info@suwar-magazine.org

بعد خمس سنوات.. يجب استعادة الثورة السورية

بعد خمس سنوات.. يجب استعادة الثورة السورية
Whatsapp
Facebook Share

 

 *سلامة كيلة

 

الحراك الشعبيّ الذي حدث في مناطق عدّةٍ من الأرض السورية التي هي خارج سيطرة النظام أوضحَ أن الثورة لا زالت قائمة، وأن الشعب لا زال يسعى من أجل التغيير، رغم تحوّل الثورة إلى العمل المسلح، ورغم تعبئة سوريا بأشتات الأرض من "الجهاديين"، وتشكيل مجموعاتٍ أصوليةٍ تسيطر على مناطق كبيرةٍ من أرض سوريا، وكذلك بأشتاتٍ من القوى والجيوش الطائفية المقابلة، من لبنان والعراق وإيران إلى باكستان وأفغانستان. وبالتالي إظهار أن ما يجري هو صراعٌ بين النظام وداعميه وبين الإرهاب السلفيّ الجهاديّ، كما أراد "المخطط" الذي وضعه النظام منذ البدء. رغم أن الشباب الذي تظاهر أشهراً هو الذي حمل السلاح بعد أن فرضت وحشية النظام ذلك، وهو الذي عمل على دحر قوّات النظام من أجل إسقاطه قبل أن يُحمى من إيران وحزب الله وروسيا.

 

إذن، الشعب يزيل "الطبقة السميكة" من العثّ التي تراكمت على الثورة بفعل تدخلاتٍ متعددة، وفُرِضت عليه. وهو يُظهر أنه قويٌّ حتى دون سلاح، وأنه مصمّمٌ على الاستمرار رغم كلّ الوحشية التي مارسها النظام بدعمٍ إيرانيٍّ وروسيّ، والتي أدت إلى قتل مئات آلاف المواطنين وتهجير الملايين، واعتقال مئات آلافٍ كذلك. وأيضاً رغم وحشية داعش والنصرة وجيش الإسلام وغيرها من القوى التي تعتقد أنه من الممكن فرض السلفية وتأسيس "الدولة الإسلامية" نتيجة امتلاكها السلاح والمال القادم من دولٍ إقليمية، هذه الدول التي أرادت تدمير الثورة أصلاً.

 

 

تفرض هذه النهضة الجديدة أن يُعاد بناء الرؤية والهدف بعد أن تفككت الأهداف وتلاشت الرؤية نتيجة دور السلفية والدول الإقليمية والقوى الإمبريالية، وأيضاً سياسات المعارضة. ربما يجب أن نفهم أن ما جرى ويجري من تظاهراتٍ، في ظلّ ظروفٍ في غاية الصعوبة، يفرض أن نعيد بناء الثورة بعد أن بدا أنها انتهت، ونعاها كثيرون من رافضيها ومؤيديها. فقد أظهرت التظاهرات أن الشعب حيّ، وانه لا زال يقاتل من أجل إسقاط النظام بغضّ النظر عن كل التشوّه الذي طال الثورة، وتزايد قوة قوىً سلفيةٍ نتيجة الدعم الإقليمي والدوليّ، واختراق الثورة بـ"جهاديين" يخدمون نظماً متعددةً ضد الثورة.

 

الثورة مستمرّة، وستبقى مستمرّةً رغم تكالب كلّ القوى الإمبريالية و"الرجعية" عليها، ورغم كلّ الشغل من أجل تخريبها تحت مسمّى دعمها، وتحويلها إلى مجزرةٍ لكي تتعظ شعوب العالم. وهي مستمرّةٌ ببطولة الشعب الذي صنعها، وواجه كلّ العالم دون أن يُهزم. فقد هزم النظام الذي اضطرّ إلى استجلاب حزب الله والميليشيا الطائفية العراقية والحرس الثوريّ الإيرانيّ وأشتاتٍ من الطائفيين المغرّر بهم من العالم، وهو سيهزمه وهو يتلطى خلف الطيران الروسيّ والقوّات الروسية، ويهزم روسيا التي تحاول أن تظهر كقوةٍ عالميةٍ لا تُقهر، رغم أنها سحبت بعض قوّاتها وقالت إنها تريد الحلّ السياسيّ، ولقد فعلت ذلك لأنها خافت الغرق في أفغانستان جديدة.

 

 

لكن، بعد خمس سنواتٍ من الثورة، سنتان كانتا شعبيّتين بامتيازٍ رغم التسلح الذي رافق فترتها الأخيرة، وثلاث سنواتٍ شهدت كلّ وحشية النظام والطائفيين الذين حضروا لمنع سقوطه، من داعش والنصرة إلى حزب الله والميليشيا الطائفية العراقية والحرس الثوريّ الإيرانيّ، لكنها شهدت سيطرة النشاط المسلح على الثورة في مواجهة كلّ تلك الوحشية وذاك التدخل؛ بعد ذلك لا بدّ من وقفة، خصوصاً بعد تجدّد الدور الشعبيّ، من أجل أن يعاد بناء الأهداف والرؤية ووضع الاستراتيجية التي تفضي إلى الانتصار. لا بدّ من أن نتجاوز العفوية التي بدأت الثورة بها، والتشتت الذي حكمها بعد أن تسلحت، والأوهام التي أهالها عليها رهطٌ من المعارضة لم يكن يعنيه سوى أن يصبح بديل النظام بغضّ النظر عن الطريق والطريقة، دون أن يختلف عنه من حيث الممارسة أو المنظور. ومن ثم إدخال المجموعات "الجهادية" لكي تعيث بها فساداً وتخريباً.

 

المطلوب الآن أن نصفي الحساب مع تيارين "تعربشا" على الثورة، وأرهقاها طيلة السنوات التي مضت، وأقصد تيار "الأسلمة"، الذي بدأ مع الإخوان المسلمين و"تعمّق" مع أحرار الشام وجيش الإسلام، لنصل إلى جبهة النصرة وداعش. فالثورة لا تريد "الدولة الإسلامية"، لأنها كانت ضد الاستبداد والشمولية أصلاً، ولأنها تريد التقدم وليس الانكفاء، وتنطلق من أن "الشعب السوري واحد" وليس طوائف. وإذا كانت وحشية النظام قد فرضت اللجوء إلى ما هو روحيٌّ لبعض مَنْ يقاتلون وهم يعرفون أن الموت يلاحقهم، خصوصاً في بيئةٍ شعبيةٍ بسيطةٍ عمل الاستبداد على زيادة تهميشها وإعادتها إلى وعيها "التقليديّ"، فإن الظاهرة هي من فعل التدخل الخارجيّ، من النظام الذي عمَّم الأصولية طيلة عقود، ووصم الثورة بالسلفية، ومن ثم أطلق سراح "الجهاديين" الذين كان يجب أن يمثلوا هذه السلفية على الأرض، والذين باتوا القوة المسلحة الأكبر، ومن الدول التي أرادت تدمير الثورة خشية أن تصل إليها، فعملت على فرض الأسلمة اعتماداً على الحاجة إلى المال والسلاح، رغم أنها لم تقدم الشيء الكثير، بالضبط لأنها لا تريد للثورة أن تنتصر.

 

ما هو ضروريٌّ وحاسمٌ الآن هو مواجهة جبهة النصرة وداعش كمجموعتين تخدمان النظام والدول التي تريد تدمير الثورة. لكن كذلك لا بدّ من مواجهة كلّ أشكال السلفية التي تُحمَل على السلاح، فالبديل عن النظام ليس السلفية بل الحداثة والعلمنة والدمقرطة. ليس مستقبل سوريا إسلامياً بأيّ شكلٍ من الأشكال، بل حداثياً علمانياً ديمقراطياً. فالحرية هدفٌ طُرح منذ اللحظة الأولى للثورة، والتخلص من الاستبداد هو ما حرّك وفرض السعي للتخلص من النظام. ولا يمكن لأيّ منظورٍ سلفيٍّ أن يحمل الحرية بل إنه يحمل استبداداً مركباً، في المستوى السياسيّ كما يفعل النظام، والمستوى الشخصيّ، حين يظهر أنه على الشعب أن يلتزم قيماً مطلقةً تجاوزها الزمن، وأن يُحاسَب على أساسها رغم أنها آتيةٌ من القرون الوسطى، وطابعها قيميٌّ أخلاقيٌّ ماضويّ. وهو الأمر الذي يعني فرض جبريةٍ مطلقة، والجبرية ضدّ الحرية بالضرورة.

 

 

يجب أن تدفع استعادة الحراك الشعبيّ إلى هزيمة داعش والنصرة، وتخليص الثورة من كلّ ميلٍ سلفيٍّ عبر كشف ماهيته، و"رجعيته"، وأنه يعيد المجتمع قروناً إلى الخلف. لهذا يجب أن توجّه التظاهرات لتخليص المدن والمناطق من وجود النصرة وداعش، كما حدث في معرّة النعمان وإدلب. وأن يجري توضيح كيف يمكن أن تتحقق مطالب الشعب، والتي تفرض تجاوز السلفية لأنها لا تحمل حلولاً لهذه المطالب، رغم الحقّ في التدين الذي تضمنه الدولة العلمانية.

 

كما تجب تصفية الحساب مع التيار الليبراليّ الذي تمسّك بمطلبٍ وحيدٍ هو الحرية، متجاهلاً مطالب الشعب الذي أُفقر إلى حدٍّ كبيرٍ بعد تعميم اللبرلة في سوريا في العقد الأخير خصوصاً. وبهذا تجاهل جوهر الأزمة التي فرضت الثورة، إذ أدّت إلى انتشار البطالة والفقر والتهميش، متمسكاً بالخيار الليبراليّ ذاته، ورابطاً مساره بالدول الإمبريالية التي لا تريد لا الحرية ولا التطور لسورية. وبات الكثير منه تابعاً لدولٍ إقليمية، رغم أن الدول الإمبريالية والإقليمية اشتغلت جاهدةً من أجل إجهاض الثورة عبر "أسلمتها" وتفكيكها، ودعم الأصولية لكي تصبح المهيمنة. بالتالي ليس الخيار الليبراليّ ولا العلاقة مع "الغرب" ما يحقق مطالب الشعب السوريّ، لأن كلّ ذلك هو ما أفقر وهمّش الطبقات الشعبية. فالخيار الليبراليّ يعني فتح الأسواق لنهب رأسماليةٍ مافياويةٍ محليةٍ بالترابط مع الطغم الإمبريالية، والاستمرار في تكريس اقتصادٍ ريعيٍّ أساسه النهب والفساد، وليس من نتيجةٍ أخرى لهذا الخيار.

 

 

وإذا كانت الثورة قد انطلقت من أجل إسقاط النظام لتحقيق مطالب شعبية، وخاضت وتخوض صراعاً من أجل تغييره، فقد تراكبت عليها مشاريع متعددة، وحُمِّلت أوهاماً عديدةً بالتالي. أولها مشروع تخريب الثورة الذي تمثله داعش والنصرة، سواء لأنها مخترقةٌ أو تعمل لمصلحة دول، أو لأن المنظور الذي تطرحه يجعلها في صدامٍ مباشرٍ مع الشعب في المناطق التي توجد فيها، أي البيئة التي تخلصت من سيطرة النظام، ولهذا تصادمت مع الشعب ومع القوى التي تقاتل النظام، وكانت هذه هي مهمتها. لكن في بنية الثورة، أو من يدّعي الثورة، نشهد صراعاً بين مشاريع تطرح ذاتها كبديل، منها طرح المجموعات السلفية التي تريد إقامة الدولة الإسلامية، وترفض الحرية والديمقراطية، ولا تتناول بالأساس المطالب الاقتصادية، ومنها المعارضة الليبرالية التي تريد الحرية والديمقراطية (وربما شكلياً فقط) لكنها ترفض المطالب الاقتصادية. ولهذا فإن الصراع في صلب الثورة هو ضد هذه المشاريع، بالضبط لأنها لا تحقق مطالب الشعب، هذه المطالب التي هي جوهر الثورة.

 

الميل الليبراليّ، كما الأصولية، شوّها الثورة، وحاولا جرّها إلى مستنقعاتٍ مدمرة، لهذا لا بد من تجاوزهما معاً إذاً، وإعادة بناء الأهداف التي تعبّر حقيقةً عن مطالب الشعب. فمواجهة استبدادية النظام ضرورةٌ بالتأكيد، والسعي إلى بناء دولةٍ علمانيةٍ ديمقراطيةٍ مطلبٌ أساسيٌّ في الثورة، إذ يجب أن تعود السلطة للشعب، وأن يصبح المرجعية الأساسية للنظام السياسيّ، وأن يمارس حقه في الصراع الديمقراطيّ، وفي التعبير عن ذاته بأشكالٍ مختلفةٍ سياسيةٍ ونقابيةٍ وغيرها. لكن قطاعاً كبيراً من الشعب يعيش وضعاً معيشياً سيئاً؛ البطالة والفقر والتهميش، وانهيار التعليم والصحة، وهو الوضع الذي فرضته اللبرلة التي تعمّمت في السنوات الأخيرة قبيل الثورة. وهذه الوضعية هي التي جعلته يثور ويتمرّد من أجل تغيير النظام، هذه هي المطالب التي يطرحها، فهو يريد العيش أولاً لكي يكون قادراً على ممارسة حريته.

 

 

يفرض هذا الأمر إعادة بناء أهداف الثورة بشكلٍ أبعد من أن يتركّز على إسقاط النظام فقط، فمن يريد إسقاط النظام يريد ذلك من أجل تحقيق مطلبٍ له، وليس لأنه "يكره" النظام، أو لأن النظام مستبدّ، فهو يرى الاستبداد من منظور "ما ينقصه"، أي ما يحسّ به من عجزٍ عن العيش، عن العمل، عن الحصول على تعليمٍ مجانيٍّ وضمانٍ صحيٍّ وعلاجٍ مجانيّ. لهذا لا يمكن تجاهل ما هو جوهريٌّ في الثورة نتيجة مصالح ضيّقةٍ لمافياتٍ تريد الحلول محل المافيا المسيطرة، أو ليبراليين موهومين نتيجة انقلاب مواقف بعد أن ظنوا طويلاً أنهم اليسار. فقد أُفقر الشعب بسبب اللبرلة، وليس من لبرلةٍ لا تفضي إلى النتيجة ذاتها. بالتالي يجب أن يكون واضحاً أن هدف الثورة هو تحقيق المطالب الشعبية في العمل والأجر المناسب والتعليم المجانيّ والضمان الاجتماعيّ والصحيّ، وأيضاً بناء دولةٍ علمانيةٍ ديمقراطية. وكلتا المسألتان تفرضان تغيير النمط الاقتصاديّ الريعيّ وبناء اقتصادٍ منتج، فهذا ليس أساس حلّ المشكلات "المطلبية" فقط، بل أيضاً أساس بناء الدولة العلمانية الديمقراطية، التي لا يمكن لمافيا أن تبنيها، ولا يمكن أن تقوم على أساس اقتصادٍ ريعيّ.

 

إن ما تهدف الثورة إليه هو تغيير النظام الاقتصاديّ السياسيّ من أجل تحقيق مطالب الطبقات الشعبية في الحياة الكريمة، وبناء الدولة العلمانية الديمقراطية، لهذا تجب إعادة طرح المطالب كلها وليس التركيز على إسقاط النظام فقط، أو المناداة بالحرية فحسب. فإسقاط النظام ليس هدفاً قائماً بذاته بل هو مدخلُ تحقيق مطالب الشعب، هو مدخل إعادة بناء الاقتصاد والدولة بما يحقق مصالح الشعب وليس مصالح فئةٍ مافياويةٍ جديدة، أو مطامح (أو أوهام) نخبٍ تتسم بضيق الأفق، وبالذاتية. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى وضع البلدان التي تحقق فيها "التغيير"، والتي لا زالت الأزمة المجتمعية قائمةً فيها مثل تونس ومصر، بالضبط نتيجة تجاهل المعارضة الليبرالية لأهمية تغيير النمط الاقتصاديّ لأنها تكرّس النمط القائم فلا تلتفت لمطالب الشعب.

 

 

هذا هو المطلوب ثانياً، إذ يجب أن تتبلور مطالب الشعب الذي عاد إلى الحراك الشعبيّ. وعلى ضوء ذلك لا بدّ من تجاوز الشروخات التي ظهرت خلال السنوات الثلاث الأخيرة، والتي أنتجت خطاباً "طائفياً" وأحكاماً شوّهت الثورة. لم يشارك كلّ الشعب في الثورة، هذا أمرٌ يحدث في كلّ الثورات، لكن الخطر نتج عن تفسير ذلك انطلاقاً من منظورٍ طائفيّ، وبالتالي "التحشيد الطائفيّ المقابل"، وهو ما فتح الباب أمام تعزيز دور القوى السلفية، وعثور داعش والنصرة علـى "بيئةٍ طبيعية". لم يُطرح السؤال حول سبب عدم مشاركة العلويين رغم أنهم مفقَرون، بل أصبحت "طائفيتهم" هي ما جعلهم يقفون مع النظام، كما كرّرت نخبٌ "محترمة". ولم يجرِ الانتباه إلى أن كلّ خطاب المعارضة تجاهل الفقر والتهميش، وبالتالي لم يشتغل على استقطاب كلّ هؤلاء المفقَرين، وعلى العكس من ذلك جرى التركيز على السلطة، وقسّم الشعب طائفياً انطلاقاً منها. وهذا ما فرض تجاهل البرجوازية "السنية" التي لا زالت هي القاعدة الاجتماعية للنظام، بالضبط لأن الميل الليبراليّ لا يلقي أهميةً لوضع المفقَرين من قبل هؤلاء. وبهذا لم تجد تفسيراً لعدم انخراط القطاع الأكبر من العلويين (والأقليات) في الثورة سوى المسألة الطائفية. ودون لمس أن هذا المنظور الطائفيّ، الذي ظهر من قبل أطرافٍ معارِضةٍ سيطرت على الإعلام، هو الذي كان يخيف من الثورة ويدفع إلى الالتصاق بالنظام كحمايةٍ من "غول السلفية"، الذي تجسّد واقعياً بعد ذلك بفعل النظام والدول الإقليمية وبعض أطراف المعارضة. فقد صبّت جهود الدول الإقليمية وهذه المعارضة في مصلحة السيناريو الذي قرّره النظام منذ البدء، وتحدّث به كوجودٍ رغم أنه كان متخيلاً بداية الثورة، لكنه تجسّد عملياً في نهاية الأمر.

 

 

فقد دعم النظام وجود المجموعات "الجهادية"، ودعمتها دولٌ إقليمية، وأطرافٌ ونخبٌ معارضة. وأخاف النظام العلويين والأقليات من السلفية والإرهاب الأصولي، ولعبت هذه الأطراف على تخويفهم بها كذلك، بالظنّ أن ذلك سوف يوحّد "الأغلبية السنية" ضد "الأقلية العلوية"، وفي هذه المعادلة تنتصر الأغلبية كما توهمت. بينما كانت هذه المعادلة تؤدي إلى الاستعصاء، واستغلال وجود "الجهاديين" لرفض الثورة، والتأكيد على بقاء النظام، أو بقاء بنية النظام ورحيل بشار الأسد فقط. لكنه أدّى إلى شقّ الشعب، ودَفْع جزءٍ منه لكي يدافع عن نظامٍ هو ضدّه أصلاً، خوفاً من غولٍ يتقدم كما صوّر الإعلام وساعدت أطرافٌ في المعارضة. وأيضاً إلى أن "تؤكل" الثورة من قبل المجموعات السلفية التي توافرت بيئةٌ لها بدل تنبيه الشعب إلى أخطارها، وأصلاً منع وجودها من خلال تصفية "الوافدين" من أصقاع العالم، والمدرَّبين لكي يخرِّبوا الثورات كما خرَّبوا المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأميركيّ.

 

هذا ما جعلني أبدأ بمواجهة السلفية و"تديين" الثورة، وهو الأمر الذي يعني تطييفها بالضرورة. ومن ثم أتناول إعادة بناء الأهداف، أهداف الثورة التي تعبّر عن مطالب طبقاتٍ شعبيةٍ فرضها وضعها المعيشيّ الذي أنتجته اللبرلة. إذ يجب نقل الأمر من "إسقاط النظام" لكي يكون بديله هذه المجموعات السلفية إلى إسقاط النظام من أجل تحقيق مصالح الشعب؛ المصالح التي تتحدد في الأهداف التي أشرت إليها. سيخسرنا هذا مافيا "سنّيةً" و"نخباً سنّية"، ويفقدنا دعماً موهوماً من دولٍ تقول إنها من "أصدقاء الشعب السوريّ" وهي تحت هذا "الإعلان" تدعم السلفية وتخريب الثورة، لكنه سوف يؤسّس لأن تبقى الثورة شعبية، وأن تضم كلّ الطبقات الشعبية. لهذا يجب أن يتبلور خطابٌ جديدٌ يركّز على المطالب الشعبية، وعلى تغيير النظام من أجل تحقيقها. وأن يجري النظر إلى الشعب كشعبٍ وليس كطوائف، وأن يُدان ويُفضح كلّ من ينطلق من منظورٍ طائفيّ. وأن لا يجري التعميم في الأحكام، فمن قاتل الشعب ليس العلويين بل قوّات النظام التي شكّلها لهذه المهمة، وأيضاً ليس كلّ الجيش الذي انشق بعضه وهرب الكثير من عناصره، ولم يستطع ذلك من تبقى منه. كذلك ليس كلّ من وقف مع النظام عدوّ، بل إنه تقصيرنا في توضيح أهداف الثورة، ورفض أطرافٍ معارضةٍ كشف أخطار السلفية بل الدفاع عنها، والغرق في خطابٍ طائفيّ. فهذا هو الشعب الذي يجب أن تعبّر الثورة عنه، وأن يجري العمل على أن يشارك فيها، بغضّ النظر عن الدين والطائفة والإثنية. هذا الشعب هو من يريد تغيير النظام وليس "طائفة" منه، لأن الثورة تطرح تجاوز المنظور الطائفيّ بالأساس.

 

 

لقد دفعت أطرافٌ عديدةٌ من المعارضة، ودولٌ إقليميةٌ وإعلامٌ إقليميٌّ ودوليّ، نحو "أسلمة" الثورة وتطييفها. وكان كل ذلك يصبّ في مسار تدميرها، وكما لاحظنا تدمير سورية، بالضبط لأنها سمحت للنظام بأن يُظهر كلّ وحشيته، وأن يجد "القاعدة الشعبية" التي تقبل أن يزجّها في حربٍ مهلكةٍ أفقدتها خيرة شبابها (الذين هم شبابٌ سوريّ)، كما لأن الأسلمة والتطييف سمحا بوجودٍ "طبيعيٍّ" لداعش والنصرة، ولقوىً سلفية، وهو الأمر الذي أسّس لاستعصاءٍ بالضرورة. لهذا يجب أن نفهم وضع العلويين (والأقليات عموماً) انطلاقاً من كلّ ذلك وليس بعزوه إلى "سببٍ أصليٍّ" يتمثّل في طائفيتهم، فهذه "الطائفية" نتجت عن التخويف و"الطائفية المقابلة"، وبالتالي قَسْم الشعب السوري مسبقاً إلى طوائف، عبر نقل الأرضية من الأرضية المشتركة التي تتمثل في الحرية والدمقرطة والفقر والبطالة والتهميش (أي الأساس الطبقيّ) إلى الانقسام القائم على موروثٍ بات من الماضي.

 

يجب أن ينتهي هذا الأمر، فـ"الشعب السوري واحد". وإذا كان هذا الشعار جاء ردّاً على خطاب النظام، فإنه اليوم يُطرح ردّاً على خطاب المعارضة والدول الإقليمية وكلّ الدول الإمبريالية. ولا يعني ذلك غضّ النظر عن كلّ المتورطين في القتل والتدمير والاعتقال والتشريد، بل يجب أن يُحاسَب كلّ من مارس ذلك، ولا ينطبق هذا الأمر على طرف النظام فقط بل كذلك على داعش والنصرة وجيش الإسلام، وكلّ من مارس ذلك باسم الثورة.

 

الثورة هي ثورة الشعب السوريّ، لا ثورة طائفةٍ ضدّ أخرى، وتحمل مطالبه في الحرية والحقّ في العمل والأجر المناسب والتعليم والصحة المجانيين، والبنية التحتية المتطورة، وعلمنة الدولة ودمقرطتها.

 

وما دام الحراك الشعبيّ قد عاد، ويمكن أن يتوسّع في المرحلة القادمة، لا بدّ رابعاً من تنظيم السلاح وتوحيده، وإخراجه من المدن والبلدات لكي يكون حيث القتال. التشتت القائم يجب أن ينتهي، والربط مع دولٍ خارجيةٍ يجب أن ينتهي كذلك، ويجب العمل ضمن استراتيجيةٍ واضحةٍ تقوم على أساس دعم الحراك الشعبيّ لا أن يكون بديلاً عنه كما حدث في السنوات الثلاث السابقة، وأن يخضع لمبدأ وطنيٍّ عامٍّ لا أن يصبح عصابةً لطرفٍ من الأطراف أو عصبةٍ موهومةٍ بأنها ممثلة "الذات الإلهية". لا بدّ من أن تحمل الكتائب المسلحة أهداف الثورة بالأساس، لكي تكون معبّرةً عن الشعب.

 

وفي الأساس يجب أن يكون السلاح هو الرديف للحراك الشعبيّ وليس البديل عنه، وإلا سنعود إلى الاستعصاء القائم، وإلى الاتكال على دولٍ إقليميةٍ ليست معنيّةً بالثورة بل معنيّة بتخريبها. الأساس هو الشعب وليس السلاح، بعكس النظام الذي استخدم السلاح ضد الشعب.

 

المسألة الأخرى في ما يتعلق بالسلاح تتمثل في الخروج من الطابع المناطقيّ لكي يصبح الصراع شاملاً وليس دفاعياً في الإطار المناطقيّ. ويعتمد هذا على توحيد السلاح وتنظيم فاعليته. لكن أيضاً يجب أن لا يكون السلاح هو السلطة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، بل أن يترك ذلك للشعب لكي ينظم حياته. فالسلطة للشعب وليس للكتائب المسلحة. بالتالي لا بدّ من تشكيل المجالس المحلية التي تدير أمور الحياة اليومية وتنظّمها.

 

أخيراً، درجت المعارضة على الارتباط بالدول الإمبريالية والإقليمية انطلاقاً من أن هذه الدول هي التي سوف تحقق الانتصار لها، وكان ذلك يشكّل أكبر الضرر للثورة لأن كلّ هذه الدول كانت معنيةً بتدمير الثورة، وباتت مؤخراً تريد رحيل بشار الأسد فقط، دون أن تكون معنيةً بتحقيق مطالب الشعب. لهذا ليس من خيارٍ سوى السعي من أجل الحصول على دعم الشعوب، التي هي معنيةٌ بالتغيير العالميّ، وكثيرٌ منها يعيش الأزمات ذاتها. يفرض هذا الأمر توضيح ماهية الثورة السورية بعد أن تشوّهت بفعل الإعلام الإمبرياليّ و"اليسار الممانع"، وكذلك بفعل سياسات المعارضة التابعة للإمبريالية، والتي تحدثت بخطابٍ طائفيٍّ قذر. بالتالي لا بدّ من خطابٍ يوضّح مطالب الثورة وأهدافها، وطابعها التحرريّ الثوريّ.

 

 

لا شك في أن الثورة مستمرّة، وبالتالي لا بدّ من إعادة بناء منظورها وبنيتها واستراتيجيتها. ورغم المفاوضات التي تجري، والتي يمكن أن توصل إلى حلٍّ ما، ما من شكٍّ في أن الثورة ستستمرّ حتى وإن تحقق حلٌّ الآن، إذ إن هذا الحلّ مبنيٌّ من "الأحجار القديمة" التي لا تحمل حلاً مجتمعياً، ربما سوى وقف هذا الشكل من الصراع الدمويّ، وهذا أمرٌ جيدٌ لكنه ليس كافياً، بالضبط لأنه لا يحمل حلاً للمشكلات المجتمعية. وما دامت هذه المشكلات لم تحلّ ستكون الثورة مستمرّة.

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard