومتحرّرٍ من التدخلات الحكومية، ونظامٍ ماليٍّ فعّالٍ يعتمد المعايير العالمية، وبنيةٍ تحتيةٍ جيدةٍ قادرةٍ على خدمة المشاريع المتوطنة في المناطق الحرّة، ووجود سوقٍ داخليةٍ واسعةٍ أو موقعٍ استراتيجيٍّ يسهّل التواصل مع الأسواق المجاورة، بالإضافة إلى الأيدي العاملة الرخيصة والماهرة والمتدرّبة.

 

وبطبيعة الحال، يستدعي هذا النشاط الاقتصاديّ الهائل، بتشعباته الاجتماعية والسياسية، وجود تنظيماتٍ تشريعيةٍ وقانونيةٍ واضحة المعالم تتمتع بالثبات النسبيّ، بما تتضمّنه من حوافز ومزايا، وتقترن بالشفافية والحيادية وتمنع الاحتكار، وتحدّ من مظاهر الفساد، بموازة سلطةٍ قضائيةٍ فعالةٍ تحمي القانون.

 

في الواقع، من الملاحظ على الصعيد العالميّ ازدياد وتيرة إنشاء المناطق الحرّة منذ أواخر عقد الخمسينيات من القرن الماضي، بموازاة حصول تطوّرٍ كبيرٍ في ماهية نشاطها والغرض منها وحيّز انتشارها الجغرافي، بحيث ارتفع عدد المناطق الحرّة من 25 عام 1970 إلى 5000 منطقةٍ حرّةٍ عام 2006 - منها 3000 منطقةٍ مخصّصةٍ للتصدير - موزّعةٍ في 120 بلداً حول العالم، تعود ملكية %80 منها للقطاع الخاصّ، وتوفر نحو 41 مليون وظيفةٍ، وبعوائد تصديرٍ تناهز 600 مليار. وبعبارةٍ أخرى، باتت المناطق الحرّة نموذجاً مصغراً لعمليات تدويل الإنتاج وعولمة الأسواق.

 

فعلى سبيل المثال، تعدّ المنطقة الحرّة ماكيلا دوراس في المكسيك من أشهر المناطق الحرّة في العالم، إذ تتمركز فيها أكثر من 2100 شركةٍ معظمها من الشركات الأمريكية، ويُستخدم فيها حوالي نصف مليون عاملٍ مكسيكيّ. وتدرّ المنطقة كميةً كبيرةً من العملة الصعبة، فتعدّ المورد الثاني لدعم ميزان المدفوعات المكسيكيّ، بعد النفط.

 

إن إنشاء المناطق الحرّة يستوجب التوفيق بين الأبعاد الاقتصادية للمناطق الحرّة بحسبانها تندرج ضمن الاستثمار - معظمه أجنبيّ - واستقلالها الجمركيّ، وبعبارةٍ أخرى تأثيرات آليات اقتصاد السوق الحرّ، وبين البعد السياسيّ الهادف إلى الحفاظ على مصلحة البلد وسيادته. وبما أنه لا يمكن ضمان العائد الاقتصاديّ لإنشاء المناطق الحرّة، تبعاً لتوجّهات رأس المال وشروط التنافسية وتحكّم القرار السياسيّ أحياناً بوجهة الاستثمارات، فإن تقييم النتائج الاقتصادية وغير الاقتصادية لإنشاء المناطق الحرّة يرتّب آثاراً قانونيةً تكشف حدّة تأثير آليات العولمة من شركاتٍ متعدّدة الجنسيات على حساب البلد المضيف.

 

فالمتطلبات الأساسية لإقامة المناطق الحرّة تشكل تقييداً كبيراً لسيادة الدولة، كما هو الحال مع ضرورات توفير بيئةٍ قانونيةٍ وتنظيميةٍ مرنةٍ عبر تشريعاتٍ خاصّةٍ تحدّ من حقوق العمال في التنظيم أو في الإضراب، وعدم تحديد سقفٍ معينٍ للحدّ الأدنى من الأجور، ومنح نسبةٍ كبيرةٍ من الإعفاءات والمحفّزات المالية والضريبية، وتحرير التجارة بالنسبة لصادرات الشركات المستثمرة وإعفاء وارداتها من الرسوم والضرائب، وعدم تحميلها نفقات حماية البيئة، إلى جانب تكفُّل الدولة بإنشاء البنية التحتية اللازمة وتوفير مستلزمات الإنتاج -كالمواصلات والطاقة..- وتقديم الأراضي مجاناً أو بأسعارٍ زهيدة. وهو ما يعني تنازل الدولة عن جزءٍ من سيادتها كشرطٍ أساسيٍّ للإيفاء بمتطلبات إقامة المناطق الحرّة.

 

وينصبّ في ذات النتيجة الاستغلال المفرط للبيئة ونسب التلوّث العالية في المناطق الحرّة، نظراً لسعي الشركات العاملة لإنتاج أكبر قدرٍ من السلع مع التقليل من تكاليفها الإنتاجية والتزاماتها ومسؤولياتها، ومن ضمن ذلك تكاليف حماية البيئة. فعلى سبيل المثال، تشير العديد من الدراسات إلى أن الشركات العاملة في منطقة التجارة الحرّة في ماكيلا دوراس -في المكسيك- لا تتوافر لديها بياناتٌ نظاميةٌ عن تصريف ما يقارب %95 من نفايات إنتاجها، وأن نسب التلوّث في المناطق المجاورة ازدادت بصورةٍ كبيرة، وأن المياه المستخدمة للشرب تتضمن نسباً عالية من التركيزات تزيد بمقدار ستة آلاف مرّةٍ عن المعايير الأمريكية للمياه الصالحة للشرب. وقد ازدادت في المنطقة الأمراض والتشوّهات، وخاصةً للأطفال حديثي الولادة.

 

ويضاف إلى ما سبق ترسّخ ظاهرة استغلال حقوق العمال، على أساسٍ مفاده أن المناطق الحرّة تعني حريةً أكبر للأعمال وحريةً أقلّ للأشخاص. فالهدف الأساسيّ لتمركز الشركات في المناطق الحرّة هو الاستفادة من المزايا المتوافرة، وخاصةً فيما يتعلق بكثافة الأيدي العاملة وتدنّي الأجور. ويعبِّر البعض عن ذلك بأن "قادة الدول الوطنية يفقدون أساس سيطرتهم على التراب الوطنيّ، ويتوجب عليهم أكثر فأكثر الخضوع لمطالب العالم الخارجيّ؛ لأن الأجانب صاروا داخل أسوارهم".

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard