info@suwar-magazine.org

عن التنوّع الثقافيّ والثقافة الوطنيّة (3)

عن التنوّع الثقافيّ والثقافة الوطنيّة (3)
Whatsapp
Facebook Share

 

 

بيّنّا في المقالتين السابقتين، المنشورتين في مجلّة صُوَر، أنّ الثقافة تتنوّع بتنوّع المجتمعات الصغيرة والكبيرة، بحيث يمكن الحديث عن ثقافات محلّية، ذات أبعاد إثنيّة ودينيّة ومذهبيّة وفئويّة، في إطار كلّ ثقافة وطنيّة، (بقدر ما تتشكّل ثقافة وطنيّة، في أيّ مجتمع)؛ وعن ثقافات وطنيّة، ذات أبعاد اجتماعيّة (طبقيّة) وتاريخيّة، في إطار الثقافة الإنسانيّة العامّة ومجتمع الدول، وتنقسم كلّ واحدة من هذه الثقافات المختلفة قسمين رئيسين: شفويّ وكتابيّ.

 

إلى جانب هذا التنوّع وإضافة إليه، تتنوّع الثقافة بتنوّع مجالات المعرفة / العمل، بحيث يمكن الحديث عن ثقافة دينيّة وثقافة أدبيّة وثقافة فنّيّة وثقافة فلسفيّة وثقافة علميّة ... إلخ، ويمكن أن نمضي في التفريع مع تفرُّع مجالات المعرفة / العمل، وأشكال النشاط وتنوُّع التخصّصات. ولكنّنا نميل، مع إدغار موران[1] (1921 - )، إلى إجمال هذه الفروع والتخصّصات في ثلاثة أنواع: ثقافة شعبيّة (يسمّيها موران "ثقافة جماهيريّة"، ونحن ننفر من هذه التسمية، ومن الظاهرة الجماهيريّة الملازمة للنُّظُم التسلّطيّة، ومن "الثقافة القوميّة الاشتراكيّة"، الجماهيريّة، التي خبرنا، في سوريا وغيرها)، وثقافة إنسانيّة، بالمعنى الذي أراده موران أيضاً، أو ثقافة "راقية"، حسب تعبيره، تشمل الآداب والفنون والفلسفة واللاهوت إلخ، وثقافة علميّة، تشمل العلوم الإنسانيّة والعلوم التطبيقيّة والعلوم التجريبيّة والعلوم البحتة.

 

نقترح من وحي أوضاعنا الثقافيّة الخاصة، في سوريا وغيرها من الدول العربية تنويعاً مختلفاً، فنتحدّث عن ثقافة شعبيّة، أو "ثقافة العامّة"، وثقافة نخبويّة، أو "ثقافة الخاصَّة"، وثقافة تكنوقراطيّة، لا حَسَب لها ولا نَسَب، هي صيغة عصريّة لطوائف الحرف وشيوخ الكار، ولكنها أقلّ منها تنظيماً وانضباطاً مهنيّاً وأخلاقيّاً بسبب الفساد، الذي يَسِم المناخ العامّ ويسمّمه.  وهذا الفساد عنصر أساسيّ في بنية النظام السياسيّ ومبادئ إنتاج السلطة. تتأرجح بين هذه الثقافات جميعاً "ثقافة أكاديميّة" ملتبسة وهزيلة، تجمع المجد من أطرافه الثلاثة، الشعبيّة والنخبويّة والتكنوفراطيّة، هي ثقافة المجتمع الأكاديميّ، الذي ينخره الفساد والانحطاط الأخلاقيّ.

 

فبخلاف ما لاحظ موران من "ثقافات تعادي بعضها، أو توجد في حالة تعايش سلميّ، لكن بينها صِلات ضعيفة جدّاً"، سواء في فرنسا أو في غيرها من الدول الأوروبيّة، نعتقد أن الثقافات الثلاث، الشعبيّة والنخبويّة والعلميّة متداخلة في سوريا وغيرها من البلدان العربيّة، بحيث يصعب تعيين الحدود الفاصلة الواصلة بينها. هذا التداخل هو ما يسوّغ الحديث عن "ثقافة تقليديّة" و"ثقافة تقليديّة جديدة" وإرهاصات "ثقافة حديثة"، في مجالات الآداب والفنون والفلسفة، بصورة خاصّة.

 

أمّا الثقافة العلميّة فتكاد لا تُرى، في المجتمعات العربيّة، حتى تُحسب نوعاً قائماً بذاته. فالمجتمع العلميّ العربيّ عموماً والسوريّ خصوصاً، مجتمع ضئيل وفقير، وعالة على المجتمعات العلميّة في البلدان المتقدّمة شرقاً وغرباً، لانعدام المساحات المناسبة للتفكير الحرّ، مع أن علماء سوريّين وغير سوريّين من العرب أو الكورد أو الأمازيغ ... هم أعضاء بارزون في المجتمعات العلميّة غير العربيّة. لذلك نعتقد أن الحداثة في بلادنا لا تزال تحبو، ولم تخطُ خطواتها الأولى بعد، وأن الكتلة الأساسيّة من النُّخَب العربيّة هي كتلة سلفيّة، والنُّخبة غير السلفيّة هي بالأحرى نُخبة تقليديويّة جديدة، كما وصفها ياسين الحافظ.

 

هذا خلاف ما ذهب إليه برهان غليون حين افترض أن الحداثة بوجه عامّ والثقافة الحديثة بوجه خاصّ، ثقافة مقصورة على "النُّخبة"، التي لا يمكن النظر إليها وتحديد ملامحها إلا في مرآة السلطة، أو "مجتمع النُّخبة" والدولة المضادّة للأمّة، وما أدراكم من هي الأمّة. وهو مذهب متهافت، في رأينا، لا لأنه يعارض الحداثة والثقافة الحديثة "بالثقافة الشعبيّة" ويناهض العلمانيّة فقط، بل لأنه يتجاهل أثر غياب الثقافة العلميّة في العالَمين العربيّ والإسلاميّ، في تشكُّل النُّخبة، من جهة، ويتجاهل سيرورة استقلال العلم عن اللاهوت، التي هي من أهمّ معالم الحداثة، من الجهة المقابلة، وهي سيرورة معطَّلة عندنا؛ ولأننا نعتقد أن حافظ الأسد ونسله الأيديولوجيّ والمعرفيّ والثقافيّ والسياسيّ والأخلاقيّ ومحمد سعيد رمضان البوطي ونسله الأيديولوجيّ والمعرفيّ والثقافيّ والسياسيّ والأخلاقيّ (إضافة إلى الأخوان المسلمين) وجهان للنُّخبة ذاتها.

 

تتعيّن خصائص كلّ واحدة من هذه الثقافات بنمط استهلاكها، وترجمتها أو تصريفها إلى أعمال وأفعال تفصح عن طبيعة البنى الاجتماعيّة والسياسيّة في المجتمع المعنيّ والعلاقات الاجتماعيّة والإنسانيّة، التي تنسجها، إذ الثقافة "رأس مال" يزداد باطّراد بازدياد إنفاقه، بخلاف رأس المال المادّيّ والماليّ. كما تتعيّن خصائص كلّ واحدة من هذه الثقافات بمدى ما تتيحه، وما تحفّز عليه، وتولّده، من التفكير الحرّ الطليق والفاعليّة الحرّة، وهذان، أي التفكير الحرّ والفاعليّة الحرّة، هما من أهمّ شروط إمكان الابتكار والإبداع. ومن ثمّ، إنّ نمط استهلاك الثقافة، الذي يعزّز نمط إنتاجها وإعادة إنتاجها، وانعدام أيّ مساحة للتفكير الطليق والفاعليّة الحرّة من أهمّ أسباب التأخُّر والانحطاط، في سوريا خاصّة، ومن أهمّ أسباب التوحّش.

 

الثقافة الجماهيرية تتشكّل، حسب موران، من كمّ هائل من المعلومات ينمو باطّراد، "ولكن عن طريق هدم نفسه باستمرار، وتحوّله إلى "ضجيج". إنه سُحب (عابرة) من معلومات غير منظّمة. يتعلّق الأمر هنا باختلاف جوهريّ عن الثقافة العلميّة التي تنظّم معلوماتها ضمن نظريّات وفهارس وأرشيفات. في الثقافة الجماهيريّة، نجد أن سحابة جديدة تطرد كلّ يوم سحابة أخرى. ويُؤخَذ على الثقافة الجماهيريّة أنها ثقافة تتدهور. هذا صحيح، ولكنها تنتج أيضاً تُحَفها (الخاصّة)، وربما وجدنا في الثقافة "الراقية" عدداً من الأعمال الرديئة يضاهي الأعمال الرديئة في الثقافة الجماهيريّة".

 

أمّا الثقافة الإنسانيّة فهي "ثقافة تتضمّن كمّيّة محدودة من المعلومات، يمكن أن تختزنها ذاكرة إنسان مهذّب ... يتوافر (له) فائض من الوقت. تتعلّق هذه المعلومات بالإنسان والطبيعة، والعالم والمجتمع. هذا المخزون المشترك يتيح إمكانيّة كبيرة للتفكير. وهو تفكير ينصبّ دائماً على المشكلات الأساسيّة: الخير، الشرّ، الله، وجوده أو عدمه، معنى الحياة، الأخلاق، إلخ. التمايز بين الأدب والفلسفة داخل هذه الثقافة ضعيف".

 

وأمّا الثقافة العلميّة، التي أدّت إلى نموّ هائل للمعلومات، فهي ثقافة شديدة الانضباط والتنظيم، خاصّة من خلال النظريّات المنطقيّة الرياضيّة. هنا توجد هيمنة للمعرفة القابلة للقياس والعدّ، وهذه الهيمنة نفسها مرتبطة بمعرفة تستلزم التحكّم (التجريب) والإنتاج (التقنيّة). وبالطبع لا تزال المعرفة من أجل المعرفة (ترافق) المغامرة العلميّة".

 

ما من شكّ في أن استقلال العلم عن اللاهوت كان الخطوة الأولى الحاسمة على طريق الحداثة، وتشكّل مجتمعات علميّة، حضنتها الجامعات ومراكز البحوث والمختبرات الخاصّة والعامّة، وتشكّل ثقافة علميّة ذات طابع كونيّ بالضرورة، هذا الطابع الكونيّ يتعدّى حدود الإثنيّات والأديان والمذاهب وحدود الوطنيّات والدول، وكان الشرط اللازم لنشوء الصناعة والنُّظم الاجتماعية – السياسيّة المواتية للصناعة، والخطوة الأولى الحاسمة في مسار العلمانيّة، فإن العلماء ومعظمهم، إن لم نقل كلّهم، مؤمنون، هم الذين واجهوا الكنيسة وزعزعوا أركان اللاهوت. (نفرّق دوماً بين الدين واللاهوت). ومن ثمّ، فإن العلاقة الملتبسة بين العلم واللاهوت، في المجتمعات العربيّة عامل رئيس من عوامل تعثّر عمليّة الانتقال من التقليد إلى الحداثة، ومن الاستبداد إلى الديمقراطيّة ومن الرعويّة إلى المواطنة.

 

وما من شكّ أيضاً في أن الصحف والمجلّات والإذاعات والمحطّات التلفزيونية تزوّد الثقافة الشعبية كل يوم بمعلومات جديدة، بل بسُحُب جديدة من المعلومات، وتفتح إمكانات التفاعل بين الثقافة الشعبيّة والثقافة "الراقية"، من جهة والثقافة العلميّة من الجهة الأخرى. لكن هذه المعلومات الجديدة تتجاور، في مجتمعاتنا، مع المعلومات القديمة، وتتأثّر بها أكثر ممّا تؤثّر فيها، كأنها سُحُب تمطر على حقول مزروعة من قبل، فتنمّي الورود والأشواك والقمح والزؤان.

 

الآداب والفنون "الراقية" لا تستطيع منافسة الفولكلور، بل تدخل في نسيجه أو في فراغات هذا النسيج، والمعلومات العلميّة تندرج في إعادة إنتاج العلاقة بين الدين من جهة وبين السحر والخوارق والمعجزات، من الجهة الأخرى، وإعادة إنتاج الوظيفة "البرهانيّة"[2] للسحر والخوارق والمعجزات، فوظيفة العلم، هنا، لا تتعدّى تصديق دعاوى اللاهوت وإبراء قداستها. (العلم الذي أثبت وجود الثقوب السوداء ومكَّن من تصوير أحدها، على سبيل المثال، لم يفعل أكثر من توكيد ما جاء في القرآن أو الإنجيل، ارجعوا إلى ما كُتب وما قيل، في هذا السياق، منذ أيام).

 

التنوّع الثقافي، بحسب تنوّع حقول المعرفة / العمل والفاعليّة الحيّة، يخترق الثقافات المحلّية في كلّ مجتمع، مثلما يخترق الثقافات الوطنيّة. ويبدو لنا أن الثقافة العلميّة تمتاز أكثر من غيرها بإتاحة فرص مناسبة للتفكير الطليق والفاعليّة الحرّة، بحكم توفّرها على درجة كبيرة جدّاً من الموضوعيّة والحياد، وبما تستلزمه من التحكّم (التجريب) والإنتاج (التقنيّة)، ونزعم أنها رافعة أساسيّة من روافع النموّ أو التقدّم والتحسّن، ولعلّها رافعة أساسية من روافع التنوير[3] والانتقال التدريجيّ إلى التنوُّر، ومعلم أساسي من معالم الحداثة، وشرط لازم للانتقال من الرعي والزراعة إلى الصناعة، أي من الاستبداد إلى الديمقراطيّة ومن الرعويّة إلى المواطنة المتساوية في الحقوق والالتزامات.

 

إنّ ضمور الثقافة العلميّة المتجدّدة باستمرار في "ثقافة النُّخبة" أو غيابها عنها، يطعن في علمانيّة العلمانيّين منها، ويؤدّي على الأرجح إلى تحوّل العلمانيّة إلى مذهب علمانويّ، تماماً كما يمكن أن يتحوّل العلم إلى مذهب علمويّ. نعتقد أن هناك تلازماً بين العلمانويّة والعلمويّة، اللتين وسمتا ما سمّي "الثقافة القوميّة الاشتراكيّة" في سوريا والعراق وغيرهما. وإلى ذلك، ثمّة هوّة عميقة بين الثقافة العلميّة والثقافة الشعبيّة، التي يتربّى عليها الناشئة، هوّة لا يمكن ردمها إلا بإعادة نظر جذريّة في النُّظم التربويّة والتعليميّة وفي المؤسّسات الثقافيّة والإعلاميّة، وجعل المعرفة العلميّة مبدأً أساسيّاً من مبادئ هذه النُّظم والمؤسّسات، وغاية أساسيّة من غاياتها.

 

وسوف نغامر بالقول: إن المعرفة العلميّة والثقافة العمليّة، عامل رئيس من العوامل اللازمة لتشكّل ثقافة وطنيّة جامعة، بحكم الطابع الكونيّ (العامّ) للعلم، الذي يسهم في إنتاج رؤية مشتركة للطبيعة والمجتمع والإنسان، في كل دولة ولدى كلّ أمّة. فإن الطابع الكونيّ (الإنسانيّ) للثقافة، بوجه عامّ، ولأيّ نوع من أنواعها، هو الأساس الذي تنهض عليه ثقافة وطنيّة محصّنة من العنصريّة أو عصيّة عليها. والطائفيّة شكل من أشكال العنصريّة.

 

 


[1]  - أدغار موران، من أجل نظريّة للثقافة، موقع أنفاس، على الرابط: http://www.anfasse.org. والاقتباسات الواردة أدناه من المصدر نفسه.

[2] - قفز الجابري عن هذه الحقيقة المعروفة في تاريخ العقائد الدينيّة وتاريخ العلوم، وتجاهل سيرورة استقلال العلم عن الدين، إلا عند غالبيّة المسلمين.

[3]  - ننوّه بتأويل عزيز العظمة للعلمانيّة على أنها مشتقّة من العِلم (بكسر العين)، ومنبثقة منه وعائدة إليه، ونعتقد أن هذا التأويل أقرب إلى التنوير في مجتمعات لا تزال وظيفة العلم فيها وظيفة "برهانيّة"، ولا يزال العلم فيها خادماً للّلاهوت وخادماً للاستبداد، حين يتحوّل إلى صفة لادّعاءات لا يمكن البرهنة على صحّتها، كالاشتراكيّة العلميّة، والصراع الطبقيّ.

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard