info@suwar-magazine.org

من بيان الثورة إلى ثورة البيانات وسحر الكلام

من بيان الثورة إلى ثورة البيانات وسحر الكلام
Whatsapp
Facebook Share

لمناسبة "بيان التأكيد على ثوابت الثورة السورية"

للبيانات قيمة معنويّة وتاريخية وآثار لا تخفى، في الوعي والسلوك، كما أشار الصديق الدكتور أحمد برقاوي، في دفاعه عن البيانات، وهذا حقّ، إذا توافرت للبيانات شروط "البيان" أو الإيضاح والإظهار واستكشاف ما يخفى من الظواهر أو يتخفّى في ثناياها، واكتناه ما يكمن خلف الوقائع والأحداث. نقصد ببيان الثورة ظهورها ووضوح أهدافها وفصاحتها الذاتية وما كشفته من عيوب ومثالب واختلالات، في الاجتماع والاقتصاد والثقافة والسياسة والأخلاق، وما تنطوي عليه من ممكنات.

البيان في العربية من الجذر (ب ي ن). جاء في القاموس: .. والبَيانُ: الفصاحةُ واللَّسَنُ، وكلامٌ بيِّن فَصيح. والبَيان: الإفصاح مع ذكاء. والبَيِّن من الرجال: الفصيح. ابن شميل: البَيِّن من الرجال السَّمْح اللسان، الفصيح، الظريف لعالي الكلام، القليل الرتَج. وفلانٌ أَبْيَن من فلان أَي أَفصح منه وأَوضح كلاماً. ورجل بَيِّنٌ: فصيح، والجمع أَبْيِناء. روى ابنُ عباس عن النبي أَنه قال: إنّ من البيان لسِحْراً وإنّ من الشِّعر لحِكَماً؛ قال: البَيان إظهار المقصود بأَبلغ لفظٍ، وهو من الفَهْم وذكاءِ القلْب مع اللَّسَن، وأَصلُه الكَشْفُ والظهورُ. وقيل: معناه إن الرجُلَ يكونُ عليه الحقُّ، وهو أَقْوَمُ بحُجَّتِه من خَصْمِه، فيَقْلِبُ الحقَّ بِبَيانِه إلى نَفْسِه، لأَن معنى السِّحْر قَلْبُ الشيءِ في عَيْنِ الإنسانِ وليس بِقَلْبِ الأَعيانِ، وقيل: معناه إنه يَبْلُغ من بَيانِ ذي الفصاحة أَنه يَمْدَح الإنسانَ فيُصدَّق فيه حتى يَصْرِفَ القلوبَ إلى قولِه وحُبِّه، ثم يذُمّه فيُصدّق فيه حتى يَصْرِفَ القلوبَ إلى قوله وبُغْضِهِ، فكأَنه سَحَرَ السامعين بذلك، وهو وَجْهُ قوله: إن من البيانِ لسِحْراً. (وهذه كانت حال السفسطائيين أو "المحامين").

وفي الحديث عن أَبي أُمامة: أَن النبي قال: الحياءُ والعِيُّ شُعْبتان من الإيمانِ، والبَذاءُ والبيانُ شُعْبتانِ من النِّفاق؛ أَراد أَنهما خَصْلتان مَنْشَؤهما النِّفاق، أَما البَذاءُ وهو الفُحْشُ فظاهر، وأَما البيانُ فإنما أَراد منه، بالذّم، التعمُّق في النُّطْق والتفاصُحَ وإظهارَ التقدُّم فيه على الناس وكأَنه نوعٌ من العُجْب والكِبْرِ، ولذلك قال في رواية أُخْرى: البَذاءُ وبعضُ البيان، لأَنه ليس كلُّ البيانِ مذموماً. ويقال: بَيْنَ الرجُلَين بَيْنٌ بَعيدٌ وبون بعيد. ومن الجذر نفسه البعد والانقطاع، ومنه الإبانة والتبيين والتبيُّن، أي الكشف والإظهار والاستكشاف والاستجلاء .. إلخ.

استنجدنا بالقاموس لنشير إلى "سحر البيان" وسحر الكلام، وإلى أن كثيراً من البيانات هي من قبيل السحر، فالثورة السورية بيِّنة بذاتها ولذاتها، واضحة، ظاهرة وفصيحة، سوى للمكابرين، أو لمن في عيونهم قذى، وفي آذانهم وقر (صمم)، وفي قلوبهم مرض، والثورة المضادة كذلك. بعضنا رأوا الثورة على نظام التسلّط والاستبداد والقمع والفساد، ولكنهم لم يروا الثورة المضادة، فخلطوا هذه بتلك، سوى من كانوا يريدون الثورة ثورة إسلامية، أو ثورة مسلمين سنّة على العلويين و"تحالف الأقليات"، فلا يزال هؤلاء يطلقون صفة الثورة على حرب تخوضها جماعات إسلامية مسلّحة لا تتبنّى أهداف الثورة و"ثوابتها" ويطلقون صفة الثوار على إسلاميين معتدلين إلى هذا الحد أو ذاك ومتطرفين إلى هذا الحد أو ذاك، ويستثنون بالطبع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام وجبهة النصرة وأخواتها، إلى هذا الحد أو ذاك أيضاً، والاستثناء لا يؤكد القاعدة، بل ينقضها كلياً أو جزئياً، هذا في العلم، لا في الأيديولوجيا.

لقد افترضنا باكراً أن الثورة السورية غير الحرب الدائرة، منذ سنوات، والتي ليست سوى شرّ مطلق، مهما قيل في تبريرها. وافترضنا، من ثم، أن الثورة لم تتحوَّل إلى حرب، ولم نجادل في الصفات التي أطلقت على الحرب، لأن في كل منها شيئاً من الحقيقة الواقعية. الثورة فعل تاريخي تفسده الحرب، وتعطِّله، وتلغِّمه، وتحرفه عن مساره، ولو إلى حين، هكذا جميع الثورات، التي تستحق اسمها. ولعلنا نرى الثورةَ، اليوم، في مكان آخر غير المكان الذي يراه كثيرون، أي في غير ميادين القتال. فثمة عمليتان تجريان معاً على الأرض: عملية إنتاج المجتمع السوري والدولة السورية أو نسجهما، وإن بكثير من البطء والتعثّر، وعملية تدمير وتفكيك لا تزال تتمادى، فتطغى على الأولى وتعوِّقها، إن لم تعطّلها. ولذلك نفرّق بين بيان الثورة، بالمعنى القاموسي المشار إليه، وبين ثورة البيانات وسحر البيانات، بالمعنى القاموسي أيضاً، لاعتقادنا أن بعض البيانات تنطلق من زاوية نظر أخرى، ليست الزاوية التي ننظر منها، ومن موقع آخر ليس الموقع الذي نحن فيه.

لنقرأ البيان الموسوم بأنه "بيان تأكيد على ثوابت الثورة السورية في الذكرى السادسة"، والذي لا يؤكد شيئاً سوى المؤكَّد، ولا يبيّن شيئاً سوى البيِّن، ولا يوضح سوى الواضح، علاوة على صياغته الهشة بدءاً من "تأكيد على" التي تجافي الفصاحة والبيان. يقول البيان: "نحن الموقّعين من مختلف فئات الشعب السوري .. نعلن .. ونطالب"، أي إنه يَفترض، من لحظة كتابته، أن أشخاصاً (ذكوراً بالتحديد) من مختلف فئات الشعب السوري سيوافقون على مضمونه ويوقعون عليه، ما يوحي بأنَّ لمن كتبوه أو كتبه ولمن سيوقعون عليه (من جماعتهم) صفة تمثيلية معترفاً بها من مختلف فئات الشعب السوري (النساء خارج هذه الفئات). وربما تكون الصفةُ التمثيليةُ لمن خطرت له أو لهم فكرة البيان افتراضاً قبْلياً (ترانسندنتالياً)، ليس ناتجاً من تجربة وليس قابلاً للتجريب، حسب تعريف كنت للمعرفة القبْلية (مع الاعتذار من كنت). هؤلاء يعتبرون أنفسهم سدنة الثورة وحكماءها والقيمين عليها، دون غيرهم من "فئات الشعب السوري"، وما أكثرهم من أفراد وجماعات وأحزاب ومنظمات.

صرنا نعرف جيداً أن من يكتبون البيانات ويصدرونها يعتبرون أنفسهم مرجعية معترفاً بها، بل تعتبر كل "جماعة" منهم نفسها المرجعية الوحيدة، و"الممثل الشرعي الوحيد للشعب السوري"، إن لم يكن كل "ثوري" يعتبر نفسه كذلك، وأن من يوقعون عليها هم جماعتهم وأتباعهم أو جماعته وأتباعه، وأن المجتمع والشعب طوع بنانهم أو بنانه، فلعلّ التمزق والتنثّر، اللذين عانت منهما الثورة وأهلها، ناشئان من تكثُّر المرجعيات وتخالفها، وتدافع القيمين عليها وعلى الشعب، لا من تعددها واختلافها، حتى غدت محصّلات القوة صفرية أو تكاد.

ولكن ما فئات الشعب السوري، التي ينتمي إليها الموقعون المُفتَرضون لحظة كتابة البيان، وقبل أن يوقع عليه أحد؟ هل هي طبقات اجتماعية، أو اتجاهات فكرية وأيديولوجية وسياسية مثلاً؟ لعلّ نصّ البيان يحمل الإجابة في إرادة "الحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة للأفراد والجماعات كافة، دون تمييز أو استثناء". هنا، في عدم استثناء أي فرد وأي جماعة وعدم التمييز بين الأفراد كافة والجماعات كافة، يبدو البيان كأنه "تعمُّق في النُّطْق وتفاصُحَ وإظهار التقدُّم على الناس، وكأَنه نوعٌ من العُجْب والكِبْر، حسب المعنى المذموم في القاموس، أو أنه نوع من السحر، كما ورد فوق. فلا نعتقد أن البيان صادر عن روح مسيحية مثالية، تضع المحبة فوق العدالة، بما في ذلك محبة الأعداء. وهذا بالضبط ما يحتاج إلى بيان، يبيِّن حقيقة المرسِلين والمرسَل إليهم.

يطالب البيان بأن تكون للبنود "التالية" الأولوية في أية عملية تفاوض تشرف عليها الأمم المتحدة كي تتّسم بالأخلاقية والشرعية:

أولاً - البدء بعملية الانتقال السياسي الذي يتضمن استبعاد بشار الأسد وسلطته، لأن الرهان على استمرار هذه السلطة، بعد كل ما ارتكبته من جرائم من خلال فرض أمر واقع بالقوة يعني الإصرار على إبقاء سورية في نفق مظلم، ويعني تغذية التطرف والطائفية، والابتعاد عن العقلانية في المجتمع السوري.

ثانياً - الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين لدى النظام دون شروط، وفتح المعتقلات العلنية والسرية أمام المنظمات الحقوقية الدولية. الأمرنفسه ينطبق على المعتقلين لدى أي تنظيم آخر متّهم بعمليات اعتقال أو اختطاف.

ثالثاً - إحالة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها النظام خلال السنوات الستّ الماضية، "إلى" محاكمات دولية وكفالة حقّ "الادّعاء" للسوريين الأفراد المتضرّرين. والأمر نفسه ينطبق على أي قوة مسلحة متّهمة بمثل هذه الجرائم وموجودة على الأرض السورية.

رابعاً - كفالة حق المهجّرين السوريين في العودة الطوعية الآمنة إلى بلدهم، واعتبار كل اتفاقيات التهجير القسري باطلة وبلا أثر قانوني.

خامساً - خروج كافة المليشيات المسلّحة والقطع العسكرية التابعة لأي دولة من الأراضي السورية.

ويختم بالقول: إن الانتقال السياسي وتحرير المعتقلين كافة ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم وعودة المهجرين وخروج كل المقاتلين الغرباء من بلدنا هي حقوق جميع المتضرّرين من الشعب السوري، غير قابلة للتصرف بها أو التنازل عنها من قبل أية جهة محلية أو دولية، وندعو كافة القوى السورية والإقليمية والدولية إلى تحمّل مسؤولياتها إزاءها.

يعرف جميع المهتمين والمتابعين أن هذه المطالب ليست جديدة، لكي يبيِّنها بيان، وليست خافية ليظهرها، لكن الملاحظ أن البيان يطالب بانتقال سياسي يستبعد بشار الأسد وسلطته، لا بتغيير النظام، كالبيانات السابقة، وهذا مما يطرح السؤال عن الحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة للأفراد والجماعات كافة، دون تمييز أو استثناء"، في وقت تلوح في أفقه تسوية ما، لا تبشّر بالحرية والديمقراطية والعدالة. فالبيان يشير إلى "جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها النظام خلال السنوات الست الماضية"، بصيغة التقرير والإثبات القطعي، في حين يضع الجرائم المشابهة التي ارتكبتها "أي قوة مسلحة .. وموجودة على الأرض السورية" في باب الظن والاتّهام القابلين للنقض، وكذلك الاعتقال والخطف والتهجير القسري، ما يشي بتعاطف ما مع القوى المسلحة والموجودة على الأرض السورية، (قادة بعضها هم الذين يفاوضون وبأيديهم ونظرائهم الحل والعقد)، وهذا ممّا يتناقض مع إرادة العدالة "للأفراد والجماعات كافة دون تمييز أو استثناء". يبدو أن هذه القوى المسلحة غير "الميليشيات والقطع العسكرية التابعة لأي دولة، والتي يطالب البيان بخروجها من الأراضي السورية"، كما يشي منطوق البيان.

بقي أن نتساءل عن الجهة / الجهات، التي يخاطبها البيان، مؤكداً على "ثوابت الثورة" تأكيداً يشي بالشك والريبة بهذه الجهة أو الجهات. لعل مفاوضات أستانا في الخلفية.

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard