المجتمع المدني من منظور مختلف
جاد الكريم الجباعي
نتطلع في هذه المقالة الموجزة إلى تفكيك أدلوجة المجتمع المدني وتضاده القطعي مع "المجتمع الأهلي"، سواء نظرنا إليه، أي إلى المجتمع المدني على أنه "منظومة الحاجات"، حسب هيغل، أو على أنه "المسرح الواقعي للتاريخ" حسب ماركس. هاتان النظرتان كلتاهما لا تخرجان "المجتمع الأهلي" من دائرة "منظومة الحاجات"، ولا تستبعدان كونه "المسرح الواقعي للتاريخ"، ولا تنفيان كونه شكلاً من أشكال "الحياة الأخلاقية". ولكنهما تعينان معنيين مختلفين ومتباينين لما هو التاريخ، إما بصفته "حركة اعتماد" تكرارية أو دوران عقيم حول الذات، وإما بصفته "حركة نقلة"، بتعبير الفلاسفة المسلمين، أي حركة تغيُّر وانتقال من حال إلى حال، ومعنيين مختلفين ومتباينين لما هي الأخلاق، إما بصفتها أخلاق الطاعة والامتثال والتبعية، وإما بصفتها أخلاق الاستقلال والحرية وقوة السلب الخلَّاقة.
عملية التفكيك هذه تستلزم خطوتين ضروريتين: الأولى هي التحرر من سلطة النموذج، نعني "نموذج التفكير والإدراك والتمثل والعمل" أو الهابيتوس، بتعبير بيير بورديو[1]، وتعيُّن هذا النموذج في تصور ذاتي، لا تاريخي، لما هو "المجتمع العربي" أو "المجتمع الإسلامي" وما هو "المجتمع المدني الحديث". ومن الواضح أن الـ "ما هو" يحيل على الهوية الماهوية. والثانية هي تحرير فكرة المجتمع المدني من الأيديولوجيا، أي من الرؤية الهووية، الجوهرانية، بغية الخروج من ثنوية: التقليد والحداثة، المانوية، كثنوية النور والظلام والخير والشر. فالتصوران المشار إليهما ينطويان معاً على رؤية زمانية، ماضوية أو مستقبلية، تنأى كل منهما عن الحاضر والراهن. وليست الأيديولوجيا سوى ماضويات ومستقبليات وأوهام وتصورات ذاتية.
وإذ تنصرف عملية التفكيك إلى / أو تنحل في النقد، فإن النقد الذي يستحق اسمه ينطلق من نقد التنظيمات الاجتماعية القائمة ومؤسسات الدولة القائمة هنا والآن، حسب المتكلم. في هذا السياق، تقدم لنا عمليات التفكك التي نجمت عن إخفاق ثورات "الربيع العربي" أو تعثرها مادة غزيزة وغنية للنقد الهدام / البناء، الذي يفرز العناصر الحية من العناصر الشائخة والميِّتة في الهيكل الأساسي للمجتمع المعني، ولا سيما الدولة ومؤسساتها، ويتقرَّى سيرورة التمدن، التي تفضي إلى تشكُّل، (لا تشكيل ولابناء)، المجتمع المدني، وما اعترضها ويعترضها من عقبات داخلية وخارجية. فالعبرة ليست في "وجود المجتمع المدني"، بل في مستوى التمدن الذي بلغه المجتمع. فما أكثر ما كان الانسحار بالوجود، كوجود المجتمع العربي والأمة العربية أو الإسلامية، يعطل التفكير في أشكال الوجود، هنا، أشكال الوجود الاجتماعي، الاقتصادية منها والثقافية والسياسية والأخلاقية. ما يعني أن مقولة الاجتماع البشري، على اختلاف أشكاله المشار إليها، ومقولة التمدن، مقولتان مفتاحيتان لفهم "مجتمعنا"، لا المجتمع العربي ولا المجتمع الإسلامي ولا المجتمع البورجوازي ولا المجتمع الاشتراكي.
أطروحتنا الرئيسة تقول: المجتمع الأهلي يحمل جنين المجتمع المدني، وإلا فإن التفكير سينصب في "النموذج"، لا في المجتمع القائم هنا والآن وديناميات تشكله، في أفق العصر وعلى إيقاعه، وعوامل نموه وتطوره، أو ركوده وتخثُّرة وإعادة إنتاج تأخره التاريخي، وهي ديناميات لا تني ولا تتوقف ولا تكتمل. والإشكالية الرئيسة هي إشكالية العلاقة بين المجتمع القائم بالفعل وبين الدولة القائمة بالفعل، هنا والآن، أيضأً. ولا يستقيم بحث الأطروحة وإشكاليتها، إلا بإعادة تعريف التنظيمات والمؤسسات، والعناية بها، ونقدها، على اعتبارها الهيكل الأساسي للمجتمع، وشرط إمكان الحرية والحياة الإنسانية اللائقة.
المؤسسات في أي مجتمع هي صورة الحياة الاجتماعية[2]، وأشكال التنظيم التي يولدها رأس المال الاجتماعي، من خلال علاقاته الجدلية بكل من رأس المال الثقافي ورأس المال المادي أو الاقتصادي ورأس المال الرمزي، بصفتها مركباً رمزياً ذا بعدين: تاريخي وكوني أو إنساني. غير أن أشكال التنظيم يمكن أن تكون مجرد هياكل فارغة إن لم تكن مجالات حيوية يمارس فيها الأفراد حياتهم النوعية، أي حياتهم الإنسانية العامة. وإذا استعملنا اللغة الهيغلية يمكن القول إن المؤسسات هي التعبير التاريخي عن خروج الروح الإنسانية من شرنقتها الذاتية إلى فضاء الموضوعية[3]، وتعينها في منتجاتها المادية والروحية، من دون أن تتخلى عن ذاتيتها، فتكون أي مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني، في هذه الحال، "كلية عينية" أو وحدة الذاتية والموضوعية، وهذا ما يجعلها لا صورة عن المجتمع المدني المعني فقط، بل صورة عن الفرد الإنساني، بصفته كلية عينية، أنثى كان الفرد أم ذكراً، ومن ثم فإن المؤسسة / المؤسسات هي الإنسان مموضعاً.
فإن اعتبار تنظيمات المجتمع المدني ومؤسساته شروطاً تاريخية لإمكان الحرية وفضاءات لممارستها بالفعل، يطرح العلاقة بين هذه التنظيمات والمؤسسات من جهة وبين الأسرة النووية والعائلة الممتدة والعشيرة من جهة أخرى. نفترض أن هذه العلاقة جدلية بامتياز، إذ تسهم التنظيمات والمؤسسات الحديثة في تمدين الأسر والعائلات والعشائر، في حين تمد الأسر والعائلات والعشائر تنظيمات المجتمع المدني ومؤسساته بروح الألفة والمحبة والتعاون، فتؤسس لإمكان الصداقة المدنية على المستويين الوطني والإنساني. لأن بوادر الألفة والمحبة والتكافل والتعاون والتضامن تتشكل أول ما تتشكل في الأسرة والعائلة الممتدة فالعشيرة. لذلك ننتقد الرؤية التي تفترض أن علاقة المجتمع المدني بالمجتمع الأهلي علاقة تضاد تفاصلية أو تعادمية.
ثمة تعارض جدلي بين المجتمع الأهلي والمجتمع المدني هو عامل النمو والتطور في كل منهما، ولا يزول هذا التعارض إلا حين يصير المجتمع الأهلي هو المجتمع المدني والمجتمع المدني هو المجتمع الأهلي. هذا التعارض مضمَّن في التعارض التاريخي بين المجتمع والدولة، وإلا فإن التضاد والتفاصل يكونان قائمين بالفعل، ويظلان كذلك. ينطلق هذا الافتراض من واقع التنظيمات المدنية القائمة، ولا سيما النقابات والأحزاب، علاوة على الجمعيات والنوادي والمؤسسات الاقتصادية والثقافية والتعليمية .. إلخ، وأثرها في البنى التقليدية والعلاقات الأولية.
المجتمع المدني عند هيغل هو تجلي الروح الموضوعي، أي الروح وقد خرجت من جوانيتها وأوجدت نفسها في العالم الخارجي. وليس المقصود بهذا العالم الخارجي عالم الطبيعة، لأن هذا العالم موجود بالفعل، لكن العالم الذي تظهر فيه الروح الموضوعية هو عالم تخلقه بنفسها، لكي تصبح موضوعية. وهذا العالم هو بصفة عامة عالم المؤسسات والتنظيمات الاجتماعية، كالقانون والأسرة والمجتمع والدولة ... إلخ. وهو لا يشمل هذه المؤسسات وحدها، ولكنه يشمل كذلك العرف والعادات والتقاليد والحقوق والواجبات والأخلاق .. إلخ.
يلاحظ أن هيغل ترك صفة الموضوعية الخالصة للدولة، بما هي فضاء عام أولاً، ومملكة القوانين ثانياً، وتجسيد للحرية الموضوعية والأخلاق الموضوعية ثالثاً، وبهذا كله تكون تجسيداً للعقل، أي للروح الإنساني الحر. تصعب المجادلة ضد هيغل في سيرورة تطور الحياة الاجتماعية من الذاتية الخالصة[4] إلى وحدة الذاتية والموضوعية، ومنها إلى الموضوعية الخالصة، التي تجسدها الدولة السياسية، ومن هنا توصف السياسة، التي تستحق اسمها، بأنها "علاقات موضوعية"، و"علاقات قوة"، بل هي موضوعية لأنها علاقات قوة. لا نحاول الانتصاف لهيغل ممن أساؤوا فهمه، بل نحاول إبراز الجذور العقلية أو الفلسفية للدولة السياسية، التي لا تقوم دولة سياسية إلا على أساسها: العمومية، والموضوعية، وسيادة القانون الوضعي، والحرية الموضوعية والأخلاق الموضوعية، أي الحرية المدنية والأخلاق المدنية، مشفوعتين بالمساواة السياسية ومطلب العدالة الاجتماعية.
حقاً لقد أغلق هيغل منظومته الفكرية على نهاية التاريخ بالدولة الليبرالية. ومثله أغلق ماركس منظومته الفكرية على نهاية التاريخ بالشيوعية. ولعل مرد ذلك كان نشدان الكمال والتمام للمنظومة الفكرية ووفاء للمنهج، لا للتاريخ، على غرار المنظومة الكوسمولوجية النيوتنية، التي أشاعت فكرة أن "الكون ساعة متقنة الصنع"، تسيره قوانين رياضية، أي علم بحت وعقل محض، وهما صفتان لإله العلماء والفلاسفة. لذلك تهمنا فكرة الدولة ومنطوياتها أكثر من نموذج الدولة، وفكرة المؤسسة ومنطوياتها أكثر من نموذج المؤسسة، لنقد الدولة القائمة والمؤسسات القائمة واستشفاف ممكناتها، في الظروف الراهنة المعطاة.
في هذا السياق، ننظر إلى مؤسسات المجتمع وتنظيماته المدنية على أنها أشكال التوسط في العلاقة بين الأفراد والدولة. ونضيف إلى ذلك أنها تجسيد لآليات الدفاع الذاتي، التي يبتكرها المجتمع للحيلولة دون تجاوز السلطة السياسية على حريات الأفراد وحقوقهم المدنية والسياسية، نظراً لتفارق المجتمع المدني والدولة تفارقاً يعين العلاقة الجدلية التفاعلية بينهما. وهي، أي مؤسسات المجتمع المدني، مجالات لأشكال التشارك الحر والتعاون في إدارة الشؤون العامة وتيسير شروط الحياة الاجتماعية وتحسينها، بدءاً من المزرعة والقرية والحي وصولاً إلى البلدات والحواضر والمدن، بحسب نوع المؤسسة والوظيفة أو الوظائف التي تقوم بها والغاية أو الغايات التي تسعى إلى تحقيقها.
فلا يتسق الزعم بسلامة المؤسسات وتماسكها، إذا كانت حياة الأفراد تتردى يوماً بعد يوم، والأسر تتشتت، وتفتقر، وتتغير قواعد انتظامها وإمكانات استقرارها يوماً بعد يوم. نحتاج إلى رؤية ميكروية ومنظار دقيق أشبه بمنظار طبيب العيون لفحص المؤسسات القائمة والحكم بسلامتها وتماسكها أو بتفككها وتجويفها من الداخل. ولكن لدينا ثلاثة معايير أساسية للحكم: الأول مدى كون المؤسسات مجالات حيوية يمارس فيها الأفراد حياتهم النوعية. والثاني مدى ترابط المؤسسات المختلفة وتكامل وظائفها الاجتماعية، والثالث مدى كونها أشكال توسط بين الأفراد والدولة، وآليات دفاع ذاتي، من دونها يمكن استباحة المجتمع والسيطرة على مقدراته.
ولذلك كان الشرط الضروري لسلامة مؤسسات المجتمع المدني وتماسكلها وترابطها وقدرتها على أداء وظائفها وتحقيق أهدافها، وفق مبادئ المساواة والعدالة، هو حريتها واستقلالها استقلالاً تاماً عن السلطة التنفيذية وأجهزتها الأمنية خاصة، فلا ينبغي أن يربطها بالدولة سوى احترام الدستور والقوانين المرعية التنفيذ، والعمل بمقتضاها، وحقها في مراقبة أداء مؤسسات الدولة كافة ونقدها ومساءلتها ومحاسبتها. فإذا ما فقدت مؤسسات المجتمع المدني حريتها واستقلالها وحقها في الرقابة والنقد والتقويم يغدو وجودها كعدمة، بل يغدو ضررها أكثر من نفعها، لأنها يمكن أن تتحول، وقد تحولت بالفعل، إلى أدوات للسلطة وقيود على حرية أعضائها. وتتحول من ثم إلى هياكل مترهلة وخاملة وفاسدة ومفككة داخلياً، بحكم التناقض الذي لا يمكن حذفه بين الحرية والسلطة. فإذ لم تكن المؤسسة هي سلطة أعضائها على أنفسهم والإطار الإنساني أولاً، والقانوني ثانياً، والأخلاقي ثالثاً، لحرية كل منهم واستقلاله، وسبيل إلى تمكنه من المشاركة في الحياة العامة وحياة الدولة، على قدم المساواة مع نظرائه أو نظرائها، تفقد المؤسسات مبرر وجودها.
لذلك كله، يفترض أن الإطار القانوني لمنظمات المجتمع المدني ومؤسساته هو الدستور، فليس من حق السلطة التنفيذية الموافقة أو عدم الموافقة على تشكلها إلا إذا كانت مخالفة للدستور، وليس من حقها أن تضع قوانين تقيد حريتها وتمس استقلالها، إلا إذا كان الدستور يفعل ذلك، فيكون في هذه الحال شبه دستور. وليس على أي مؤسسة تتشكل حديثاً سوى أن تُعلم الجهة الحكومية المعنية بتشكلها على سبيل "العلم والخبر"، إذ لكل منظمة من منظمات المجتمع المدني الحق في وضع قوانينها الخاصة ولوائحها الداخلية بموافقة جميع أعضائها موافقة صريحة، لأن من يلزم نفسه يظل حراً.
ننظر إلى مؤسسات المجتمع المدني وتنظيماته، من حيث حريتها واستقلالها وترابطها وتكامل وظائفها الاجتماعية، على أنها مرجعية جميع السلطات، وهذه ترجمة للمبدأ القائل بأن "الشعب مصدر جميع السلطات". من هنا تتبين أهمية مؤسسات المجتمع المدني وضرورتها وأهمية التدرب والتدريب على المواطنة في أطرها. فلا بد من التوسل بالمؤسسات المدنية، التي تقتضيها حاجات المجتمع ومقتضيات نموه، لا إستراتيجيات الخارج، مهما حسنت النوايا، لإخلاء سبيل المجتمع وإطلاق سراحه من قبضة السلطات المستبدة.
[1] - بيير بورديو وجان - كلود باسرون، إعادة الإنتاج، ترجمة ماهر تريمش، المنظمة العربية للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2007.
[2] - روبرت د. بوتنام، كيف تنجح الديمقراطية، ترجمة إيناس عفت، الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العالمية، القاهرة، 2006.
[3] - هيغل، أصول فلسفة الحق، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير، بيروت، الطبعة الثالثة، 2007، ص 11.
[4] - الدين من أهم منتجات الذاتية الخالصة، إلى جانب الأساطير والخرافات والأوهام، ولا سيما وهم مركزية الإنسان في الكون أو مبدأ التسخير ومبدأ الاستخلاف، في الإسلام، ومركزية الأرض في المجموعة الشمسية ومركزية العشيرة على كوكب الأرض أو المركزية الإثنية. وهي أوهام مستقرة في الخافية الجمعية أو اللاوعي الجمعي للجماعات الإثنية. وتطفو هذه الأوهام على ساحة الوعي في أوقات الأزمات أصولية وتطرفاً ورفضاً للأخر المختلف.