info@suwar-magazine.org

مات الله... عاش الإلـه

مات الله... عاش الإلـه
Whatsapp
Facebook Share

 

"الإله هو صمت العالم ... والإنسان المعذَّب هو الصرخة التي تدلُّ على هذا الصمت"، هذا ما قاله الروائي "سارماغوا" مردداً صدى ما قاله "نيتشه" بأن الله قد مات، أي أنه تَوقَّف عن التحدث معنا.

 

منذ بداية ثورات الربيع العربي والانحياز إلى الشرِّ والعنف، صار يسجل أرقاماً قياسية كانت مرافقةً للثورات المضادة، التي وضعت جموع الفقراء والمقهورين أمام حقيقة واحدة: ... "هذا العالم ليس لكم". فالجميع يعرف القتَلة ويشير إليهم بالبنان، ولكن انتفاء الاستجابة الأخلاقية من قبل العالم عن كثير من الأحداث الدموية سوف يؤسس لإنتاجات ضخمة من البؤس المتبادل، والذي بدوره سيزيد من استمرارية دورة العنف مع كل جرحٍ جديد تتعرض له الهوية.

 

مع بداية انتشار العنف السائل - كما يقول زيجمونت باومان عالم الاجتماع البولندي- " أي الخارج من احتكار الدول له"، أصبحت عروض العنف المتبادل على وسائل الإعلام الحديث، والتقليدي هي بضائع رائجة؛ بل، وتخدم غايات وأهداف كبرى تبدأ من إمكانية تكريس الشعور لدى البشر بأن الشر متأصل في حياتنا، وتفاصيلنا اليومية، وتنتهي بالإيمان الدائم بإمكانية نشوء الحرب تحت أي ظرف يختاره القائمون عليها وأن كل ما يستلزمه الأمر قليلاً من الضحايا الأبرياء حتى تنشُط اليد الحرة للسوق في بيع السلاح.

 

ولكن عندما نعود إلى مشهد من معرة النعمان، ونشاهد تلك الطفلة التي ردمها القصف الروسي تحت أنقاض بيتها والدماء والصخور تتغلغل في جسدها، وهي تحاول إنقاذ أختها الرضيعة، وتمسكها لكي لا تسقط، ووالدها الذي لم يملك إلا الصراخ، ومن ثم الموت كمداً بعد سقوط ابنتيه بمشهدٍ لم يعد يكترث أحدٌ لمراقبته بعد أن تم نسيان مساحة بشرية كاملة أصبحت محسوبة ضمن نطاق الأضرار الجانبية للدول .. بعد هول هذا المشهد والعديد من المشاهد السورية التي تحولت لإحصاءات ترتفع وتنخفض على خيوط بيانية ثانوية ألا يحق للسوري أن يسأل أين الله من كل ما يجري؟

 

إن طبيعة العقلية الاجتماعية السورية عقلية قدرية تؤمن أن الشر والخير آتٍ من الله، ولكن لماذا الله لا يختار لنا إلا الشر، يقول "وليد. س" وهو أحد الشباب الذين بترت ساقهم أثناء قصف النظام السوري على قريته في منطقة "الدانة" ثم يردف " لقد أصبحت على قناعة تامة أن الله هو أفيون للفقراء فقط".

 

لا تقتصر هذه النظرة "اللاأدرية" على أتباع دينٍ دون آخر، فهي مترسخة بفعل النصوص الدينية التي طالبت الإنسان بأن يؤمن في أن كافة الأفعال شراً أو خيراً هي قادمة من عند الله، وليس على الإنسان إلا أن يلتزم الطاعة لأن هناك حكمة ما من وراء كل كارثة قد تقع. إلا أن هذا بدوره دفع عديداً من الأشخاص، ومنهم أتقياء وأخلاقيين ومتعلمين إلى الاندفاع نحو الشر والعنف حتى ليبدو الشر بأنه سؤالاً يرتبط بالله وحده، وأن حرب الجميع ضد الجميع سوف تبقى مستمرة، وما الفضيلة التي يتشدق بها بعض أتباع الأديان إلا قناعاً يخبِّئ تحته أناساً يسكن الشر في ذاكرتهم وبيوتهم، ولا نعلم متى سوف يظهر هذا الشر على شكل عمل إرهابي سوف يودي بحياة العديد من الأبرياء كما حصل في مجزرة نيوزلاندا، وإن استمر الحال على هذا الشكل، فنحن نتحدث عن بيئات اجتماعية سوف تبقى حافلة بالألغام، ولن نستطيع تقدير وقت وزمن انفجارها.

 

إن الفكرة الرومانسية بأن الله خير مطلق بسبب كماله كانت مجالاً لصراعات تاريخية بين أيديولوجيات كبرى، والتي كانت تضع الله على طرفي نقيض فإما أن الله كامل، أو أنه ليس قيوماً، وبالتالي فالشر عند الكنيسة المسيحية كان نتيجة خلل في الفرد، ولكن الإنسان قادر على هزيمة الشر دائماً، ومن هنا كانت نظرة الكنيسة تفاؤلية ومؤمنة بأن الخير من عند الله دائماً، والشر هو منبع الأفراد. أما بالنسبة للمانوية – نسبة للفيلسوف ماني الإصلاحي-، فقد حاولتْ أن تنفي الشرَّ عن الإله نفياً مطلقاً لذلك خلقت الشيطان، وقالت إن للشيطان من قوة الشر ما لله من قوة الخير، وإن الله عندما يصمت عن التكلم مع العالم، فإن الشيطان هو من يأخذ هذا العالم إلى الجحيم. أما الإسلام فقد قدم فكرة وسطية بهذا الخصوص، وذلك ضمن الآية الكريمة "ونفسٍ وما سوَّاها فألهمها فجورها وتقواها" بحيث جُعِل الله خالقاً للخير والشر، ومانحاً الإنسان القدرة العاقلة على التمييز بينهما، ومن ثم الاختيار.

 

 ولكن إن أردنا تبني ما يلائم مجازر القرن العشرين والواحد والعشرين من هذه التوجُّهات الإيديولوجية الكبرى، فسنجد أن للرؤية المانوية مكانة الصدارة من حيث تحكُّم الشيطان في العالم، فمن غير المعقول أن الإرادة الحرة التي أورثها الله للإنسان تكون إرادةً تتآمر على فناء ذاتها، ومن هنا، وكما يرى الفيلسوف "كارل شميت" أن هذا الشيطان يكمن في السياسة، وشيطان السياسة هذا ليس مجرد صورة تخيُّلية بل إنه تجسيد لأشكال متعددة تتسلّل إلى جميع الأنظمة الكونية بأنساقها المختلفة، وتعمل على هدم أي نظام أخلاقي وكوني، وكلما زادت الحاجة لبروز إله رأس المال فعلى شيطان السياسة أن يَظهر فارضاً قطيعة كاملة مع ذاكرة الوعود الكبرى للحداثة التي بشَّرت الإنسانية بمجتمعات أكثر عدالة وديمقراطية، وضارباً الحس الأخلاقي بعرض الحائط جاعلاً من سرعة العنف، وتعدد أشكاله الرهان الوحيد الذي لا يترك لأحد مجالاً للفهم، والذي بدوره يحول المجتمعات من التمركز حول قضية إنسانية ودعمها- كالحرب الدائرة على المدنيين في سوريا مثلاً- إلى نوع من انطواء الأفراد على ذواتهم، وهذا بحد ذاته تَحول للطبيعة الكونية والإنسانية يُظهر مجموعة من البشر على أنهم فائض عضوي غير مُلزم، ويمكن إبادتهم دون حدوث أي وخز في الضمير الانساني فهم ليسوا إلا مجموعات إحصائية يتم الاستعاضة عنهم بتسليط الضوء على قصة بعينها تستجلب تعاطف مؤقت يمنح تخديراً للمنظمات الإنسانية بأنها تفعل ما يجب فعله، ولكن في الحقيقة إن ما يحدث لا يتجاوز عملية متكررة لغسيل دماغ يومي، وتضليل لرأي عام عالمي بات مثلاً يرى في "بشار الأسد" -أكبر مجرمين الحرب في التاريخ الحديث - على أنه مجرد رأي سياسي يمكن تدويله وإعادة تأهيله، والكارثة الكبرى التي تجعل الإنسانية على شفير الانتحار أن محاولات هذا التدويل ما هي إلا بسبب انتصار منطق القتل والحرق والابادة على جموع المدنيين الذين تخلت عنهم الوعود الديمقراطية الكبرى.

 

في الحقيقة ليس هنالك إلهاً يرضى بوقوع الشر لعباده. إن الشر دائماً كان مرتبطاً بإله المنطق المادي البارد أمام إله الفطرة البشرية، وإله المصالح أمام إله التعاطف، وإله ذاكرة الموعظة أمام إله الأدمغة التي تغسل دائماً ليفقد الانسان أي ارتباط بوجوده وكينونته، ويصبح في حالة من العمى الأخلاقي فاقداً للثقة، ولديه شكوك كبيرة بأنه عبارة عن ذرةٍ قلقة يتم التلاعب بها دائماً في لعبة الحمقى.

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard