info@suwar-magazine.org

حبٌّ وسط الخراب

حبٌّ وسط الخراب
Whatsapp
Facebook Share

 

 

قراءة في رواية "المتشائم"

 

حربي محسن عبد الله

 

"المتشائم" عنوانٌ مفارقٌ لروايةٍ مليئةٍ بالحياة للكاتب رونان بينيت، صدرت مؤخراً عن دار التكوين بدمشق، بترجمة أسامة إسبر. أقول "عنوان مفارق" لأن المتشائم هنا ليس نقيض المتفائل، بل هو الذي يدقّق متأمّلاً في كلّ ما يدور حوله وكلّ مَنْ يلتقي به أو يتعرّف إليه، ثم يمضي متسائلاً عن الصدى الذي ينعكس في ذات المراقب، ذلك الصدى المتردّد الذي يدوّي للتذكير بشخصياتٍ ومواقف سالفة.

 

أستذكر هنا مقطعاً أورده عبد الرحمن بدوي في كتابه "الموت والعبقرية" نقلاً عن كاتبةٍ روسيةٍ، تقول فيه: "لا أصلح أن أكون حبيبةً أو صديقة، فكلّ ما حولي ومن حولي يتحوّل إلى موضوعٍ للتأمل البارد.. القاتل". بين يدينا روايةٌ مسهبةٌ في تفاصيل الحياة والعلاقات الإنسانية، وانسيابيةٌ في سرد الأحداث ووصف الأشخاص وتقييمهم المباشر.

 

يقف الكاتب طويلاً أمام الشخصيات ويحاول رسمها بالكلمات. يقف عند حالة البطل الدفاعية عن التقييم الذاتيّ للآخرين الذي يرافقه عدم رضىً عن الذات ونقدها باستمرار، لما تضعه من قوانين لتقييم الأشخاص، فهو في حالةٍ جدليةٍ متواصلةٍ بين الأمر ونقيضه. إنه، بتعبيرٍ آخر، ينظر إلى أيّ شخصٍ وأيّ حدثٍ من زوايا مختلفةٍ، فيطلعنا على الشيء ونقيضه في الوقت نفسه. اختارت صحيفة لوس أنجلوس هذه الرواية كأفضل روايةٍ لعام 1999، وحظيت بمديحٍ رفيعٍ على طرفي المحيط الأطلسيّ.

 

فهي روايةٌ مشوقةٌ، و"حكاية حبٍّ وسط الخراب... رُويتْ بتشويقٍ، وتسبر الوضع البشريّ على نحوٍ عميق"، على حدّ تعبير مارك ستشوغول في صحيفة فيلادلفيا إنكوايرر. أما توني ماسترو جيو جيو فقال، في صحيفة سان فرانسيسكو كرونيكل: "رداً على من قال إن الإثارة الأدبية دُفنتْ مع غراهام غرين، تبرهن رواية المتشائم لرونان بينيت أن الروايات التي تحتوي على المكائد السياسية ما تزال قادرةً على أن تكون معقدةً أخلاقياً وغنيةً بالشخصيات... إن بينيت موهبةٌ رئيسيةٌ وذهنٌ من المرتبة الأولى".

 

في ثنايا الرواية يأخذ تقلب المزاج مداه لدى البطل الذي يروي حكايته مع حبيبته، وتوقه إلى التواصل معها رغم الخلافات المستمرّة التي تفضحها الأيام ومجريات الأحداث في بلادٍ بعيدةٍ عن أرومة الحبيبين وأصولهما الأوروبية. في قلب الرواية قصّة حبٍّ وهيامٍ بين الروائيّ جيمس جيليسباي والصحفية إنيس سابياني.

 

يتبع الحبيب حبيبته إلى الكونغو البلجيكية قبل الاستقلال تماماً. كانت علاقتهما تتدهور، وكانا على عكس ما يكونه حبيبان: فقد كان جليسيباي بعيداً عن السياسة ومتيّماً بإنيس إلى درجة المرض، بينما هي مهووسةٌ بالدراما السياسية المتكشفة للأحداث في الكونغو، وعالقةٌ بالتاريخ ومتأثرةٌ بدور البطولة الثورية الذي يمثله باتريس لومومبا. وفي تلك البلاد التي كُتب عليها أن تدمّر نفسها قبل أن تولد من رمادها ينغمس جيليسباي في العنف والخيانة، ويدفعه الحبّ إلى فعلٍ نبيلٍ أخيرٍ يعرّضه للاعتقال ويدخله في دوّامة الأحداث السياسية التي لم تكن تعنيه لا من قريبٍ ولا من بعيد. بينما تقع إنيس في حبّ رجلٍ أفريقيٍّ من الدائرة المقرّبة لباتريس لومومبا، ثم تنغمس في الروح الثورية الطوباوية الحالمة التي انتشرت في زمنٍ ظهر فيه لومومبا، ذلك الاسم المحفور بالذهب على كلّ شبرٍ من القارّة السمراء، مناضلٌ ضحّى بحياته رخيصةً زهيدةً من أجل تحقيق هدفه. ومن ثمّ بات رمزاً للوطنية ومناهضة الاستعمار، لا في أفريقيا فحسب بل في العالم الثالث كله. وهو من قال مرّةً، منبّهاً كلّ الحالمين من حوله: "أيها الأخوة الأعزّاء في الكفاح الأعزّاء في الفقر، إن استقلالنا كلمةٌ جوفاء بدون إمكانات التنمية الاقتصادية والبشرية".

 

ولد لومومبا عام 1925 في قرية إقليم كاساي في الكونغو. وحدث الانعطاف الحاسم في حياته في أكتوبر 1958، حين بادر إلى تأسيس الحركة الوطنية الكونغولية.

أصبح هدفه هو الحصول على الاستقلال وتدعيم الوحدة الوطنية والدعوة إلى إقامة دولةٍ كونغوليةٍ موحّدةٍ ذات حكومةٍ مركزيةٍ قوية، وفي الوقت نفسه تنمية النشاط الاقتصاديّ لإشباع حاجات الأفراد عن طريق التوزيع العادل للدخول. 

وهو الاتجاه الذى أزعج السلطات الاستعمارية والمصالح الاقتصادية الأجنبية، خاصّة أنه كان يعمل بالصحافة إذ كان يترأس تحرير جريدة "الاستقلال" الناطقة بالفرنسية، فكان ضحية تآمر هذه القوى وتحالفها مع قوىً ومصالح في داخل الكونغو.

 

يدخلنا الكاتب إلى تلك العوالم البعيدة القاسية بتفاصيلها عبر العلاقات المتشابكة بين إنيس وأصدقاء لومومبا وأحلامهم وحياتهم، وإلى تفاصيل حياة المستعمرين البلجيكيين ونمط حياتهم. ويعود ويصف مشاعر جيليسباي وهو يقع فريسة الشك والغيرة والمكائد السياسية، وكيف يستخدمه عميلٌ لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية كطعمٍ يصطاد به المقرّبين من حبيبته إنيس من الأفارقة الذين يدورون في فلك لومومبا، المؤمنين بقضيته والمناضلين من أجل الاستقلال. تأخذنا أحداث الرواية لترسم لنا صورةً عما كان يجري في تلك الزاوية من العالم، عن ضجيج الحياة وصخبها.

 

الرواية مليئةٌ بالحبّ والهيام والجنس والدسائس السياسية والخيانات والتضحية والمواقف النبيلة. ومن هنا يأتي التشويق ويعود السؤال إلى المفارقة التي يطرحها العنوان للوهلة الأولى. فبدون الخوض في تفاصيل الرواية والدخول إلى عمق أحداثها، لا يمكن لمن يلقي نظرةً على العنوان أن يستشفّ المضمون. من هنا نتوقف أمام ما قاله كاري جيمس في صحيفة باسيفيك سن عن الرواية: "هناك رواياتٌ تكون فيها جميع الشخصيات حقيقيةً وكاملةً ومعقدةً ومليئةً بالأضواء والظلال، وقابلةً للتصديق بشكلٍ كامل. هناك رواياتٌ يسحرك فيها وصف المكان والحدث. وهناك رواياتٌ الكتابة فيها واضحةٌ ودقيقةٌ ويقف عالمها أمامنا مفتوحاً ومتماسكاً بشكلٍ كامل. إن رواية المتشائم هي إحدى هذه الروايات. إنها في غاية الروعة".

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard