info@suwar-magazine.org

لوتريامون .. سليل متأخّر للرومانسيّة الجنونيّة

لوتريامون .. سليل متأخّر للرومانسيّة الجنونيّة
Whatsapp
Facebook Share

 

نادرون هم الذين قرؤوا لوتريامون، وعديدون هم الذين يعلنون أن كتاباته انبثقت من عقل مختلّ. هذه الأسطورة تظهر للمرة الأولى في 1890 حيث يقول الكاتب ليون بلوا في مقالة له "إن الذي يتكلّم هو مجنون، أكثر المجانين إيلاماً". إنه يشعر بالشفقة وبالإعجاب في الوقت ذاته إزاء " شاعر مأساوي"، وبالافتتان بمؤلّف "غير طبيعي". وفي العام ذاته ، يعلن ريمي دو غورمون: " كان لوتريامون شاباً ذا أصالة ثائرة وغير متوقّعة، عبقرية مريضة وحتى بصراحة مجنون " ترك لوتريامون وراءه مؤلَّفاً يتيماً:  "أغاني مالدورور"  وديوان شعري "مقدّمة كتاب مستقبليّ".‏

إن مالدورور هو نوع من مصّاص الدماء، يغلفه دثار أسود بقبّعة كبيرة، يرافقه مؤلّف رمزيّ عن الحيوانات وعاداتها ورسومها. مقرف، مقزّز " قمل، حمار قبّان، وثعابين" هذا الملاك الساقط الذي يتحوّل بالتناوب إلى عقاب، وأخطبوط ورتيلاء وقرش تكفي لتظهر قدرة خيال كاتب لا يتردّد بتغذية استيهاماته من كل ذكرياته وقراءاته: بودلير، هوميروس، دانتي، بيرون، هوغو. ولكنّ الأكثر أيضاً هو هذا الإلهام الباروكي الخصب، وما يذهل خصوصاً في نصّ لتريامون هو قدرة اللغة على التحوّل إلى العديد من الصور، والتشبيهات أو التحوّلات غير المتوقّعة، كما لو أنها لم تكن تتوقّف عن أن تبتكر نفسها، وتعيد خلق نفسها بذاتها وذلك بطاقة لا تنضب.. إن القصائد النثرية عند لوتريامون تقدّم نفسها كملحمة مقسّمة إلى أناشيد على شكل الإلياذة أو الأوديسة. إنها سلسلة من القصص والرؤى السماوية أو الخارقة للواقع التي تبعث الحياة في آلهة ووحوش بشعة أو أغراض تجتمع حول شخصية مالدورور الذي يعبر ليلاً الشوارع والشواطئ الفارغة باحثاً عن مراهقين بريئين يشرب دمهم، وفي الحال يتقمّص حيوانات شرسة ومتوحّشة كالنمر والعقاب وسمك القرش ويتماهى معها، ....إلخ.‏

 يجسّد البطل مالدورور في الأناشيد الثورة من خلال رفض المؤسّسات "العائلة والكنيسة"  تجاوز وخرق المحرّمات والممنوعات "وخصوصاً الجنسية" ما يؤدّي إلى تقييده في سجلّ سلالة الشعراء الملعونين، الذين نذروا أنفسهم للشرّ بمحض اختيارهم الإراديّ الواعي.. في الواقع، تشكّل القسوة والعنف وتدنيس القدسيّات، من وجهة نظر فلسفية، جواباً على نقص وعجز الإنسانية. على غرار بودلير في " أزاهير الشرّ" يرى لوتريامون في الشرّ أصل الحياة ..  ولكن يجب أن نرجع إلى الماركيز دوساد للعثور على مثل هذه الحرية في ممارسة العنف، ومثل هذا الاستسلام لهذيانات الخيال. يمكننا إذاً ألّا نرى في هذه الاستيهامات الساديّة سوى سليل متأخّر للرومانسية الجنونيّة، بيد أن لوتريامون أعطاها بصراحة أهمّية كبيرة ومغزى آخر: تحدّي القدر..

في الحقيقة، تستعيد أناشيد مالدورور الموضوع الرومانسي القديم للثورة اللوسيفيرية، ولكن بإعطائها من خلال غرابة الأسلوب طابعاً جديداً بشكل جذريّ. ثار لوتريامون ضدّ المدرسة الداخلية "التي فُرضت عليه في سنّ الرابعة عشرة"، وضدّ الأمجاد الأدبية، والإنسانية، والعقل، والذوق السليم والمشاعر الطيّبة، وتبجيل الكتابة والأجناس حيث تحلّ اللعنة محلّ الشكوى والنواح، والخيال المجنّح محلّ المنطق، والوضوح محلّ الوهم، والسخرية مكان التباهي الأدبي..‏    

 لا يغنّي لوتريامون للشيطان على غرار الرومانسيين الذين تشرَّب بهم، ولكنه أصبح الشيطان ذاته وتماهى معه من خلال شخصيّة مالدورور الذي يجسّد روح الثورة في تقليد "الروايات السوداء" أو الروايات القوطية منذ نهاية القرن الثامن عشر، والأكثر شهرة منها هي «قصر أوترانت لهوراس والبول "1764"، وأسرار أودولف "1794"، وفيما بعد ميلموث لماتوران "1820".‏. إن توضيح لوتريامون يستند على استعمال مزدوج للعنف: عنف تجاه الناس والقدر من جهة، وعنف تجاه قوانين الطبيعة من جانب آخر. يعرف مالدورور تمام المعرفة أن لا شيء يمكنه أن يبرّئ جرائمه، فهو يرتكبها بوعي واضح لذنوبه وبإرادة واعية للوصول إلى الشرّ المطلق. في قلب هذا المؤلّف نقرأ مأساة أخلاقية وميتافيزيقية: الشرّ والعبث يوجدان في قلب الإبداع.

تمزج أناشيد مالدورور في هذيان لفظيّ فوضى من الصور الهلوسية بدعابة مستمرّة. هذه الأغاني تكتسب طابعاً ملحميّاً في شكلها، ومن خلال تقطيعها إلى ستّة أناشيد، وفي روحها من خلال تعظيم وتمجيد العدوان.. يرى الناقد روجيه كايوا المتأثّر بالغريب وبالهامشيّ، أن لوتريامون هو بطل القسوة؛ إن بطله مالدورور يبدو عديم الشفقة يحقد ويقرف من أنداده. إن "لوتريامون وضع في خدمة قارئه، الذي هو شريكه، كل الجهاز المعقّد الرومانسيّ من الأشباح ومصّاصي الدماء" شعر لوتريامون هو، في المحصّلة، شعر العدوان؛ العنف يلتقط بالفعل، في الحالة الصرفة بحركة حيث لا تتدخّل أي فكرة. إنه "عضليّ أكثر منه هائج الأحاسيس. فالعضلية هي محور حياته، بل إنها الحركة في قسوتها وعنفها البدائيين".. إنها "اللاوعي المطلق"..

 تتداخل عند لوتريامون اتّجاهات ثلاثة: الرومانسية والرمزية والسوريالية. يدين لوتريامون للرومانسية بعنف الانفعالات وغزارة الصور والميل لليأس وللسخرية والموت. يعطي أسلوب لوتريامون شعوراً بالخَبل من خلال المزيج غير القابل للتصديق للغنائية والمنطق والدعابة. ونجد في الأناشيد أساليب للغنائية الرومانسية الكبيرة، وعلى سبيل المثال الابتهال الشهير La prosopopée للمحيط يقدّم كتتابع إيقاعي طويل من المقاطع من خلال عودة جملة واحدة: "أحييك، أيها المحيط العجوز". الشعر الكوني يمزج صوت الشاعر وصوت العالم. واستعارات واضحة وغير متوقّعة تتابع وتتسلسل وتترابط مع بعضها البعض خالقة نوعاً من الدوار. إننا نجد في مؤلفه "عنف الكلمات والغايات، والغموض المليء بدعابة الغايات القوة الإيروتيكية للثورة المدفوع حتى الذروة، وتهديم منتظم لكل الفكر الفرنسي "المرتدّ" و"الملعوب" والتهديم الذاتي الدعابي عند مالدورور.‏ إن مؤلّف لوتريامون بمجمله هو "ماكينة جهنّمية" لتفجير الفكر تحت ديناميت اللغة.. إن ذروة هذا المؤلّف هي قلب غير منتظر للشرّ إلى الخير بين مؤلّفي الشاعر: إنه هيجان الرومانسي وتجاوزه الديالكتيكي".

كما يدين للرمزية برؤيته الصوفية وميله للتحوّلات، ففي أغاني مالدورور يستعيد المبادئ التي ورثها من كبار الشعراء في القرن التاسع عشر "هوغو وبودلير" ويخلطها ويدفع بها إلى ذروة لم يبلغها أحد من قبل أبداً. هذه المبادئ تؤسّس جمالية لوتريامون وتعطي لشعره طابعاً مألوفاً ومبهماً في الوقت ذاته. في هذه الجمالية تقلب صور المحاكاة الساخرة التقاليد الشعرية؛ الملحمة والشعر الغنائي والرواية الفنتاستيكية تنزع عنها سحريّتها ويُزال عنها الوهم من خلال استعمال مفرط موصوف بالدعابة السوداء "بروتون" إن إبداعية الشاعر يعبّر عنها بتفخيم مفرط، ورفض متعَمّد للمنطق، وعدم ثبات للبنى "وصل فظّ للأسلوبين المباشر وغير المباشر، والإكثار وتبديل موضع الأصوات السردية"، وتصدّع البنية ومخاطبات القارئ. ولكن بشكل خاصّ يعبّر عن الخيال المتحرّر من قيود المنطق واللياقة من خلال سطوع الصُّوَر. يقول رواد طربيه: " فبمقدار ما نتملّى من "أناشيد مالدورور" يعصف بنا الهول، وترتعد الفرائص، ويصبح الجو خانقاً كأنما نحن في حجرة المجانين. نحسّ بأننا فريسة المسخ العملاق، وبأن الكون كابوس رجيم، وبأن عقلنا يتزحزح عن قواعده أمام هذا العالم الذي يُبنى ويُهدم.

   أتراه عالم اللاوعي الذي استنسخه الفوقواقعيّون؟ قال :"لقد تعاقدت مع الدعارة لكي أزرع البلبلة في العائلات. أنا أذكر الليلة التي سبقت هذا العقد الخطر. رأيت قبراً أمامي. سمعت حباحب، كبيراً كأنه بيت، يقول لي: "ها إنني سأنيرك. اقرأ الكتابة. لست أنا مصدر هذا الأمر السلطانيّ". نور رحيب بلون الدم، لدى رؤيته اصطكّت أسناني وتهاوى ذراعاي بدون حراك، شاع في الجو حتى الأفق. استندت إلى سور متداعٍ لأنني كنت على وشك أن أسقط أرضاً، وقرأت: "هنا يرقد فتى مات مصدوراً: تعرفون لماذا؟ لا تصلّوا لأجله".

 هذا الرفض لضبط العقل يجسّد مقدّماً الثورة الجمالية السريالية التي ستحدث فجأة خمسين سنة بعد ظهور أغاني مالدورور". ولكن لا شيء أكثر تنظيماً من هذيان لوتريامون؛ إن الزيادة الملحوظة لأدوات الوصل المنطقي انتهت بإفراطها إلى انطباع بالخَبل. وأخيراً دعابة لاذعة تعبر المؤلّف: لوتريامون يستمرّ بالسخرية ممّا يكتب، أو يعلن ببرود:  "الفيل يستسلم للمداعبة؛ والقمل، لا: لا أنصحكم القيام بمحاولة هذه التجربة المهلكة".‏ وبعد أن استنفد إغراءات الشرّ، فهم لوتريامون أن الاستفزاز الممكن كاد من الآن فصاعداً أن يتغنّى بالخير. وقبل أن يموت في سنّ الرابعة والعشرين، أعلن في أشعاره، مقدّمة لكتاب مستقبليّ، قدوم أدب أخلاقي يحمل أفكاراً سويّة ومتفائلة. وباعتراف لوتريامون بذاته، إن ثورة العنف التي نشهدها في أغاني مالدورور قد تصدر عن مسعى محاججي، كما كتبه في رسالة إلى ناشره في النشيد الثالث/ المقطع الخامس: «لقد غنّيت للشرّ كما فعل ميسكيوفيسكي  Misckiewickiz، وبيرون، وميلتون، وسوتجيه، وألفرد دوموسيه ، وبودلير، إلخ، «وربما كان بإمكان لوتريامون إضافة أسماء فيني "جبل الزيتون"، ونرفال وكذلك هوغو "أسطورة العصور، السلسلة الأولى، 1859" وفلوبير "إغواء القديس أنطوان، 1874"  بشكل طبيعي قد أبالغ قليلاً في معيار النغم لكي أصنع الجديد في اتّجاه هذا الأدب السامي الذي لا يغنّي لليأس إلا لقمع القارئ، ولكي أجعله يشتهي الخير كعلاج".

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard