info@suwar-magazine.org

قراءةٌ في نصّ المغنية الصلعاء

قراءةٌ في نصّ المغنية الصلعاء
Whatsapp
Facebook Share

 

 راهيم حساوي

 


ولد يوجين يونسكو في 26 تشرين الثاني/نوفمبر 1909، وتوفي في 29 آذار/مارس 1994. وهو كاتبٌ مسرحيٌّ من أصلٍ رومانيٍّ، عاش في فرنسا. له العديد من المسرحيات التي شكّلت محطةً هامةً في تاريخ المسرح، ومن أشهرها المغنية الصلعاء والخرتيت والكراسي والدرس والمستأجر الجديد. ويُعدّ من أهمّ كتاب المسرح العبثيّ.

 

كان أوّل ظهورٍ لنصّ المغنية الصلعاء على الخشبة عام 1950، على يد المخرج نيكولا باطاي، على مسرح النوكتامبيل في باريس. والغريب أنّ عنوان النص كان "المعلمة الشقراء"، ولكن الممثل الذي كان يتدرّب على دور رجل الإطفاء أخطأ حين قال المغنية الصلعاء بدلاً من المعلمة الشقراء، فنال هذا الخطأ إعجاب يوجين يونسكو وصار عنوان النص.

 

يبدأ النصّ بحديث السيدة سميث عن الطعام والمشروبات، عن تفاصيل غير مجديةٍ ولا قيمة لها، بينما يقرأ زوجها في صحيفةٍ إنكليزيةٍ غير آبهٍ بما تتحدّث به زوجته إلا في آخر جملةٍ عن موت صديقتها وعن الطبيب الذي عالجها.

 

يبدأ السيد سميث بحديثٍ عن الموت والحياة، وعن الصحيفة التي بيده، مبدياً استغرابه من ذكرها أسماء الذين ماتوا هذا اليوم وعدم ذكرها أسماء الذين ولدوا فيه. يستمرّ الحوار بين الزوجين حول أشخاصٍ وأحداثٍ قد انتهت، ولا تبدو أيّ أهميةٍ لهذا الحوار.

 

تدخل الخادمة ماري وهي تقول إن السيد والسيدة مارتن على الباب. يدخل الأخيران ويجلسان ريثما يقوم السيد والسيدة سميث بتبديل ثيابهما، وفي هذا الوقت يدور حوارٌ طويلٌ غريبٌ بين الزوجين مارتن وكأنهما لا يعرفان بعضهما من قبل، وفي نهاية الحوار يستنتجان أنهما زوجان بطريقةٍ مشكوكٍ فيها، وذلك أن السيدة إليزابيث ليست السيدة إليزابيث، ودونالد ليس دونالد.

 

يدخل الزوجان سميث، بعد تبديل ملابسهما، ويرحّبان بضيفيهما. يدور الحديث حول أمورٍ غير مجديةٍ من حيث الظاهر، كما بدأ النص. يستمرّ الحوار إلى أنْ يدخل الكابتن، رئيس فرقة المطافئ، وهو صديق العائلة، ويحدثهم عن حريقٍ وعن قلقه من حريقٍ سينشب. ثم يدور الحوار عن جرس الباب، وعن أنه ليس بالضرورة أن يكون أحدٌ ما على الباب إذا قرع الجرس. ثمّ يسرد كلّ واحدٍ حكايةً قصيرةً لا معنى لها. ينتهي النص مثلما بدأ، ولكن بدلاً من ظهور السيد والسيدة سميث يظهر السيد والسيدة مارتن.

 

أراد يونسكو من خلال نصّه هذا أن يعيد مفهوم الإدراك عند الإنسان، وذلك بنسيان كلّ ما هو ثابتٌ في ذهنية المرء من منطقٍ وبديهة. ولقد ظهر هذا الأمر في ثلاث نقاطٍ واضحة؛ تتعلق الأولى بموت صديقة السيدة سميث وعدم موت طبيبها الذي جرّب الدواء على نفسه، وجاء على لسان السيد سميث ضرورة موت الطبيب معها. وهذه فرضيةٌ غرائبيةٌ يطرحها يونسكو، فالذي نعرفه أن الدواء قد يشفي أحداً ما وليس بالضرورة أن يشفي الآخر، لكن يونسكو يجعل من فكرة الموت فكرةً أكثر سلاسةً ويحوّلها إلى منطقٍ جديدٍ كي يُطيح بالسائد المتعلق بغموض فكرة الموت. وتتعلق النقطة الثانية بالجرس، فحين سمع الجميع قرعه وقامت السيدة سميث لفتح الباب ولم تجد أحداً استغربت، وحين سمعوا الجرس مرّةً ثانية لم تقم لفتح الباب، فليس من الضروريّ أن يكون أحدٌ على الباب، فربما أخطأ شخصٌ العنوان وانتبه إلى خطأه بعد قرع الجرس بثوانٍ وذهب، وهنا لا يتحتم على صاحب البيت أن يعير أهميةً للجرس، وأن يكون الجرس أمراً يشبه تقلبات الطقس. والفرق بين النقطة الأولى والثانية هو أن يونسكو جعل من الغيب والغامض في الأولى أمراً منطقياً، ومن المنطق في الثانية أمراً غيبياً وغامضاً.

 

وتتعلق النقطة الثالثة بعلاقة السيد والسيدة مارتن. يريد يونسكو أن يقول هنا إن الشخص ليس بالضرورة أن يكون هو ذاته، ولكن رابطةً تجمعه مع الآخر، وقد يتعرّف على هذه الرابطة دون أن يتعرّف على ذاته الضائعة، ويتفاقم هذا الضياع كلما تعرّف وتعمّق في تلك الرابطة التي تأخذ منه حيّزاً أكبر من الحيّز المتعلق بذاته. قدّم يونسكو هذين الزوجين وكأنهما مخموران حتى الثمالة، والحوار الذي دار بينهما لا يتقبله العقل أو المنطق. وبهذا أراد أن ينقلنا من الواقع إلى شيءٍ يشبه الحلم الذي تصير الأشياء فيه لينةً وقابلةً لجعل أيّ شيءٍ منها، عكس الحياة التي تفرض أشياءها رغماً عنا.

 

ويبقى يونسكو من الكتاب المسرحيين الذين كلما حاولنا التنقيب عن أسرار نصوصهم نجد أمامنا أسراراً أخرى وقراءاتٍ أخرى لكلّ نصّ. وهو من المسرحيين الذين ما زالت نصوصهم تُعرض، دون انقطاعٍ، على مسارح العالم وبكلّ اللغات. والجميل في نصوصه أنه كلما جاء مخرجٌ ليقدّم أحدها على الخشبة نجده قد قدّم النصّ بطريقةٍ مختلفةٍ عمّن سواه من مخرجين.

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard