النّسويّة السوريّة.. مالها وما عليها
كان للثورة السورية الفضل في كسر العديد من القيود الاجتماعية حول النساء، حيث تخلّصنَ في حالات عديدة من عباءة المجتمع الأبوي، وعُدْنَ لينشطْن ويخضْن مضمار المجتمع المدني والسياسي والاقتصادي، وترافق نشاطهنّ مع إعادة إحياء الحركة النّسوية السورية، وقد أثار هذا النشاط مجموعة من أسئلة فيما إذا كانت الحركة النّسوية السورية موجودة وتُعتبر ضرورة مجتمعية اليوم؟ وفي حال كانت تلبّي تطلعات المرأة السورية؟
بعيداً عن المسمّيات والألفاظ التي توسم الحركة النّسوية لدى البعض، وتصف عضواتها والمدافعات عنها بصفات لم ينزل الله بها من سلطان، ما يهمّنا هو تسليط الضوء على النّسوية السورية، وكذلك توضيح الفرق بينها وبين نظرية الجندر، لاسيما أنه كثر في الآونة الأخيرة الخلط بين المصطلحين.
كما كثر النقاش في حال كانت النّسوية حركة فكرية اجتماعية أم سياسية، وهنا لا يمكن للنّسوية إلا أن تنشط في كافة الأصعدة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، لأنها تسعى لتحقيق المساواة بين النساء والرجال في العمل والبيت والأسرة والمجال العام، وتناهض النظم البطريركية([1]) وتدعو لتحقيق الإنصاف العادل للنساء في كافة المجالات.
ويعود تاريخ التحرّك النسائي حسب بعض الكتابات إلى القرن الثالث عشر، حيث بدأت بمحاولات فردية وجماعية، واستمرّت بأشكال متنوّعة ومبعثرة حتى القرن التاسع عشر، وفي الفترة ما بين 1550م -1700 م خاضت العديد من النساء نضالات قوية في المجالين الثقافي والاجتماعي دفاعاً عن حقوقهنّ، وكان التغيّر في المواقف والأفكار التي نتجَ عنها ضرورياً وشكّل الأساس الذي انطلقت منه الحركة النّسوية في القرون اللاحقة ([2]).
ومع التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية في مرحلة ما قبل الثورة الصناعية بقليل ومع ظهور أفكار سياسية جديدة تبنّت قِيَم الديمقراطية والمساواة، ومع التحوّلات التي حدثت في أوضاع النساء أنفسهنّ كانتقالهنّ من العمل المنزلي والزراعي لصالح الأسرة إلى العمل الصناعي المأجور بشروطه القاسية، بدأت بالتبلور تحرّكات اجتماعية نسوية كوّنها أفراد وجماعات تأثرت بأفكار الثورة الفرنسية والاشتراكية والليبرالية والماركسية، لتشكل حركة مطلبية حقوقية، منطلقها الرئيسي المطالبة بالمساواة.
في منتصف القرن التاسع عشر بدأت الحركة النّسوية الفكرية بالتطوّر على أسس فلسفية وعلمية انسجمت مع حركات اجتماعية وسياسية كبرى ظهرت في المرحلة ذاتها، ومنذ ذلك الوقت وهي تعمل على بلورة اتجاهات فكرية، تطوّر بعضها ليصل إلى مستوى المذهب الفلسفي فيما عُرف بالمذهب النسوي، وقد مرّت بثلاثة مراحل أو موجات يطول الحديث عنها في هذه المقالة.([3])
وفي الحالة السورية لو دققنا بتاريخ سوريا لوجدنا أن النساء السوريات لم يكن بمنأى عن الحركة النسوية العالمية، حيث حملت النساء الهموم نفسها للمجتمع السوري وشكّلت الجمعيات واللجان نسائية منها: جمعية "يقظة الفتاة العربية عام1915 " وجمعية "الأمور الخيرية"، كما أُنشئت جمعية العمل عام 1916 هدفها تشغيل المرأة، وقد افتتحت داراً للصناعة ضمت 1800 عاملةً، وفي عام 1918 تأسّست جمعية "نور الفيحاء"، وعندما حاول الفرنسيون اجتياح سورية تشكّلت جمعية النجمة الحمراء النسائية عام 1920، وانتشرت في حينه جمعيات كثيرة لها طابع خيري، وأغنت هذه التجمّعات النسائية وعمّقت التجربة النضالية اللاحقة للمرأة السورية.
وكان من أبرز رائدات الحركة النسائية السورية في هذه المرحلة: أسماء الخوري ونازك العابد وسعاد مردم بك، وسنية الأيوبي، وثريا الحافظ وخيرية ماميش ومسرة داغستاني ومنيرة المحايري ويسر ظبيان وبلقيس كردعلي وزهراء اليوسف، ألفت الأدلبي، ريما كردعلي، جيهان موصلي، ملك دياب، زينب الحكيم وغيرهن كثيرات ([4])
النسوية ضرورة مجتمعيّة
نشرت مبادرة المساحة المشتركة ورقة بحثيّة بعنوان " الأجندة النسوية بين الواقع والمطلوب" وكانت الدراسة عبارة عن مسح لحوالي 50 مستطلعاً "رجال ونساء" من المهتمّين/ات بالشأن النسوي في كافة المناطق السورية بهدف أخذ آرائهم/نّ حول الأجندة النسوية، وعلى الرغم من ضآلة العيّنة المستهدفة، ولكننا ممكن اعتبار ما خلصت له الورقة على أنه مجرّد البداية والأساس الذي قد يُبنى عليه لاحقاً من قبل الدارسين والدارسات للتعمّق أكثر حول التحدّيات التي تواجهها الحركات النّسوية السورية وأجنداتها، ونتّفق مع بعض النتائج التي خلصت لها الورقة إلى أن الأجندة النّسوية السورية غير واضحة المعالم، وتعاني من غياب إستراتيجية واضحة ومشجّعة للمدافعين/ات عن أجندة نسوية ([5]).
وعلى الرغم من اتّفاق مؤسّسات المجتمع المدني ومنظماته وحركاته العاملة بالشأن النّسوي وكذلك النّسويات على أهمّية تمكين النساء وتأهيلهنّ وتعزيز مشاركتهنّ، غير أن التنسيق بين هذه المنظمات والأجسام مازال ضعيفاً، والأهمّ من ذلك مازال العمل على تمكين النساء بمنأى عن المجتمع ككل، ما يؤدّي إلى رفض المجتمع أحياناً للأفكار التوعوية التي تطرحها، بالإضافة إلى غياب أفق واضح المعالم لتعزيز مشاركة المرأة، تحديداً على الصعيد السياسي، وهنا لابد من السؤال عن شكل المشاركة السياسية التي نسعى لها نحن النساء وماهيّتها؟ أيضاً ربما علينا التفكير بأهمّية خلق وعي سياسي عام لدى الرجال والنساء من أجل تعزيز مشاركتنا، مع الأخذ بعين الاعتبار أننا لا نريد فقط أن نزيّن المحافل السياسية أو العامة، بدعوى إشراكنا كنساء في العلن، ويتمّ كتم أصواتنا في السرّ، كما أنه من الأهمّية أن يترافق الإشراك الكمّي للنساء مثلما يدعو له نظام الكوتا، مع التأهيل الكيفي، ما يدفعنا للعمل على تثقيف أنفسنا، وامتلاك أدوات المشاركة الفعلية، ومحاربة النمطية التي باتت حتمية وتشكّل قناعات لدى الرجال والنساء من أن السيطرة الذكورية أمرأً طبيعياً، وهذا ما يؤكّده الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي "بيار بورديو"، في هذا المجال: "أن هذه السيطرة مغروسة في اللاوعي الجمعي عند البشر وأنها تحوّلت إلى عنصر غير مرئيّ وغير محسوس في العلاقات ما بين الرجال والنساء. وينبغي بالتالي إخراج هذا اللاوعي، وتحويله الى وعي يعيد كتابة التاريخ" ([6]).
على سبيل المثال لا يمكن إخفاء حقيقة أن التوسعة التي تمّت بالائتلاف لم تكن نتيجة الإيمان بأهمّية إشراك النساء، بل جاء نتيجة لما يتوافق مع أهواء الإرادة السياسية الخارجية والتبعية السياسية الدولية، كذلك لم تكن الحكومة المؤقّتة بأفضل حال، فعندما أرادت كسر الصورة النمطية للمرأة خلقت صورة نمطية أخرى من خلال تخصيص مقاعد غير سيادية لها، أمّا الدورة الحالية للحكومة المؤقتة فلا يوجد أي مكان للمرأة سوى ضمن أروقة لجنة المرأة والأسرة، التي مازالت قيد التأسيس، وبالطبع فإن هذه الهرمية تمتدّ لتصيب أيضا المجالس المحلية، فعندما أراد القائمون على المجالس المحلية إشراك النساء، استحدثوا لها مكاتب خاصة بها، وكأـن المرأة لا تصلح لأن تتولّى مكاتب المالية والتخطيط والخدمات أو غير ذلك من مراكز صنع القرار ضمن المجالس.
التقاطعيّة في النّسويّة
عند التدقيق في عمل النسويات والتحدّيات التي تواجهها، فإنه من الأهمّية الأخذ بعين الاعتبار مصطلح "التقاطع أو التقاطعيّة" الذي يعني أنه لكل واحدة منا ملامح خاصة بها تحدّد هويّتها وتختلف عن الأخريات، فنحن النساء لسْنا متشابهات ولا نتعرّض جميعنا لنفس المظالم والممارسات التمييزية، فعلى سبيل المثال خير من يوصل صوت المعتقلات هنّ من تعرّضنَ للاعتقال، حيث يقع التمييز عليهنّ كونهنّ نساء وكونهنّ معتقلات، وكذلك خير من يوصل صوت اللاجئات هنّ اللاجئات أنفسهنّ اللواتي يعانينَ من الظلم والتهجير الواقع عليهنّ كنساء وأيضا كلاجئات.
شرحت "أوتم بارني" معنى "التقاطع" في مقالة نشرت بتاريخ 7/7/2017 وترجمها مساواة مركز دراسات المرأة للغة العربية وكتبت أوتم حول "التقاطع": ([7])
"على النسويات أن يفهمنَ جيداً بأن لكل إنسانة تقاطعاتها الخاصة بها، ولهذا لا يمكنكِ أن تتكلّمي باسم كل امرأة! النساء من العرق الأبيض لا يفهمنَ اللامساواة التي يواجهْنَها نساء الأقلّيات الأخرى، ومعظم نساء الطبقة الميسورة لا يفهمنَ ما يعنيه الفقر".
ما أشارت إليه أوتم ربما يتجسّد في موقف بعض النّسويات السوريات المتصدّرات للمشهد، حيث لا يستطعنَ أن يعبّرنَ عن كافة النساء السوريات وهمومهنّ، بل ربّما يترتّب عليهنّ العمل لإشراك مختلف النساء من كافة أطياف المجتمع في المحافل والاجتماعات والمؤتمرات، لكي يتحدّثنَ عن هموهنّ بأنفسهنّ، وإفساح المجال لهنّ لكي يسلّطنَ الضوء على تجربتهنّ وعلى لسانهنّ. ومن هنا فإن هموم النساء ليست واحدة، وتعدّد الخبرات النسائية يسهم في إثراء الحركة النسوية.
الفرق بين النّسويّة والجندر
كثيراً ما يتمّ الخلط بين النّسوية ونظرية الجندر، وإن كان الجندر أحد الأطر النظرية التي تستند عليها النّسوية.
من أجل ذلك دعونا نتوقف قليلاً عند هذه النقطة، وهو التمييز بين الجندر والنّسوية، أمّا بالنسبة للجندر فقد اجتهد المفكرون والمفكرات على مدى سنوات لوضع تعريف محدّد لنظرية الجندر، وتُعرّف نظرية الجندر على أنها عملية دراسة العلاقات المتداخلة بين الرجل والمرأة في المجتمع، وتحدّد هذه العلاقات وتحكمها عوامل مختلفة اقتصادية، اجتماعية، ثقافية، سياسية وبيئية عن طريق تأثيرها على قيمة العمل في الأدوار الإنجابية والإنتاجية التي يقوم بها الرجل والمرأة معاً([8]).
وتُعتبر آن آوكلي (1972. (Ann Oakelyأول من استخدم مفهوم الجندر، وقد حاولت التمييز بينه وبين مفهوم الجنس، وبناءً عليه عرّفت آن آوكلي الجنس Sex على أنه الخصائص الفيزيولوجية والبيولوجية التي تميّز الذكور عن الإناث، بينما عرّفت الجندرGender على أنه عبارة عن الذكورة والأنوثة "المبنيّين اجتماعياً والمشكّلين ثقافياً واجتماعياً" حيث يتمّ اكتساب هذه المفاهيم من خلال عملية التنشئة الاجتماعية، التي يتعلّم الإنسان من خلالها كيف يصبح ذكراً أو أنثى في مجتمع معيّن، وفي وقت معيّن، فالجندر هو عبارة عن خصائص اجتماعية وليس نتاجاً مباشراً مرتبطاً بالنوع البيولوجي([9]). ونتيجة للتربية والتنشئة الاجتماعية والعادات والتقاليد يفرض المجتمع على كلا الجنسين ممارسة السلوكيّات التي تتّسق مع أدوراهم/ن الاجتماعية كتحريم البكاء على الرجال؛ لأنه فعل خاص بالنساء، بينما يحرّم على النساء العمل في بعض المجالات لأنها خاصة للرجل أو ربّما حكراً عليهم.
أما بالنسبة للفرق بين الجندر والنّسوية، سأورد ما توصّلت له "ماغي هوم" بدراسة عنوانها " الجنس في قاموس النظرية النّسوية" وتوصّلت إلى أن دراسات الجندر اهتمّت بعلاقات القوى بين الجنسين ومظاهرها وانعكاساتها عليهما انطلاقاً من مفاهيم الأنوثة والذكورة معاً، في حين انطلقت النّسوية من قناعتها بوجود خلل في ميزان القوى بينهما، فركّزت على أوضاع النساء في تلك المنظومة التي تفتقد إلى العدالة، كما سعت النسويات إلى كشف أوجه هذا الخلل، ونقد وتحليل مظاهره، والدعوة إلى المقاومة والتغيير في سبيل تحقيق العدالة بين الجنسين في الحقوق والواجبات )[10](.
في النهاية وبعد كل ما تقدّم، تواجه الحركة النّسوية السورية تحدّيات عديدة لوجودها كحركة لها جذور تاريخية ومتأثّرة بالحركات العالمية، حيث مازالت تحتاج إلى العديد من التنظيم والتكتل والضغط للقضايا المختلفة للمرأة السورية، كما أنها تحتاج لوجود خريطة واضحة تحدّد طريق النّسوية، وتستقطب كلا الجنسين، في كافة المجالات.
([1]) يعود مصطلح بطريركي (Patriarchat, Patriarchy) في أصوله إلى اللغة اليونانية ويعني "حكم الأب" أي هيمنته على العائلة والتسلّط عليها بحيث يكون القرار بيد الذكر «البطريرك» فقط باعتباره ربّ البيت. ويعبّر النظام الأبوي-البطريركي عن بنية اجتماعية وسيكولوجية متميّزة ومتجذّرة في الذاكرة الجمعية تطبع العائلة والقبيلة والسلطة والمجتمع في العالم العربي، وتكون علاقة هرمية تراتبية تقوم على التسلّط والخضوع اللاعقلاني التي تتعارض مع قِيم الحداثة والمجتمع المدني واحترام حقوق الإنسان
http://aljadeedmagazine.com/?id=1503
([2]) سهير سلطي التل، تاريخ الحركة النسائية الأردنية منذ عام 1944 وحتى عام 2008، اللجنة الوطنية الأردنية لشؤون المرأة، لايوجد تاريخ نشر، ص16
([3]) سهبر سلطي التل، مرجع سابق، ص16
([4]) لمحات من تاريخ الحركة النسائية السورية قبل الاستقلال وبعده، مجلة النور، العدد 796، 20/12/2017، تاريخ زيارة الموقع: 25/12/2017
([5]) فرح حويجة، الأجندة النسوية بين الواقع والمطلوب، مبادرة المساحة المشتركة، 20/12/2017.
([6]) ناديا عيساوي، التيارات الرئيسية في الحركة النسوية، موقع زياد ماجد، 9/3/2009، تاريخ زيارة الموقع 14/1/2018
https://ziadmajed.blogspot.com.tr/2009/03/blog-post.html
([7]) أوتم بارني، النسوية أعظم ممّا تَرَون، ترجمة فريق مساواة، 7/7/2017، تاريخ زيارة الموقع: 25/12/2017
http://musawasyr.org/?p=17263
([8]) أميمة بكر، شيرين شكري، المرأة والجندر، إلغاء التميّز الثقافي والاجتماعي بين الجنسين، دار الفكر، دمشق، ط1، 2002، ص14
([9]) عصمت محمد حوسو، الجندر الأبعاد الاجتماعية والثقافية، دار شروق، عمان، 2008.، ص 8
([10]) Maggie Humm, Gender in the Dictionary of Feminist Theory, Ohio State University, Press, 1990, p.74