info@suwar-magazine.org

في استخدام "الإسلام" كأيديولوجيا تسلّطية

في استخدام "الإسلام" كأيديولوجيا تسلّطية
Whatsapp
Facebook Share

 

*طارق عزيزة

 

خلال سنواتٍ خمسٍ على بدء ما شاعت تسميته "الربيع العربيّ"، كان لافتاً الصعود المطّرد لقوى وتيارات "الإسلام السياسي" عموماً، ولامتداداتها أو سلالاتها وانشقاقاتها من النسخ الجهادية الأكثر تطرّفاً على نحوٍ خاصّ. وقد أدّت هذه التيارات، في الغالب، أدواراً خطيرةً كثيراً ما أثّرت سلباً في مجريات الانتفاضات والثورات العربية، وتالياً في الاتّجاهات واحتمالات التغيير الذي شهدته وتشهده بلدان "الربيع العربيّ". ولعلّ من الواجب ومما تقتضيه الأمانة التاريخية تأكيد القول بأنّ هذه التيارات قد ساهمت فعلاً، وبقوّة، في تعطيل ممكنات التحوّل الديمقراطيّ المحتمل وحرف مساراته. ذلك الحلم الذي نشدته الشعوب العربية لحظة انتفاضها في وجه حكامها المستبدين. إذ إنّ خطاب وسلوك تلك الجماعات كان، بصورٍ ومستوياتٍ مختلفة، من بين أبرز العوامل التي ساعدت في إطالة عمر هذا النظام المستبدّ أو إعادة إنتاج ذاك، والأهمّ من ذلك عملها على إنشاء نماذج لاستبدادها الخاصّ، المقدّس، حين أتيحت لها ظروف "التمكين".

 

 

من خلال تتبّع كيفيّة تطوّر هذه الظاهرة، ثمّة ما يدفع إلى الاعتقاد بأنّ جماعات "الإسلام السياسيّ" والحركات السلفية الجهادية لم تتبوّأ مكانتها الفاعلة في المشهد السياسيّ العربيّ العام، ولم تحقق كلّ ما حقّقته من بروزٍ وسيطرة، بهمّة كوادرها وأعضائها المنضوين بشكلٍ رسميٍّ داخل أطرها التنظيمية فقط، ولا هي فعلت ذلك بمحض قوّة السلاح و"البطولات" في حالة الجهاديين العمليين؛ وإنما بفضل تمكّنها من الاستحواذ على مشاعر وأفكار (وأصواتٍ انتخابيةٍ في حالاتٍ معينة) فئاتٍ واسعةٍ من "الجمهور المؤمن". وقد حصل ذلك من خلال تصوير نفسها بوصفها الأمينة على "الدين/ الإسلام"، ومن ثمّ الحريصة على مصالح أتباع هذا الدين من أنصارها المؤمنين. وهي لا تكفّ عن غرس هذه الصورة في أذهان جمهورها، عبر اشتغال آلتها الدعائية الدؤوب على تقديم مشاريعها وبرامجها بوصفها التجسيد الحقيقيّ "للدين القويم".

 

ولتعزيز "الشرعية الدينية" المفترضة تفرط تلك الجماعات في الشكليات والمظاهر (الحجاب، النقاب، لباس المرأة والرجل... إلخ)، وتحرص على إقامة "الحدود" كلّما أتيح لها ذلك، تأكيداً على سلطتها وقوتها و"التزامها". هذا الأمر كثيراً ما يكون، في جانبٍ منه، وسيلةً تُستخدم للتغطية على قصور مشروعها وأطروحاتها الأيديولوجية عن الاستجابة للتحديات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وعجزها عن تلبية الاحتياجات المتصلة بالحياة اليومية لعموم السكان الخاضعين لسيطرتها، سواءً أُخضِعوا لها كُرهاً أو لأنهم أولوها ثقتهم، توهّماً منهم أنّ هذه الجماعات تحمل لهم الخلاص، عبر الشعار السحريّ "الإسلام هو الحلّ" بصياغاته المختلفة.

 

 

يكتمل المشهد بإضفاء الجماعات الإسلامية صبغةً دينيةً على كلّ ما تقوم به، حتى في خطابها وسلوكها السياسيين. فمن خلال "الشرعية الدينية" التي تسبغها على قادتها وعناصرها وجلّ ما يصدر عنهم، تزعم هذه الجماعات أنها الوريث الأمين للنبيّ وأصحابه الأوائل، بل تكاد تعُدّ نفسها امتداداً لمشروع النبيّ وخلفائه الراشدين. ومهما ارتكبت من أخطاء، أو دفعتها "البراغماتية" إلى اتّخاذ مواقف متناقضةٍ في سلوكها أو تحالفاتها، فإنّ السند الفقهيّ والحجّة الشرعية حاضران دوماً للتبرير والتفسير ومباركة الفعل. ويجري تجميل المواقف وزخرفتها بما يدعمها من أحاديث نبويةٍ وآياتٍ قرآنيةٍ وشذراتٍ من سيَر "السلف الصالح"، ليغدو أيّ انتقادٍ أو هجومٍ تتعرّض له الجماعة، أو أحد قادتها، إنما يستهدف "الإسلام" نفسه؛ أليست "الجماعة" ورجالاتها حرّاس الدين/ الإسلام وتجسيده الأنقى؟! بالتالي، يبقى سيف "الشريعة"، أساسُ "الشرعيّة" المزعومة، حاضراً لتسوية القضايا الخلافية التي قد تنشأ مع الخصوم، حتى من "أخوة المنهج". والذريعة الأكثر استعمالاً في إسكات المعارضين وقمعهم هي "درء الفتنة".

 

في الحالة السورية، وبالتزامن مع طغيان العسكرة و"الطابع الإسلاميّ" على الحراك الثوريّ، تغلغل "الإسلام السياسيّ"، ومثله الحركات السلفية الجهادية، تدريجيّاً في المجتمعات المحلية (ولاحقاً في تجمعات اللاجئين السوريين في دول الجوار). ومما ساهم في تمهيد الطريق لهم ضعف المعارضة "الديمقراطية" التقليدية وتشرذمها. أكثر من ذلك، تعزّز حضورهم في أجواء سيطرة المشاعر الدينية، التي انتعشت بقوّةٍ لدى الجمهور المنتفض في ظلّ الحضور الكثيف للموت، وتخلّي "العالم" عن السوريين في محنتهم.

 

يُضاف إلى ذلك تصاعد خطاب الاستقطاب الطائفيّ الحادّ، من قبل النظام وأعوانه كما من قطّاعاتٍ هامّةٍ في أوساط المعارضة السورية، ورواج تحليلاتٍ ومقولاتٍ بائسةٍ سارعت إلى وضع ما يجري في سوريا ضمن سياق "الصراع السنّيّ-الشيعيّ" في المنطقة، (وهو الغطاء الأيديولوجيّ للتنافس الإقليميّ: الإيرانيّ–السعوديّ، والإيرانيّ–التركيّ أيضاً)، وفي هذا خدمةٌ مجانيةٌ للنظام نجح في الاستفادة منها إلى أقصى درجة، لما فيها من تعميةٍ على الجذر الرئيسيّ للتناقض، بأبعاده السياسية والاقتصادية، بين عامة السوريين وبين النظام الاستبداديّ المافيويّ.

 

مع مرور الوقت نجح "المجاهدون"، على اختلاف تشكيلاتهم ومسمّياتهم، في بسط سلطتهم على مساحاتٍ شاسعةٍ من المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، متّكئين على دورهم الفاعل في العمل العسكريّ ضدّه. كما عمل هؤلاء بادئ الأمر، مستفيدين من قدراتهم المالية والتنظيمية الهائلة، على استمالة السكان من خلال تأمين بعض المواد التموينية الأساسية في عددٍ من المناطق المنكوبة بسبب القصف الممنهج لها من قبل قوّات النظام. فكان من المنطقيّ في هكذا ظروفٍ أن تلقى "جبهة النصرة"، مثلاً، (وهي الفرع الرسميّ لتنظيم القاعدة في سوريا كما هو معروف) احتضاناً شعبيّاً في بعض المناطق التي ظهرت فيها، ثم لتغدو شريكاً أساسياً في "الهيئات الشرعية" والمجالس المحلية وسواها، ومثلها جماعاتٌ مشابهةٌ في أماكن أخرى.

 

على أنّ الوقت لم يطل حتى كشفت تلك الجماعات عن مشروعها التسلطي، من خلال إقصاء الشركاء والسعي إلى الاستئثار بالسلطة، وفرض نموذجها الدينيّ المتشدّد على السكان، واستخدام القوّة لإخضاع المخالفين أو المعترضين، بدءاً من الخطف والاعتقال وانتهاءً بالتصفية الجسدية والاغتيال. دفعت هذه التطوّرات السكّان، في أحيانٍ كثيرة، إلى الخروج والتظاهر ضدّ "السلطة الجديدة"، وهو ما جرى في أرياف إدلب ودمشق وبعض أحياء حلب.

 

إن موضوع فكّ التشابك بين المجال السياسيّ، كحقلٍ عمليٍّ ومعرفيٍّ بشريّ، وبين الجانب الدينيّ والروحيّ للفرد، وتأكيد استقلال كلٍّ منهما عن الآخر ليس ترفاً فكرياً، ولا هو مسألة تحتمل التأجيل. وإنّ ما تقدّم عرضه يظهر الحاجة الماسّة إلى الكشف، بطريقةٍ علميةٍ منهجية، عن حقيقة توظيف هذه التيارات للدين، وكيفية قيامها بتحويله من تجربةٍ إيمانيةٍ، أخلاقيةٍ، روحانيةٍ، شخصيةٍ إلى أيديولوجيا شموليةٍ سلطويةٍ يجري تكييفها وفق ما تقتضي مصلحة "الجماعة" أو التنظيم المعنيّ. يجب فضح زيف الارتباط الذي تصطنعه هذه الحركات والتنظيمات بينها وبين الدينيّ/المقدّس، وتعرية تلاعبها بعواطف الناس الدينية لكسب الأنصار، وإضفاء "شرعيةٍ مقدّسةٍ" على مشاريعها التسلطية تحت ستارٍ دينيّ.

 

 

لم يعد مقبولاً السكوت عن المستبدّين الجدد بذريعة أنّهم "جزءٌ من الثورة" أو لأنّهم يقاتلون النظام، ولا ينفع إرجاء هذه المسائل إلى حين إسقاطه. لقد أسقط هؤلاء مشروع الثورة قبل أن يُسقطوا النظام، وما هم إلا نموذجٌ صارخٌ للثورة المضادّة التي تتناقض شكلاً ومضموناً مع ثورة السوريين في وجه الاستبداد. لقد استغلّوا انتصارهم العسكريّ على قوّات النظام وحاجة السكان إليهم في مناطق سيطرتهم، وتعاملوا مع الأمر وكأنّه "تفويضٌ" يخوّلهم فرض ما يشاؤون. وإذا كانت إحدى أشهر وصفات الاستبداد: استعانة السلطة بالدين، فإن تطبيقها الأبلغ والأكثف في استبداده هو حين تجتمع السلطة والدين وتندمجان في قبضة "الجماعة" الحاكمة. هذا ما فعله آيات الله في إيران الخمينية، وهو بالضبط ما يعمل عليه اليوم أعداء إيران المفترضون من "المجاهدين" السنّة!

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard