info@suwar-magazine.org

قراءات في الحركة الإسلامية في الحرب السورية (1)

قراءات في الحركة الإسلامية في الحرب السورية (1)
Whatsapp
Facebook Share

 

يُنشر هذا الملف بالتعاون بين مجلة صور ومركز دراسات الجمهورية الديمقراطية

 

جماعة الإخوان المسلمين في الثورة السورية

 

(1)

 

*منار الرشواني

 

مقدمة

 

غداة اندلاع الثورة السورية في آذار (مارس) 2011، واتضاح حقيقة أنها لن تكون حدثاً طارئاً في ظلّ تزايد أعداد المشاركين في الاحتجاجات السلمية، واتساع نطاق هذه الأخيرة لتشمل كثيراً من مناطق سوريا؛ اتجهت الأنظار إلى جماعة الإخوان السورية باعتبارها، من وجهة نظر كثيرين ربما، "الحركة الأقوى والأكثر تنظيماً من بين قوى المعارضة السورية"، كما وصفتها مؤسسة "كارنيغي" البحثية الأميركية[1]، وبما يمكّنها، بالتالي من لعب دورٍ حاسمٍ في مجريات الأحداث راهناً ومستقبلاً.

 

لكن خلال ما يزيد على خمس سنواتٍ عرفت الثورة مراحل مختلفة، انطوى بعضها على تحولاتٍ جذرية؛ بدأت بانتقالها من الحراك السلميّ إلى العسكرة، ثم اتخاذها شكل حربٍ بالوكالة، وصولاً إلى التدخل العسكريّ الروسيّ المباشر، بعد فترةٍ طويلةٍ من تدخلٍ إيرانيٍّ مماثلٍ أيضاً. يضاف إلى ذلك ظهور وتمكن حركاتٍ إسلاميةٍ متنوعة، سواء تلك التي تُقدّم نفسها "معتدلة"، لاسيما "حركة أحرار الشام"، أو المصنفة إقليمياً ودولياً، كتنظيماتٍ إرهابية، تحديداً "جبهة النصرة" وتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش).

 

ومن ثمّ، تسعى هذه الورقة إلى الإجابة عن سؤال: ما هو حجم حضور ونفوذ جماعة الإخوان المسلمين في مسارات وهيئات الثورة السورية، عسكرياً وسياسياً، في الداخل والخارج على حدٍّ سواء، والعوامل المؤثرة في ذلك، منذ العام 2011 وحتى اليوم؟

 

 

وتنطلق الورقة في الإجابة عن هذا السؤال من فرضية وجود مبالغةٍ، لا تستند إلى الحقائق على الأرض، في تقدير حجم حضور الجماعة وتأثيرها على مستوى الداخل السوريّ، كما بشأن تماسك الجماعة داخلياً بما يسمح لها بلعب دورٍ حاسمٍ ومهيمنٍ خلال المرحلة التي تعقب التوصل إلى تسويةٍ سياسية.

 

من الحزب القائد إلى الجماعة القائدة

 

انتهى حضور جماعة الإخوان المسلمين في المشهد السوريّ الداخليّ، بشكلٍ شبه تامٍّ، منذ الإجهاز المبرم عليها تقريباً، عقب المواجهة بينها وبين النظام في مدينة حماة خصوصاً في العام 1982، والتي كان سبقها تجريم العضوية في الجماعة بعقوبة الإعدام بموجب القانون رقم (49) لعام 1980.

 

رغم ذلك، فإن مجموعةً من المعطيات الموضوعية، السورية والإقليمية والدولية، كانت تبرر الاستنتاج، مع بداية الثورة، بأن "الإخوان" يشكلون الفريق الأقوى، سياساً على الأقل، في سوريا.

 

ربما تكون أولى هذه المعطيات، أو التوقعات، هو الاعتقاد الجازم من قبل كثيرين بأن الثورة السورية لن تختلف عن نظيرتيها التونسية والمصرية، وحتى الليبية، من حيث سرعة إطاحتها بنظام الأسد، وإفساح المجال للقوى السياسية الوطنية المعارضة لملء الفراغ. ورغم حقيقة إجهاز حزب البعث، الذي يحكم سورية منذ العام 1963، على جميع القوى السياسية، أو إضعافها حدّ انعدام الفعالية، إلا أن ما كان يميّز جماعة الإخوان المسلمين هو استفادتها من وجود قادتها خارج سوريا، وبالتالي الحفاظ على هيكليتها التنظيمية في الخارج تحديداً، كما يظهر خصوصاً من خلال مواصلتها إجراء انتخاباتٍ داخلية، بفضل تمتعها بهامشٍ من الحرية في البلدان؛ العربية والغربية، التي لم تكن تعارض وجود وأنشطة الإخوان المسلمين فيها. يضاف إلى ذلك أن الجماعة "كتنظيم" كانت حاضرةً في العديد من المبادرات، مثل "إعلان دمشق" في العام 2005، أو تمثل أحد أركانها الرئيسة كما في حالة "جبهة الخلاص الوطني" التي تشكلت في آذار/ مارس 2006، بتحالف "الإخوان" مع عبدالحليم خدام، نائب رئيس الجمهورية المنشق في العام 2005.

 

أيضاً، ساعد النظام ذاته في تضخيم قوة الجماعة، عندما سعى إلى إلقاء المسؤولية عليها في إطلاق الحراك الشعبيّ وقيادته، وادعاء أن "الإخوان" يقومون بذلك بـ"التحالف مع السلفيين الجهاديين"، مستغلاً تزامن صدور أول بيانٍ للجماعة مؤيدٍ للثورة السورية، في 28 نيسان (أبريل) 2011، مع صدور بيانٍ، في اليوم والاتجاه نفسه، لأحد أهم منظري ما يُعرف بـ"السلفية الجهادية"، أبو محمد المقدسي[2].

 

وحتى مع اقتناع النظام بأن لا بديل عن اتخاذ إجراءاتٍ "إصلاحيةٍ" ما لاحتواء التظاهرات الشعبية المتصاعدة والمتسعة، فقد كان الأبرز بين هذه الإجراءات، والذي لقي حفاوةً إعلاميةً خارجيةً كبيرة، العفو العام الذي أصدره بشار الأسد في 31 أيار (مايو)، بموجب المرسوم التشريعي رقم (61) لعام2011 ، وتضمن خصوصاً العفو من كامل العقوبة لمرتكبي الجرائم المنصوص عليها في القانون رقم (49) لعام 1980، مع توالي التسريبات الإعلامية عن نية النظام إلغاء هذا القانون بكليته.

 

يضاف إلى ما سبق معطىً يتمثل في انطباع أن مجمل المهجرين من سوريا إبان حكم الأسد، لاسيما في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، عشية وغداة مجزرة حماة، هم أعضاء أو متعاطفون مع "الإخوان"، وبشكلٍ ينطبق خصوصاً على الأجيال الشابة التي ولد أفرادها أو نشأوا في المنافي، كما صرح بذلك أحد الإعلاميين المؤيدين للنظام غداة الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، ومحاولة النظام الانفتاح على السوريين في الخارج خشية استغلالهم من قبل إدارة الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش (الابن) في التحضير للإطاحة بحكم ""البعث" في سوريا؛ إذ اعتبر هذا الإعلامي "أننا )النظام( خلقنا جيشاً للإخوان بالمجان"[3].

 

بل وتمّ التوسع في هذا الانطباع ليشمل كثيراً من السوريين في الداخل مع انطلاق الثورة. ولعل السبب هو نظرة كثيرٍ من الباحثين، ولربما السياسيين الغربيين والعرب أيضاً، إلى حراكات "الربيع العربي" -والتي وقعت جميعها في بلدانٍ سُنّية (أو في وسط الطائفة السُنّية، كما كانت حال الحراك في العراق قبل التحركات الأخيرة في بغداد)- باعتبارها البديل السلميّ عن إرهاب تنظيم "القاعدة" السُنّي. وبحكم كون جماعة الإخوان المسلمين حركةً دينيةً-سياسيةً سُنّيةً ذات حضورٍ متواصلٍ منذ عقود، فربما ذهب الانطباع إلى أن أغلبية الشعوب العربية ستُصوت تلقائياً للإخوان، لاسيما وأن الجماعة في سورية كانت قد طرحت، قبل الثورة وبعدها، مبادراتٍ سياسيةً تقوم أساساً على اعتماد دستورٍ غير دينيٍّ، والإقرار بالتعددية وحقوق المواطنة المتساوية للجميع بغضّ النظر عن الدين والطائفة والعرق، من قبيل "المشروع السياسيّ لسورية المستقبل" (العام 2004)، و"عهد وميثاق من جماعة الإخوان المسلمين في سوريا" (العام 2012)[4]. ويتضافر ذلك مع ما أظهرته الجماعة من "براغماتيةٍ" بتحالفها لسنواتٍ مع عبد الحليم خدام.

 

وقد وجد هذا الانطباع الأخير صدقيته فعلاً في الحضور القويّ للإخوان المسلمين في تونس ومصر خصوصاً، والذي تُرجم لاحقاً إلى انتصاراتٍ كاسحةٍ في أول انتخاباتٍ برلمانيةٍ حرّةٍ عقب الثورة في كلٍّ منهما، برغم أن الجماعة كانت محظورةً منذ عقودٍ أيضاً في هذين البلدين، لاسيما في تونس التي تعرّض فيها "الإخوان" إبان عهد زين العابدين بن علي للنفي والتنكيل والتصفية، بما يقترب من ممارسات نظام حافظ الأسد خصوصاً في سوريا، في حين كانت تنشط في مصر وتخوض الانتخابات قبل الثورة عبر "مستقلين" وليس كتنظيم.

 

اعتراف "الإخوان" بمحدودية الحضور والنفوذ داخل سوريا

 

إضافةً إلى الغياب التامّ للإخوان المسلمين عن الداخل السوريّ منذ ثمانينيات القرن الماضي، فإنه ليس صحيحاً أبداً أن كلّ السوريين المهجرين مؤيدون للجماعة أو متعاطفون معها، لجملةٍ من الأسباب؛ أحدها، كما يقول أحد الناشطين السوريين: "بصراحة، جماعة الإخوان المسلمين في سورية هي نادٍ للمتقاعدين... أنا نفسي يمكن أن أُعتبَر جزءاً من الجيل الثاني أو حتى الثالث من عائلات الإخوان، لكني نشأت خارج سورية، لذلك ليس لديّ الولاء نفسه للجماعة. وأنا لست وحيداً فهناك الآلاف منّا"[5].

 

كذلك، وبما يفوق صراع الأجيال السابق أهميةً، هناك الصراعات الداخلية على أساسٍ مناطقيٍّ داخل الجماعة؛ حلب، حماة، دمشق، إدلب. كما أن متغيراتٍ إقليميةً بدأت بغزو العراق للكويت، ومشاركة النظام في حرب تحريرها، أديا إلى إضعاف قدرات الجماعة تجاه قواعدها أو المحسوبين عليها وحمايتهم في البلدان العربية المضيفة، فكان أن تُرك هؤلاء لمواجهة مصيرهم، وهم المحرومون من أبسط وثائقهم الشخصية، لاسيما جوازات السفر، فيما كان كثيرٌ من قيادات "الإخوان" يحظون بجوازات سفرٍ من بعض البلدان المضيفة، أو نالوا جنسيات بلدانٍ غربيةٍ يقيمون فيها منذ مدةٍ طويلة.

 

والحقيقة أن الجماعة كانت أكثر من يُدرك ضعف حضورها في الداخل السوريّ، كما في الخارج. وقد عبرت عن دلائل ذلك في أكثر مناسبة، قبل الثورة ومع اندلاعها.

 

ففيما يشار إلى تأخرها، نسبياً، في إعلانها تأييد الثورة صراحة؛ إلا أن الجماعة بقيت بعد ذلك أيضاً غير قادرةٍ على إدراك زخم الثورة واتجاهها. برز ذلك بشكلٍ جليٍّ مع صدور العفو العام نهاية أيار/ مايو 2011، إذ علق الناطق الرسميّ باسم الجماعة آنذاك، زهير سالم، على هذا العفو، في تصريحاتٍ لوكالة "أسوشيتد برس" الأميركية، بأن "كل قرارٍ باتجاه التفريج عن الناس ومعتقلي الرأي في سوريا يمثل خطوةً إيجابيةً في الاتجاه الصحيح"، مطالباً "بإلغاء القانون 49 لعام 1980 الذي يحكم بالإعدام على كل من ينتسب إلى الجماعة ليكون مكملاً قانونياً لهذه الخطوة إذا أُريد لها أن تبلغ مداها"[6].

 

 

وهذا ما يُضعف فرضية أن التأخر النسبيّ لصدور موقف الجماعة المؤيد للثورة سببه رغبة "الإخوان" في حماية الثورة -التي انطلقت بمطالب إصلاحيةٍ شديدة المدنية و"المواطنية"- من إرث الجماعة المرتبط بالعنف منذ حظرها في العام 1964 وصولاً إلى مذبحة حماة في العام 1982. وليبدو أكثر رجحاناً استنتاج أن الإخوان تفاجأوا تماماً بالثورة مع إدراكهم حقيقة نفوذهم داخل سوريا.

 

أما الدليل الآخر والأبرز على إقرار "الإخوان" بضعفهم، داخلياً كما خارجياً، فيظهر في أنه عشية الثورة، وتحديداً في منتصف كانون الثاني (يناير) 2011، أعلن محمد رياض الشقفة المحسوب على التيار المصنف "متشددا"، وكان يشغل منصب المراقب العام منذ أيلول (سبتمبر) 2010، في مقابلةٍ مع صحيفة "الشرق" القطرية، أنه "لو سمح لنا بالنزول إلى سورية سنعمل فقط في مجال الدعوة بدون اسم الإخوان المسلمين وبدون أيّ أحزابٍ إلا إذا صار نظاماً حزبياً ووافقت الدولة عليه. ونحن نستطيع أن نتعامل مع الواقع في مجال الدعوة وأن يسمح لنا النظام بالعودة للعمل في أوساطنا وفي مدننا وليس أكثر من هذا ونحن نتجاوب مع هذا الوضع لو حدث"، كاشفاً عن أنه "جرت محاولاتٌ كثيرةٌ للوساطة، ولن نذكر أسماء، ولكنها لم تستطع أن تنجز شيئاً مع هذا النظام"[7]. إلا أن المراقب العام السابق علي صدر البيانوني نفى في تصريحٍ لموقع "أون إسلام"، علمه بتصريحات الشقفة، معتبراً أن "هذا موقفٌ غريبٌ عليّ أن نتخلى عن اسم الجماعة وأشياء من هذا القبيل... لم أسمع به إلا عبر الصحف"[8].

 

كما سبق ذلك إعلان الجماعة في كانون الثاني/ يناير 2009، تعليق أنشطتها المعارضة للنظام بدعوى أن ذلك يأتي "تقديراً منها للمرحلة التاريخية التي تمرّ بها أمتنا العربية والإسلامية، والظروف السياسية والعسكرية والإنسانية التي فرضها العدوان الصهيونيّ على أهلنا في غزة.. وانطلاقاً من أولوية القضية الفلسطينية، باعتبارها القضية المحورية للأمة...". وهو القرار الذي لم يتغير بتولي "التيار الحموي" بقيادة الشقفة، قيادة الجماعة، وأدى إلى الإجهاز على تجربة "جبهة الخلاص الوطني". إذ أعلنت الجماعة في نيسان (أبريل) 2009 انسحابها من الجبهة، الأمر الذي رد عليه خدام باتهام "الإخوان" بأن هناك "وساطة بينهم وبين النظام السوري من خلال شخصياتٍ أمنيةٍ رفيعة"[9].

 

ربيعٌ سياسيٌّ... غير متناسبٍ عسكرياً

 

ازداد جلاء حقيقة ضعف الحضور الإخوانيّ في المشهد السوريّ الداخليّ مع اتجاه الثورة إلى العسكرة. إذ سعت الجماعة مبكراً جداً إلى ما يمكن تسميته "شراء الولاء"، عبر تقديم دعمٍ غير معلنٍ لفصائل لا تتبع لها مباشرةً، تشمل خصوصاً كتائب الفاروق في حمص، ولواء التوحيد في حلب، وصقور الشام في جبل الزاوية، وذلك عبر "الهيئة العامة لحماية المدنيين"، والتي يرئسها العضو السابق في الجماعة هيثم رحمة، بحسب ما ذكر رافائيل لوفيفر[10]. ثم، ومنذ آب (أغسطس) 2012، بدأ الحديث عن وجود فصيلٍ عسكريٍّ واحدٍ على الأقلّ يتبع الجماعة بشكلٍ مباشر، سمّاه أحد أعضائه في حديثٍ لصحيفة "التلغراف" البريطانية "مسلحو الإخوان المسلمين"[11]. وهو ما أكده الناطق الرسميّ باسم الجماعة، ملهم الدروبي، في مقابلةٍ مع صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية، إذ كشف عن "تشكيل الإخوان ومنذ نحو 3 أشهر لكتائب مسلحة في الداخل السوري مهمتها الدفاع عن النفس وتأمين الحماية للمظلومين"، وأن "هذه الكتائب منتشرة في معظم المناطق والمحافظات السورية وخاصة الملتهبة منها"، وهي "تابعة للجيش الحر وتتعاون وتنسق معه"[12]. إلا أن الجماعة سارعت، في اليوم ذاته، إلى نفي تلك التصريحات على لسان عضو المجلس الوطني المحسوب على الجماعة محمد سرميني، عبر تصريحاتٍ لوكالة "الأناضول" التركية للأنباء.

 

غير أن اعترافات الدروبي استعادت مصداقيتها بعد ذلك بفترةٍ وجيزة، مع الإعلان، في إسطنبول، عن تشكيل "هيئة دروع الثورة"، في 21 كانون الأول/ ديسمبر 2012، بحضور المراقب العام للإخوان محمد رياض الشقفة، رغم إعلان الأخير في المؤتمر أن "هيئة الدروع مستقلةٌ وليست جناحاً مسلحاً لجماعة الإخوان"[13].

 

وعدا عما يشير إليه أحد المصادر من أن "أقلّية فقط من مقاتلي الدروع... هي فعلياً جزء من جماعة الإخوان المسلمين، ما يثير مخاوف لدى الإخوان مرتبطة بمسائل عدّة أبرزها الولاء، وغياب التربية والانضباط، واحتمال النزوع نحو التطرّف، من بين أمور أخرى"، فإن التقديرات تشير إلى تواضع تعداد مقاتلي "الدروع" ككل، نسبياً، إذ لم يتجاوز عددهم 5000 إلى 7000 مقاتل، وصولاً إلى 10000 مقاتلٍ كأقصى تقديرٍ بحسب الإخوان ذاتهم[14]؛ وهو ما انعكس على فعالية "الهيئة" ميدانياً، كما يظهر من التغطيات الإعلامية، وحتى صفحة "الهيئة" نفسها على موقع "فيسبوك"؛ إذ يعود تاريخ آخر "بوست" في الصفحة إلى 8 أيار (مايو) 2015[15].

 

أما حالياً، ووفقاً لواحدٍ من أحدث التحليلات المتاحة، فيتمّ ربط الجماعة بعدّة فصائل مسلحة، أهمها "فيلق الشام"[16]، الذي يبلغ تعداده أربعة آلاف مقاتلٍ فقط (إضافةً إلى فصائل صغيرةٍ أخرى مثل "لواء الأنصار" و"لواء جند الحرمين" و"لواء أمجاد الإسلام" الموجودة في حلب[17])، من أصل ما يُقدّر بحوالي 70 ألف مقاتلٍ موزّعين على الفصائل الرئيسة الأخرى[18]. فيما لا تُعرف على وجه الدقة طبيعة علاقة "الإخوان" بـ"جبهة النصرة"، علماً أن الجماعة دأبت على الدفاع عن "الجبهة"[19]، على الأقل إلى حين إعلان الأخيرة البيعة لزعيم "القاعدة" أيمن الظواهري في نيسان/ أبريل 2013، لتتجه الجماعة بعدها إلى دعوة "الجبهة" إلى فك ارتباطها بـ"القاعدة".

 

في مقابل هذا الضعف الميدانيّ العسكريّ، كان واضحاً طغيان نفوذ جماعة الإخوان المسلمين على المستوى السياسيّ، من خلال هيئات المعارضة في الخارج؛ وتحديداً "المجلس الوطني السوري"، إلى حد استحقاق الجماعة وصف "صانعة الملوك"[20] على هذا المستوى.

 

إذ صحيحٌ أن "إخوان" سوريا لم يملكوا أبداً الأغلبية داخل الجمعية العامة للمجلس الذي تشكل في إسطنبول بتاريخ 2 تشرين الأول (أكتوبر) 2011، بل وأكد المراقب العام للجماعة في تصريحاتٍ صحفية، في 15 نيسان (أبريل) 2013، أن نسبة "الإخوان" لا تتجاوز 10% من أعضاء المجلس[21]. وكذلك الأمر في جهازي "المجلس" الأهم على صعيد الصناعة الفعلية للسياسات والقرارات؛ الأمانة العامة والمكتب التنفيذي (وقد فصّل العضو في جماعة الإخوان والمجلس الوطني السوري طريف السيد عيسى، في أيلول (سبتمبر) 2012 حضور الجماعة بأنه ليس لديها "سوى عشرين مقعداً في المجلس الوطني السوري [الجمعية العمومية]، ومقعد واحد في المكتب التنفيذي، وستة أو سبعة مقاعد في الأمانة العامة")[22]. رغم ذلك، وعدا عن أن الجماعة "سيطرت بسرعةٍ على مكتبي الشؤون العسكرية والمساعدات الإنسانية في المجلس، اللذين تلقّيا معظم الأموال المقدّمة إلى المعارضة"[23]؛ فإنها أيضا "كانت أقوى بكثيرٍ مما تشير إليه الأرقام الرسمية"[24]. إذ من المعروف أن لدى "الإخوان" قاعدةٌ ليست صغيرةً لا ينتمي أفرادها للجماعة رسمياً، أو غير معلنٍ انتماؤهم لها، لكنهم يصوّتون لها ولمن تدعم ترشيحهم تلقائياً. بل وثارت شكوكٌ بأن "حركة العمل الوطنيّ من أجل سورية" التي أعلن عنها مطلع العام 2011، بقيادة عضو الجماعة أحمد رمضان (وحملت وقتها اسم "مجموعة العمل الوطني من أجل سورية")، إنما تشكلت أو انشقت عن الإخوان بدفعٍ من الجماعة نفسها، وأنها "كانت مجرّد حصان طروادة بالنسبة إلى الإخوان في المجلس الوطني السوري"[25]، لاسيما وأن المجموعة دخلت "المجلس" و"الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية" والحكومة المؤقتة، بشكلٍ مستقلٍّ عن الجماعة، كما شاركت في مؤتمر "جنيف2" الذي قاطعه "الإخوان".

 

تعثر "الربيع" الإخوانيّ؟

 

يمكن التأريخ لبداية تراجع النفوذ الإخواني في معارضة "الخارج" مع تشكيل "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية"، في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، بحيث أصبح "المجلس الوطني" جزءاً من الائتلاف، بعد معارضة "المجلس" لذلك بلسان رئيسه جورج صبرا، الذي قال إن "المجلس الوطني السوري أكبر من هذه المبادرة وغيرها، وله كيان سياسي وإقليمي كبير"، فيما كان المراقب العام للجماعة وقتها محمد رياض الشقفة قد أدان "التدخّل الغربي"، الذي يسعى إلى تشكيل كيان معارض أوسع من المجلس الوطني، معتبراً ذلك موجهاً ضد "الإخوان"، مؤكداً أن "المناورات التي تهدف إلى تهميش الإخوان ستبوء بالفشل"[26].

 

إلا أن الضربة الكبرى التي تلقاها "الإخوان" السوريون، أسوةً بالإخوان في البلدان العربية الأخرى عموماً، جاءت مع الانقلاب العسكري في مصر في 3 تموز (يوليو) 2013، بقيادة وزير الدفاع آنذاك عبد الفتاح السيسي، ضد الرئيس محمد مرسي. إذ كشف هذا الانقلاب حجم العداء الذي تكنّه لجماعة الإخوان المسلمين ككل، دولٌ عربيةٌ مؤثرةٌ إقليمياً، لاسيما الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية اللتين سارعتا إلى تصنيف الجماعة منظمة إرهابية. وهو ما كان يعني مزيداً من نأي قوىً سياسيةٍ وفصائل مسلحةٍ سوريةٍ بنفسها عن الجماعة، خشية تعرضها للعقاب والعزل؛ سياسياً ومادياً، من قبل هذه الدول.

 

ولاحقاً، وفي مؤشرٍ جديدٍ على انحسار السطوة السياسية، فشل "الإخوان" في التأثير على قرار "الائتلاف" المشاركة في مؤتمر "جنيف 2" في 22 كانون الثاني (يناير) 2014، الذي أعلنت الجماعة والمجلس الوطني عدم المشاركة فيه.

 

كذلك فإن الجماعة التي كانت أعلنت، في آب (أغسطس) 2013 -بلسان علي صدر الدين البيانوني الذي أصبح وقتها نائب المراقب العام- أن "الإخوان المسلمين لا يمكنهم الجلوس مع الأسد ومجموعته العسكريّة على طاولةٍ واحدة، لأن مطلبهم الأساسي هو رحيله نهائياً قبل الجلوس على طاولة الحلّ السياسي"[27]، عادت (الجماعة) وأعلن تأييدها للمشاركة في مؤتمر "جنيف3"، وهو الموقف الذي أعقب أيضاً تأييدها مخرجات مؤتمر الرياض للمعارضة السورية، والذي عقد في كانون الأول/ ديسمبر 2015، وأدى إلى تشكيل "الهيئة العليا للمفاوضات"، رغم إقرار الجماعة بامتلاكها رؤيتها المختلفة "لبعض النقاط حول نسب التمثيل وآليّات التعامل مع الأجهزة الأمنية والعسكرية"، بحسب بيانٍ للإخوان[28].

 

خاتمة: الثورة ومستقبل "الإخوان"

 

تُظهر تطوّرات الثورة السورية صحة الفرضية التي انطلقت منها هذه الورقة، والمتمثلة في ضعف حضور جماعة الإخوان المسلمين ونفوذها في المشهد السوريّ عموماً، وعلى مستوى الداخل بوجهٍ خاصّ، سواء في مرحلة الحراك السلميّ أو في مرحلة العسكرة. وهو الضعف الذي ينطبق أيضاً على صعيد الهيئات السياسية الممثلة للثورة، لاسيما مع تشكيل "الائتلاف الوطني"، ثم "الهيئة العليا للمفاوضات"، إضافةً إلى اعتبار "الإخوان المسلمين" منظمةً إرهابيةً أو غير مرغوبٍ فيها في عددٍ من الدول العربية المؤثرة.

 

 

كما تعاني الجماعة من أزماتٍ وصراعاتٍ داخليةٍ أثرت وتؤثر على أدائها وفعاليته. يبدو هنا بشكلٍ رئيسيٍّ الصراع على أساسٍ "مناطقيٍّ" بين قياداتها، لاسيما بين ما يُعرف بـ"التيار الحموي" و"التيار الحلبي"، ربما أدى إلى حصول انشقاقاتٍ معلنةٍ وصامتة، أحدثها ذاك الذي أعقب انتخابات الجماعة في العام 2010. يُضاف إلى ذلك "صراع الأجيال" داخل الجماعة بين جيل الشيوخ المسيطرين على القيادة إلى الآن وجيل الشباب، وهو الصراع الذي يعزى إليه ما اعتبر بمثابة انشقاقٍ من "شبابٍ" في الإخوان عن الجماعة وتشكيل "مجموعة العمل الوطني من أجل سورية"، قبل أن يصبح اسمها "حركة العمل الوطني من أجل سورية"، كما ذهب بعضهم إلى اعتبار الحركة بمثابة انشقاقٍ "حلبيٍّ" عن القيادة "الحموية" للجماعة في ذلك الوقت[29].

 

فوق ذلك، تواجه الجماعة منافسةً شديدةً من جماعاتٍ إسلاميةٍ مسلحةٍ تتمتع بالمشروعية العسكرية الثورية ولا تخفي طموحها السياسيّ، إذ تقدّم نفسها ممثلة الإسلام السياسيّ المعتدل في سوريا، ولاسيما "حركة أحرار الشام" التي أكد مسؤول العلاقات الخارجية فيها لبيب النحاس، في مقالٍ بصحيفة "التلغراف" البريطانية العام الماضي، أنها (أحرار الشام) هي البديل السُنّي عن الأسد و"داعش"[30].

 

رغم ذلك، تظل الجماعة ممتلكةً لميزةٍ نسبيةٍ مقارنةً بالقوى السياسية السورية الأخرى، وهي هيكلها التنظيميّ الواضح والراسخ، بما قد يلعب دوراً حاسماً في أيّ انتخاباتٍ تشارك فيها عقب التوصل إلى تسويةٍ سياسيةٍ للصراع. كما أن ضعف الحضور العسكريّ للجماعة قد يجعلها أكثر قبولاً على المستويين الدوليّ والإقليميّ باعتبارها أفضل البدائل السياسية-الدينية المتاحة مقارنةً بالفصائل "الإسلامية" المقاتلة، لاحتواء الكتلة السكانية الشعبية المحافظة، ولو إلى حين.

 

 

 


[1] مركز كارنيغي الشرق الأوسط، حزيران (يونيو) 2012:

  

[2] Charles Lester, The Syrian Jihad: Al-Qaeda, the Islamic State and the Evolution of an Insurgency, Oxford University Press, New York, 2015, p.54.

ويُعد المقدسي الأب الروحي لأبي مصعب الزرقاوي؛ مؤسس تنظيم "التوحيد والجهاد" في العراق في العام 2003، الذي صار اسمه "تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين" عقب مبايعة الزرقاوي لزعيم تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن في العام 2004، والذي وصل، في نهاية الأمر، وبعد قتل الزرقاوي بسنوات إلى أن يكون تنظيم الدولة الإسلامية "داعش".

[3] حديث مع الكاتب في العاصمة الأردنية عمان، العام 2004.

 

 

[7] يمكن الاطلاع على نص المقابلة على موقع "شبكة فلسطين للحوار"، 20/ 1/ 2011:

  

وتجب الإشارة إلى عدم توافر نص المقابلة على موقع صحيفة "الشرق" القطرية.

 

 

يشار إلى أن لوفيفر يضيف هنا حركة أحرار الشام باعتبارها إحدى الجماعات التي تلقت دعماً مادياً من "الإخوان" في تلك الفترة، وهو ما يبدو مستبعداً؛ إذ عدا عن تقديم "أحرار الشام" نفسها باعتبارها الحركة الأقوى عسكرياً وسياسياً على الساحة السورية، بما يعني أنها منافسٌ للإخوان أو بديلهم، تضم "أحرار الشام" أعضاء مؤثرين من تنظيم "الطليعة" الذي افترق عن "الإخوان" واتخذت علاقته بهم شكل عداء منذ ما بعد العام 1982.

 

 

[13] صفحة "هيئة دروع الثورة" على موقع "فيسبوك":

https://www.facebook.com/rsc.syria/timeline.         

 

[15] صفحة "هيئة دروع الثورة" على موقع "فيسبوك"، مرجع سابق.

 

[17] Charles Lester, The Syrian Jihad, op. cit., p.187.

 

[18] Charles Lister, “Yes, there are 70,000 moderate opposition fighters in Syria. Here’s what we know about them,” The Spectator, 27 November 2015.

 

[20] رافائيل لوفيفر، "الكفاح المسلح لجماعة الإخوان السورية"، مرجع سابق.

 

[22] آرون لوند، "الصراع من أجل التكيُّف: جماعة الإخوان المسلمين في سورية الجديدة"، مرجع سابق.

 

[23] المرجع السابق.

 

[24] المرجع السابق.

 

[25] المرجع السابق.

 

[26] المرجع السابق

 

 

 

[29] آرون لوند، "الصراع من أجل التكيُّف: جماعة الإخوان المسلمين في سورية الجديدة"، مرجع سابق.

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard