info@suwar-magazine.org

(فيلم لمسة من البهارت)

(فيلم لمسة من البهارت)
Whatsapp
Facebook Share

 

عن الاقتلاع والرحيل والوعود المعلّقة

 

 

*عمار عكّاش

 

ليست البهارات مجرّد نكهاتٍ تضاف إلى طعامنا؛ بل طيف المشاعر الذي تحمله الحياة بكلّ تناقضاتها، وهي السحر الخفيّ الذي يجمع البشر الغارقين في أعراقهم وجغرافياتهم وحدودهم الذهنيّة والنفسيّة. حكايةٌ عن الطفولة والحبّ والاقتلاع والرحيل والاغتراب، سيرةٌ ذاتيةٌ بنفسٍ روائيّ، تتخللها كوميديا هادئةٌ لطيفة، مع مشاعر طنّانةٍ أحياناً يدركها من خبروا معنى الاقتلاع والرحيل.

 

 

يسرد الفيلم حكاية الطفل (فانيس) الذي نشأ في كنف عائلةٍ يونانيّةٍ من اسطنبول، يترعرع بين حواريها وبحرها بين شرقٍ وغرب. يدخل الطفل عالم البهارات السحريّ من خلال جدّه بائع البهارات؛ الحاني والحكيم، الذي يلقنه أسرار البهارات وأسرار الكواكب؟! فحين تحبّ البهارات وروائحها تنغرس في الكون وتصبح كلّ المدن لك، يقول الجدّ في عبارةٍ ساحرة: ”الفلفل كالشمس حارّ، فينوس كالقرفة، فالنساء حلواتٌ ومُرّاتٌ في آنٍ معاً. والأرض هي الملح، كلّ شيءٍ يحيى بها دون أن تظهر”. ويَخْبَر الطفل علاقة حبٍّ طفوليةً بريئةً مع طفلةٍ تركيةٍ (سايمه)، يلقنها أسرار البهارات وهي ترقص له. ولكن سرعان ما تظلّل غيوم السياسة هذا العالم الطفوليّ البريء، فعلى خلفيّة الأزمة القبرصيّة تُرحِّل الحكومة التركيّة يونانيّي اسطنبول، وتبدأ غربة فانيس وعائلته، فهم عوملوا كيونانيين في تركيا، واستقبلوا كأتراك في اليونان. يتشبث الطفل بمفاتيح عالمه السحريّ الحرّ (البهارات)، ويظهر موهبةً استثنائيّةً يقمعها والداه خوفاً من تحوّله إلى مِثليّ، ومن رجل الدين (القسّ)، ولاحقاً يعمل الصبيّ طاهياً في ماخورٍ حيث تتفتح رغباته إلى أقصاها. وفي القسم الأخير من الفيلم يمنع المرض جدّه من زيارةٍ لأثينا وعدهم بها، فيعود فانيس إلى اسطنبول ويفارق جدّه الحياة، ويلتمّ شمل فانيس بحبيبة طفولته سايمه، لكنها الآن متزوجةٌ ولديها طفل، ويكتشفان أن ذكرياتهما حيّةٌ لم تَمُتْ. وينتهي الفيلم بمشهدٍ نوستالجيٍّ حالم؛ يمزج فانيس البهارات في عليّة دكان جدّه ويرشّها في الهواء ويرقص محلّقاً في عالم الطفولة الحرّ الباهر مرّةً أخرى على خلفيةٍ موسيقيةٍ باهرة، في مشهدٍ يذكّرنا بالمشهد الأخير من فيلم سينما باراديسو، حين يشاهد البطل قصاصات أفلام الطفولة.

 

قُسِّمَ الفيلم إلى ثلاثة أجزاء مُعَنْونَةٍ بما يماثل تقاليد تناول الطعام التركيّة واليونانيّة (للتركيز على المتماثل بدلاً عن المختلف القوميّ والسياسيّ): ”المقبّلات، الوجبة الرئيسية، الحلويات”، ويَخْبَر فانيس الحياة بصراعاتها وملذاتها وخيباتها بالتقسيم نفسه. صور الفيلم كلها مثل ذاكرة الطفل عذبةٌ حلوة؛ الكنيسة وأجراسها وشموعها، المسجد وأذانه، البحر والمنارة، السمك، أصوات الباعة، المظلة الحمراء بين المظلات السود، تنوّعٌ عفويٌّ بين البهارات والمجرّات وإيقاعاتها، تكسره الأحقاد البشرية. طيلة الفيلم موظّفو البزّاتِ الرسميّة، اليونانيّون والأتراك، هم الأقبح، يكادون يتماثلون، ويبدون النموذج الغريب الوحيد عن هذا المشهد العفويّ الحرّ وعن الهارمونيا الكونية. الموسيقى التصويريّة مزيجٌ فريدٌ من مكوّنات اسطنبول التاريخية: الموسيقى الغربية الكلاسيكية والتراث اليونانيّ، وهي تتحوّل وتتصاعد مع إيقاعات الحبكة والسرد.

 

من الانتقادات التي وُجّهت إلى الفيلم أنه مغالٍ في الشاعرية، وأن الجدّ يبدو شخصاً خيالياً حكيماً، وأن السياسة تُقحم إقحاماً، لكنه نقدٌ يأتي من خارج الفيلم دون أن يعيشه. فالفيلم بطبيعته سيرةٌ ذاتيةٌ بعين طفل، والجدّ بالنسبة إلى أيّ طفلٍ هو الحنان والحكمة. ومن الطبيعيّ أن يكون عالم السياسة غريباً عن الطفل، فحتى الكبار الحالمون لا يتقنون أبجدياته.

 

في المشهد الأخير يقول فانيس لسايمه في محطّة القطار: “لا تنظري وراءك سايمه. فعلى رصيف محطّة القطار، حين ننظر وراءنا، تبقى تلك الصورة مثل وعدٍ معلّق”، قبل أن يغرق في عالم البهارات مجدداً. لكلٍّ منّا صورةٌ أو التفاتةٌ ما تبقى وعداً معلّقاً لعالمٍ نشدناه نحلم أن يُوفَى، لكننا نكبر دون أن نفي طفولتنا ما نذرناه لها من عهودٍ، ونغرق في يوميّاتنا وعالمنا، ونتذكر وننتظر…

 

 

مشاهد من الفيلم؛

 

 

 

.

.

اقرأ المزيد للكاتب .. 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard