info@suwar-magazine.org

تلك الأنشوطة.. ذلك القتل العادل

تلك الأنشوطة.. ذلك القتل العادل
Whatsapp
Facebook Share

 

 

 

*نبيل الملحم

 

كنت صغيراً، ربما أصغر من أن أولد بعد، وكانت الاستعدادات لإعدام "كوهين"، الجاسوس الإسرائيلي الشهير، قد أخذت ذلك الليل بعرضه وطوله.. ولا أعرف على وجه التحديد تلك القوّة التي أوصلتني من ركن الدين إلى فجر ساحة المرجة.. لا، لم يكن فجراً، كان على حواف الفجر، فالليل لم يزل يتطلب إضاءات الساحة والفندق الأكثر شهرة المقابل للساحة من غربها.. أعني من الجهة التي تلقي بأضوائها على الكتف الأيمن للرجل الذي يترنح متراقصاً والأنشوطة تلتف حول عنقه فيما تتردد أقدامه في التوقف عن الاهتزاز، كان ذلك قبل أن تشيخ ألوانه ويشحب.

 

كان جاسوساً، وبات مع مضي الأيام،  الجاسوس الأكثر شهرة، مع أن بقية الجواسيس لم يعدموا كما تشاء الأنشوطات، أقلّه إذا ما اعترفنا بأن الجاسوسية ماتزال تعشش في أفواهنا، أوراقنا، ردهات بيوتنا ومفاصلنا، وربما في أردية مناماتنا.

يومها تقيّأت، ربما لأنها كانت الجثة الأولى التي رأيتها.. أرجوحة محاطة بيافطة من الكلام الذي يشرح قانون الإعدام: الجرم، الدافع، العقوبة.  ومع تلك المفردات، مفردات تبجّل الوطن وأسواره الشاهقة.

 

كل البلاد رقصت لإعدام كوهين، أقول كلها، ربما لأنها لم ترَ طفلاً يتقيأ مثلي، ثم يتكوّم في بكائه المُتكَتم عنه.. كان الإعدام بالنسبة لي، هو الحد الفاصل مابين مجهولين.. مجهول العدالة، ومجهول الأنشوطة، وهانحن اليوم في مجاهيلهما كليهما، بفارق أن الطفل الذي تقيأ، باتت أنشوطاته تمتد على مساحة بلاد كلها أنشوطة.. كلها حبل إعدام، وكلها حبال لاينقطع سبيلها إلى حزّ الرقبة بمن فيها حبل السرّة.. كان الإعدام الأول الذي أشهده.. الإعدام (العادل)، تلك العدالة التي ليس بوسعي سوى أن أسميها: القتل، وهو مالم أكن لأجرؤ على قوله لو بقيت الجاسوسية فعلاً  منافياً للحشمة، بتنا جواسيس، (مرة لمن نعرف)، وثانية (لمن لا نعرف)، ومع كل جولة من جاسوسيتنا نقتل آخر ليس بالأنشوطات، بل برقصات السكاكين، وألعاب اللغة، وخيالات سفّاحين ينكبّون مرة على الكتب المقدّسة، وثانية على التراب المقدّس، وثالثة على القتل المقدّس لمجرد أنه وسيلة من اللعب المقدّس الذي يجعل القتل واحداً من آباء التاريخ، فقبل القتل، لم يكن ثمة تاريخ، أو لنقل كان تاريخاً يتيماً بلا آباء، والدليل على ذلك أن أول نص محفوظ من كتب التاريخ، كان مقتل قابيل وقد أخذت الأنشوطة شكل الحجر المدبّب في قبضة أخيه، ومن يومها بات القتل الحلال، يساوي الذبح الحلال، بل ربما بات الحلال وحده هو :

 

 -القتل، و: وبقدسية النص.. وآياته البيّنات.

 

آياته البيّنات؟ لم لا؟ وما المانع من استبدالها بـ : آبائه البيّنون.. و:

 

 -دون طفل يتقيأ، أقله ما بعد روايات أطفال يلعبون بالسواطير مستبدلين زرع الغراس بقطف الأعناق.

 

ذلك هو السبب الذي يدفعني اليوم لأحكي بهذه اللغة المجازِفة .. لغة ترفض تلك الأنشوطة وتتقيأها ثانية، خصوصاً وأنني أقرأ اليوم ألبير كامو، وهو تراث تركه لنا  الراحل "جورج طرابيشي"، يوم ترجم كتاب  كامو :"المقصلة"، ومعه سرديات لابد من استدارة الأعناق إليها، وهي سرديات حكت بالكثير عن شهوة القتل.. عن الموت:" فاتح الشهية".. عن تسديد ديون الحياة للموت، وعن تلك الحيرة مابين رصيفي العدالة/ الثأر.

 

مع "المقصلة" أتذكر لويس السادس عشر، وكان مبتكرها، وكان خصصها للثورة الفرنسية، وكانت النتيجة أن أعدم صانع المقصلة بالمقصلة نفسها.. أعدم لويس السادس عشر بالمقصلة التي ابتكرها.. وأعدمت معه تلك الأسطورة الماجنة ماري انطونيت صاحبة استبدال الخبز بالسكويت..  أعدم  الملك بتاجه وصولجانه وسط أجساد تتراقص وأفواه تصرخ، وقبضات كما الزوبعة ترتفع وتهبط:

 

-أقتلوه.. إنها العدالة.. أقتلوها، إنها العاهرة.

 

كان صانع المقصلة قد حكى عنها بتعبيرات بالغة الشاعرية.. (شفرتها حادة تمنح إحساساً عميقاً بالرطوبة).. قالها لويس السادس عشر.

 

هكذا كان قد وصفها، فالعدالة تستلزم الجلاّد.. تستلزم رطوبة المقصلة.

 

يالهذا العالم الرطب  بعدالته.

 

في هذه اللحظة أعود ذلك الطفل الذي يتقيأ.. مازلت أرى الأنشوطة تتأرجح في سماء ساحة المرجة.. في ذات المكان الذي شنق فيه العثمانيون طلائع الثورة العربية الكبرى، وكان يوم 6 أيّار من القرن الفائت الذي أفضّل تجاهل عام حدوثه.

 

صحيح أن عيون الموتى لا تتحرك.. وشفاههم لا تحكي، غير أن الصحيح كذلك أن تلك العدالة عمياء.. عمياء بشفاه لاتتوقف عن الخطابة والكلام.. لا تتوقف عن بصاق الفضيلة في وجوهنا، لنصرخ:

 

 -أقتل أكثر.

 

لا تقتل قاتلك، لم يقلها المسيح.

 

أنا أقولها، ذلك أن حمض التقيؤ مازال يحزّ فمي.. مازال يلوكني، ومازال الغثيان يصرخ بي وأنا الطفل الذي ولد قبل ولادته.

 

 *-لحسن الحظ، أن المعدومين بالأنشوطة أو المقصلة لا ينظرون إلى عيوننا.

 

 *-كل مافي الأمر أنهم ينتظرون دفناً بغير اوانه.. أشك أننا في عالم يمتقع لونه إذا ما أمضى وقته وكل وقته في القتل.

 

*غير ذلك، سنتسلل إلى موتنا دون إحداث جلبة تذكر، بتهذيب وخفة بالغين.. كل مافي الأمر أن موتنا يستغرق دقائق.. دقائق فحسب، والخوف كل الخوف" أن يبقى الجسد حيّاً بعد قطع الرأس"، اذا ما حدث ذلك لن تكون العقوبة رادعة.

 

 

*-أيتها (العدالة).. أنا لا أنتمي إليك.. لاتدعي جسدي حيّاَ إذا ما تاه رأسي.

 

.

.

اقرأ المزيد للكاتب ..

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard