في الإصلاح الإسلاميّ: كلام عامّ في الأزمة والمخرج
في أجواء حرب الخليج الثانية 1990-1991، وفي برنامج حواري على إحدى المحطات التلفزيونية الفرنسية، يسأل مقدّم البرنامج برنار بيغو ضيفه: "لديك ثلاثون ثانية كي تقول للفرنسيين: هل القرآن آلة حرب ضدهم، نعم أم لا؟".
يورِد الصحافي الفرنسي آلان غريش هذه الواقعة في كتابه "الإسلام والجمهورية والعالم"، ويعلّق عليها بالقول: "يحتاج القارئ إلى أكثر من ثلاثين ثانية. إذ أن الدراية عملٌ شاق".
يحمل سؤال الإعلامي الفرنسي واحداً من أكثر مظاهر الاستسهال والسذاجة، وبعيداً عن أي دراية. ويتمثّل ذلك في اختزال مسألة شائكة ومعقّدة ممثّلةً بالنص القرآني في ثوانٍ معدودات، في محاولة لمخاطبة مكنونات ومشاعر وعواطف جمهور ينحاز بعضه ضمناً إلى الأحكام المسبقة، ولإثارة روح الرضا لدى هذا الجمهور، وقد وصل إلى اليقين في ثلاثين ثانية. بينما من الممكن أن يقضي الباحث الغربي أو العربي المهتمّ بالإنسانيات والتراث الإسلامي سنوات طويلة من عمره في دراسة النص القرآني وفحواه وتناقضاته وانعكاسات ذلك على أرض الواقع، في السياسة وفي الحرب.
كان سؤال برنار بيغو قد طُرح في أمسية تلفزيونية قبل 27 عاماً، والأرجح أنه يُطرح بأشكال مختلفة ويومياً في السنوات الأخيرة، وخصوصاً بعد فشل ثورات الربيع العربي، وتصدُّر الإسلام السياسي والحربي للمشهد، في سوريا والعراق واليمن وغيرها، وقيادته لمعارك واقتتالات أهلية وطائفية لا يبدو أن ثمة نهاية قريبة لها. والحال، أن السؤال أعلاه في ذلك البرنامج وطرحه اليوم وسابقاً لا يخلو من وجاهة، هذا إذا ما طُرح بعيداً عن الطريقة الكاريكاتورية التي وردت في البرنامج الفرنسي وفي برامج غيره بالتأكيد.
ذلك أن سؤال علاقة النصّ بالواقع وتحوّله إلى إيديولوجيا عدمية، وتناقضات النصوص المؤسّسة في سياقها التاريخي بين نصوص تحضّ على العنف وأخرى تحضّ على التسامح والسلام، هو جوهر أي عملية إصلاحية للإسلام. أي: "الإصلاح الديني الإسلامي"، والذي يبدو ملحّاً اليوم أكثر من أي وقت مضى، طالما أن الحياة السليمة والطبيعية للبشر لا تستقيم إلا في ظلّ دساتير وأنظمة ديمقراطية أرضية، وضعيّة، وتشريعات حقوق الإنسان العالمية التي لم تهبط من السماء على أي حال.
صحيح أن التعامل مع التشريعات الحقوقية و"الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" يتمّ بانتقائية تتوافق اليوم، بداهةً، مع مصالح الأقوياء والمسيطرين من القادة وأباطرة السياسة والحرب في العالم، ممن يُعدّون على أصابع اليد الواحدة ويديرون شؤون هذا الكوكب.. إلا أن ذلك لا يلغي أن ثنائية "الفرد-الدولة" بالمعنى الحديث، أي الدولة – الأمة، هي المخرج من كل الاحترابات والكوارث التي يغرق فيها العالم العربي ومشرقه خصوصاً. في المقابل، تتّخذ الحركات الإسلامية الراديكالية موقفاً معادياً ومناهضاً بالسلاح وبالخطاب لفكرة الديمقراطية والدولة الحديثة التي يبقى الوصول لها مرهوناً، على أي حال، بمسار طويل لا يبدو أن واقع الحال اليوم في سوريا وغيرها يشكّل إضافة إيجابية لهذا المسار.
لا يتحقّق الإصلاح الديني بقرار، ولا عبر لمّ شمل المتضرّرين من الإسلام الراديكالي، ولا عبر كلام الإسلاموفوبيين العرب والسوريين الذين يعوم ويطفو الإسلام وتناوله المهووس على سطح مقالاتهم على أرضية "بشار الأسد أفضل من الإسلاميين". والكلام عنه لا يعني قرب "انبلاج فجره" كفكرة منتظَرة وخلاصية سحرية. واستطراداً، فإن وضع معايير وأسس نظرية للإصلاح الديني-الإسلامي، وكتابة تعليمات وقواعد له بعيداً عن الواقع وتحوّلاته، هو ما من شأنه ألّا يفضي إلى شيء. الإصلاح الإسلامي مسألة لا بدّ أن يخوضها الإسلام بكافة نصوصه المرجعية وأسسه التي قام عليها، ولا تزال هذه الأسس والنصوص في رأي الإسلاميين وشرائح واسعة في مجتمعاتنا ضمن المقدسات التي لا يطالها النقد. هذا وحده ما يمكن أن يخلق إسلاماً متصالحاً مع العالم. البديل عن هذا الإصلاح هو "استئصال الإسلام، وهذا حلّ فاشي" على ما يشير ياسين الحاج صالح.
لكن كيف يتحقّق الإصلاح الإسلامي؟ ومن هي حوامله الفكرية والسياسية والاجتماعية؟ يبقى وضع جدول وعناوين لذلك، وخصوصاً اليوم، ضرباً من ضروب التسرّع وقراءة الكفّ.
أزمة الإسلام اليوم هي أزمة سياسية بقدر ما هي أزمة ثقافية، على الرغم من صعوبة الكلام عن إسلام واحد في العالم العربي. أنظمة العسكر والانقلاب حملت مشروعاً دمّر المجتمعات في بلدان ما بعد الاستقلال، وجعل من المجتمعات العربية مجتمعات مفخّخة بالعنف الديني وغير الديني في زمن الانفجارات الكبيرة التي نعيشها اليوم بعد ثورات عام 2011. الإسلام السياسي والحركات الأصولية تعود إلى ماضي الإسلام الأول وتعيد إحياء النصوص المؤسّسة الأولى التي لم تمُت أساساً، وتستند إليها في ممارسات ومشاريع إلغائية، بحيث يكون الطعن في مشروع هذه الحركات طعناً بــ "النصّ المقدس"، وهذه تهمة لها ما يليها من تصفية وإلغاء بالطبع.
لقد احتاج الدكتور هشام جعيط، على سبيل المثال، إلى سنوات طويلة من عمره حتى ينهي ثلاثيته الشهيرة "في السيرة النبوية" بأجزائها الثلاثة "الوحي والقرآن والنبوة، تاريخية الدعوة المحمدية في مكة، مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام"، وهي الكتب التي شكّلت في رأي العديد من الباحثين الغربيين والعرب، المسلمين وغير المسلمين، فتحاً في مناهج البحث وفي التأريخ وفي آليات نقض ودحض المراجع التي يعتمد عليها أهل الفقه الإسلامي ومذاهبهم في قراءة السيرة النبوية وظروف "نزول الوحي" وغير ذلك. وربما كان العمل المهمّ والجهد الكبير الذي بذله جعيط، ثم مرور كتبه الثلاثة مرور الكرام في الثقافة العربية، سبباً من أسباب الإحباط الذي أصيب به لاحقاً مع عدد من تلاميذه، خصوصاً أن المنابر والشاشات مفتوحة لمشايخ ممّا هبّ ودبّ، ولفتاوى وتهديد ووعيد بجهنم والعذاب من قبل الشيخ يوسف البدري الذي كفّر عدداً من المثقفين المصريين ورفع الدعاوى بحقهم، وللتهديد من جهة ثانية بانتحاريين سيُرسلون إلى الغرب على لسان مفتي بشار الأسد، الشيخ أحمد حسون.
في كتاب "تاريخية الدعوة المحمدية في مكة" يكتب جعيط: "إن ما نعيبه على الاستشراق الجديد انفلاته من عقاله، وابتعاده عن الصرامة المنهجية التاريخية بتعلّة الصرامة ذاتها أو حبّاً للجديد. أمّا المسلمون فيخجلون من إجلاء الحقائق التاريخية خوفاً من الضغط الاجتماعي. لكن الآن أخشى ما يخشاه الباحث، هو اللامبالاة بنتائجه العلمية لانعدام المؤسّسات اللازمة والاهتمام".
عود على بدء، فالوجبات السريعة كحال البرنامج الفرنسي والتي تلخّص 1400 عام من التراكمات في ثلاثين ثانية، هي في مستوى من الابتذال لا يمكن رفعه إلى مستوى "الاستشراق"، وهذا الأخير ليس واحداً بدوره. إلا أن انعدام "المؤسّسات اللازمة والاهتمام" لن يفضي في النهاية إلّا إلى "مؤسّسات" بديلة تحوز اهتماماً من نوع آخر وثقافة من نوع آخر، وهو ما سيؤدّي في النهاية، إذا ما تضافر مع أنظمة الخراب الأبديّ والحركات العدمية الأصولية، إلى تعزيز الإسلاموفوبيا المتوثّبة دوماً في عالم تتّسع الهوّة بيننا وبينه يوماً بعد يوم.