عيشة.. السيدة الأولى في الغوطة الشرقية
*الباسل تادروس
عيشة امرأةٌ في الثمانين من عمرها، باتت اليوم رمزاً من رموز بلدة حرستا المحاصرة بريف دمشق، تقول: "أريد أن أُدفَن هنا" مشيرةً إلى بلدة حرستا.
لعيشة مكانةٌ هامةٌ في ذاكرة أهالي البلدة. الجميع يعرف هذه المرأة التي لا تخاف أحداً، إلى درجةٍ جعلت حتى قادة الفصائل العسكرية يخشونها وينصتون لرغباتها وأوامرها التي كانت تصدرها دون خوفٍ على الإطلاق". يروي بسام، وهو أحد رجال البلدة ممن حملوا السلاح في وجه النظام السوريّ، وتربطه بعيشة صلة قرابةٍ بعيدة: "ذات مرّةٍ، وأثناء قيام أحد قادة فصائل المعارضة بجولةٍ ميدانيةٍ على المقاتلين عقب تحرير بلدة حرستا أوائل عام 2013، فاجأته عيشة وهي تناديه باسمه لتأمره بأن يقوم بتمديد خطٍّ من المولدة الكهربائية إلى منزلها الذي كان في الأصل دكاناً صغيرةً أقامت فيه بعد وفاة والدها".
عندما بلغت عيشة عامها الثالث عشر أصابها ما يعرف بـ"وسواس النظافة القهريّ"، كما يذكر بعض الأهالي. وأصبح ينتابها شعورٌ بالقلق والتوتر إذا زار منزلهم شخصٌ ما، فكانت تقوم بتنظيف المنزل لدى مغادرته على الفور. "أحياناً كانت عيشة تجلس على كرسيٍّ خشبيٍّ بالقرب من الباب الخارجيّ لمنزل أهلها سابقاً، وهو بيتٌ عربيٌّ قديم"؛ يقول أبو عمار، وهو رجلٌ كبير السنّ يسكن في الجوار: "لم تكن تسمح لأحدٍ أن يلمسها، لذلك لم تتزوج على الإطلاق. وبعد وفاة والدها قام بعض أقاربها بإخراجها من البيت الكبير وبيعه، وإعطائها الغرفة التي تسكن فيها حالياً، ووعدوها بإعطائها بيتاً في المحضر الذي سيشيدونه عوضاً عن المنزل الكبير".
لما بدأت معركة مدن وبلدات الغوطة الشرقية، أواخر عام 2012، طالبت المعارضة المسلحة جميع الأهالي بإخلاء بيوتهم، لأن بلدة حرستا تعدّ خط جبهة، فوضعتهم في باصاتٍ كبيرةٍ وأرسلتهم باتجاه بلدة التل. لكن عيشة رفضت المغادرة رغم المحاولات الكثيرة لإقناعها بالعدول عن رأيها، حتى أخرجوها رغماً عنها، كما يروي بسام: "كانت عيشة تستغيث وتصرخ بأنها لا تستطيع العيش خارج حرستا. أخذ بعض المقاتلين، الذين حملوها خارج بيتها، يطيّبون خاطرها ببعض الكلمات، ليتمّ نقلها إلى بلدة التل الواقعة تحت سيطرة النظام آنذاك".
لم يمضِ أكثر من شهرٍ حتى عادت عيشة إلى حرستا، والمعارك ما تزال على أشدّها بين مقاتلي المعارضة وقوّات النظام. ولكن عيشة دخلت حرستا غير مكترثة، بعد أن اجتازت حواجز النظام بإعطائهم ورقةً ممهورةً بتوقيع رئيس بلدية التل، تقضي بالسماح لها بالعودة إلى بلدتها رغم المعارك والاشتباكات.
"كنت كل يومٍ، منذ السادسة صباحاً، أذهب إلى مكتب رئيس بلدية التل، وأنتظر لعدّة ساعاتٍ أحياناً كي يسمحوا لي برؤيته. حاول، هو وبعض رجاله، إبعادي، وقاموا بطردي عدّة مرّات.
فكنت أذهب إلى المدرسة التي وضعونا فيها كي ننام، لأعود في اليوم التالي مجدداً. كنت أصرخ: "أريد أن أُدفَن في حرستا، هل أصابكم الطرش؟!"؛ هكذا تقول عيشة، التي غدت بلا منازعٍ، بعد انتشار قصتها في حرستا، سيدة البلدة الأولى.
تجلس عيشة، كعادتها، على كرسيٍّ خشبيٍّ أمام منزلها الصغير المطلّ على الشارع، مرتديةً الزيّ الريفيّ القديم. تنظر من حولها راصدةً المارّة بعينين فضوليتين، وتقول بامتنان: "أنا أعيش وحيدة. يقوم بعض الشبان من المقاتلين بإعطائي بعض الطعام، ويجلبون لي باستمرارٍ كلّ ما أحتاج إليه".