مراجعات لمفهوم الوطن
مما لا شك فيه أن هذا العنوان سيبدو مثيراً للاستغراب بالنسبة للكثيرين، لأن مفهوم "الوطن" يبدو بالنسبة لهم من المُسلَّمات الكافية الجلاء، التي لا تحتاج إلى أية شروحات أو تأويلات أو مراجعات، لكن واقع الحال يقول العكس، ولاسيما في الأزمات، وبالأخص الكارثية منها، فهذه الأزمات هي أكبر دليل على أن ما اعتاد عليه الناس الذين يعانون من الأزمة، لم يكن قطعاً صحيّاً وسليماً، وإلا لما كان -ببساطة- أنتج أزمة.
لذلك فمن الضروري جداً في الأزمات مراجعة المُسلَّمات لفهم أسباب هذه الأزمات، وتمكين إيجاد حلٍّ لها، هذا عدا عن الأهمية الدائمة لمراجعة المُسلَّمات من مُنطلَقٍ معرفيّ بَحْت، وهذا ما يقي العقل من تحوُّل المُسلَّمات إلى حدود معرفية تُحِدُّ تطوُّرَه وتَقدُّمَه، إن تم التعامل معها دوماً كحقائق منتهية لا تقبل الشكّ.
في حياة الإنسان أفراداً وجماعات، فكرة "الوطن" هي مثل فكرة "الإله" من حيث الدّور الكبير الذي تلعبه، والتأثير الكبير الذي تؤَثِّره، والفكرتان متشابهتان في العديد من الجوانب، فكلاهما مثلاً "مُسلَّمات" بالنسبة للمؤمنين بهما، وهذا "التسليم" يكون له عادة العديد من المفاعيل الخطيرة الشأن والنتيجة، فوفقاً للمفهوم الذي تتضمنه فكرة الله مثلاً، غالباً ما يصبح الاختلاف معها مدعاة لـ "التكفير" المؤدي غالباً إلى "التعنيف"، وبشكل مشابه يصبح "الاختلاف" مع السائد في فكرة الوطن مدعاة لـ "التخوين" و "العنف التخويني"، وهكذا يعطي هذا السائد في التفكير الديني أو الوطني الدافع لأصحابه لفرض معتقدهم قسراً، وبنفس الوقت كثيراً ما يجعلهم عُرضة للاستغلال والتسخير لخدمة مآرب الطامعين الخبيثة، المناقضة في جوهرها لمصلحة المتديِّنين أو الوطنيين الحقيقية، ولا سيما أنَّ كلْتا الفكرتان هما عادة فكرتان مشحونتان بدرجة عالية من العاطفة والإيمان، ما يُسَهِّل إمكانية استغلالهما على المستغِلين.
في بداية مناقشتنا لمفهوم الوطن، سننطلق من سؤال: ما هو الأساس الذي يجعل عربياً من حوران في جنوب سوريا يعتبر كردياً من القامشلي في شمال شرق سوريا شريكَهُ في الوطن، ويعتبر القامشلي نفسها جزءاً من هذا الوطن؟
هنا سنقع فوراً في إشكالية منطقية، فطالما أننا قلنا في كلتا الحالتين "جنوب سوريا" و"شمال شرق سوريا"، فهذا الكلام نفسه يتضمَّن الجواب، حيث يجعل المنطقتين منتميتين سلَفاً إلى كيان واحد جامع هو "سوريا"، التي تصبح في هذه الحالة "معطىً قبْلياً معترَفاً بوجوده مسبقاً".
لكن مع ذلك فنحن لم نصل إلى جوابٍ نهائيٍّ بعد، ولكننا أرجأناه خطوة إلى الوراء فقط، لأن السؤال ما زال قادراً على إعادة طرح نفسه بصيغة: وما هي إذن الأسس التي يقوم عليها هذا الكيان الموحَّد الجامِع المُفترَض، الذي نسميه "سوريا"؟! وهل هي الجغرافيا أم التاريخ أم الاجتماع أم السياسة أم ماذا؟
هنا إذا استثنينا مفهوم "سوريا" ك ـ"معطى قَبْلي"، سيكون علينا إعادة طرح سؤالنا الأول على شكل: ما هو الأساس الذي يجعل عربياً من حوران يَعتبِر كردياً من القامشلي شريكَهُ في الوطن، ويعتبر القامشلي نفسها جزءاً من هذا الوطن؟ والإجابة على هذا السؤال هي بنفس الوقت إجابة عن السؤال السابق حول الأُسس التي يقوم عليها مفهوم "سوريا" كـ "وطن"، ما يعني أننا وصلنا إلى حالة "إعادة تأسيس منطقي، أو فكري لـ "الوطن السوري".
استقرائياً يمكن القول أنّ مفهوم الوطن تدخُل فيه العوامل التالية:
الجغرافيا، التاريخ، والاجتماع، والسياسة.
فما هو دور كلاً منها بالضبط، وهل "يتأسّس" على أحدها، أو بعضها، أو عليها كلها؟
ما لا شك فيه أن الجغرافيا هي عامل أساسي لتأسيس مفهوهم الوطن، فلكي يكون الوطن وطناً واقعياً، لا بدِّ له من أرضٍ يقوم عليها، ولكن هل تختصر الأرض مفهوم الوطن؟
هذا السؤال بحد ذاته هو سؤال غير مكتمل، ولا يمكن الإجابة عليه وحده، دون الإجابة عن سؤال آخر لا ينفصل عنه، وهو: وطن مَنْ، وهل هو وطن الفرد، أم وطن الجماعة؟!
من الواضح أنه لا يمكن الحديث عن وطن مرتبط حصرياً بالفرد، لأن الفرد واقعياً يعيش في جماعة، وهذه الجماعة تكون لها دوماً علاقاتها وروابطها الانتمائية والتعاونية وقوانينها وأعرافها، وبالنسبة للأشكال الاجتماعية البشرية البدائية في التاريخ، كانت الجماعة بالنسبة للفرد هي الأساس وليست الأرض، فهذه الجماعات في كثير من الأحوال لم تكن تستقرُّ في أرض محددة، وكانت تتنقل من مكان إلى مكان، وهنا يصبح موضوع علاقة الوطن بالأرض إشكالياً طالما أن الأرض تتغير باستمرار..طبعاً في مثل هذه الحالة يجوز القول أن الوطن بالنسبة لمثل هذه المجتمعات البدائية هو الأرض التي تستطيع أن تتجول فيها الجماعة بحُرِّية، وهذا بدوره سيكون محدوداً إما بالعوامل الطبيعية التي لا تستطيع هذه الجماعة تجاوزها، أو بالعوامل الاجتماعية التي تتمثل بوجود جماعات أخرى لها بدورها مجالها الجغرافي الحيوي الذي لا تسمح لجماعات أخرى بالدخول إليه، وهذا الوضع يحيلنا إلى مفهوم "الأرض المُسيطَر عليها".
لكن مفهوم الأرض المسيطَر عليها لن يكون ذو معنى في حالة جماعة بشرية متنقلِّة، وهو يأخذ معنى بقدر ما تكون الجماعة مستقرة.
بناء على ما تقدم يمكن القول أن مفهوم الوطن أصبح متضمِّنا لعاملَين هما الجغرافيا والاجتماع، وبشكل أدقّ الأرض والجماعة، بحيث يمكن القول عند هذا المستوى أن الوطن هو الأرض التي تعيش وتسيطر عليها الجماعة التي ينتمي إلها الفرد.
لكن مع ذلك فمفهوم الوطن بهذا التعريف ما يزال ذا طابع جغرافي، وحتى وإن كان غير منفصل عن الجماعة الأم، ولكن بما أن الجماعة الأم هي التي تعطي للأرض معناها الوطني، ففي حالة هجرة هذه الجماعة كجماعة إلى أرض جديدة مثلاً، فالأرض القديمة ستفقد مفهومها الوطني، الذي سينتقل بدوره إلى الأرض الجديدة، التي تستوطنها الجماعة، ما يعني أنه لا يمكن الفصل بين مفهوم الوطن والجماعة الأم، وهذا يعني وجوب إدخال مفهوم الجماعة الأم في تعريف الوطن، ليصبح الوطن دالّاً على الكيان الاجتماعي الذي ينتمي إليه الفرد ككلّ بأرضه وناسه، الذين يرتبطون برابط جماعوي، وفي مرحلة أكثر تقدماً من التاريخ البشري، الذي تتطور فيه الجماعات البشرية إلى أمم يمكن القول أن "الوطن" هو "بلاد الأُمَّة".
لكن مع ذلك ما زالنا نواجه ثلاث مشاكل، تتعلّق إحداهما بالتاريخ، وتتعلق الأخرى بالسياسة أو الدولة، والثالثة تتعلق بالمنشأ والمولد والمهجر.
الإشكالية الأولى تطرح التساؤل عن وضع أرض ما انتمت إلى "أُمَّة" لحقبة من الزمن، ثم انتُزعتْ منها، فهل تفقد هذه الأرض المنتَزعة عندها صفتها الوطنية؟
والثانية تتعلق بمسألة الدولة، والعلاقة بينها وبين الوطن، والأسئلة التي يطرحها وجود دولة متعدِّدة الأمم، أو وجود أُمَّة تحت سيطرة دولة أجنبية، أو مُجزَّأة بين عدة دول، وما شابه...
أما الثالثة فهي تربط بالفرد أو الأفراد الذين ينتقلون إلى مجتمعٍ آخر أو أرضٍ أخرى، أو يولَدون فيها من أهلٍ مهاجرين، وانعكاسات هذا الانتقال على مفهوم الوطن بالنسبة لهم.
بالنسبة للإشكالية الأولى، هي تصبح إشكالية صعبة على الحل أكثر، كل ما مَرَّ عليها الزمن أكثر، حتى تصبح في يوم ما إشكالية مُستعصيَةً على الحلّ.
لنأخذ على سبيل المثال مدينة "إسطنبول" التركية حالياً، والتي كانت في زمان مضى أحد المدن اليونانية الكبرى حتى سقوطها بيد العثمانيين في عام 1453م، فإلى أيِّ وطن تنتمي هذه المدينة الآن؟ واقعياً هي اليوم تركية، وتاريخياً كانت في زمان ما يونانية، واليوم يعتبرها الأتراك بشكل لا جدال فيه جزءاً لا يتجزأ من وطنهم، لكن هذا لا يعني أنها فقدت هذا الاعتبار بالنسبة لليونانيين، الذين حاولوا استعادتها بُعيد الحرب العالمية الأولى بعد مرور أكثر من خمسة قرون ونصف على استيلاء الأتراك عليها!
قد يقول قائل هنا أن الأمر الواقع هو الحَكَم، والمدينة اليوم هي تركية بالكامل، والغالبية العظمى من سكانها هم اليوم أتراك، ولكن ألا يعطي هذا المعيار الشرعية لكل عمليَّاتِ الإلغاء الجماعي التي تجري إما تهجيراً أو تذويباً، وهذا ما تعرَّض له يونان القسطنطينية، وبشكل كثيف على يد القوميين الأتراك، بعد أن كانوا يشكِّلون حوالي 40% من سكان المدينة أيام الحرب العالمية الأولى؟!
أما الإشكال الثاني فهو يتعلَّق بمسألة الدولة، وهو إشكال لا وجود له في حالة "أُمَّة دولة" أو "دولة أُمَّة"، لأن الدولة عندها ستتماهى تماماً مع الوطن كما هو حال إيطاليا المعاصِرة أو إسبانيا أو اليابان وما شابه، لكن هذا الأمر يصبح مختلفاً في حالة الدول المتعددة القوميات، فما هو مثلاً وطن الاسكتلندي، وهل هو اسكتلندة أم بريطانيا؟ وما هو وطن الكردي في كل من سوريا وتركيا وإيران، أهو هذه الدول، أم هو كردستان؟ وما هو وطن الشيشاني في روسيا، أهو روسيا أم الشيشان؟ وهل وطن الكشميري المسلم هو الهند أم كشمير أم باكستان؟.
أما الإشكالية الثالثة فهي تدفعنا للسؤال عمن هو وطن المغترب العربي في البرازيل، أو الكردي في ألمانيا أو الأرمني أو الصيني في الولايات المتحدة ؟ وهلمَّ جرى... فهناك أعداد كبيرة من هذه القوميات تتحدَّر من أصول مهاجرة، ولم تفقد بعد روابطها القومية مع أوطانها الأم، ولكنها بنفس الوقت تعيش في بلدان المهجر، التي تشكِّل لها وطن المولد والمعيشة بنفس الوقت!
هذه الأمور كلها متشابكة، ولا يمكن الوصول فيها إلى حلٍّ نهائيٍّ للإشكاليات التي يثيرها "مفهوم الوطن" على أُسس فكرية تقليدية تتقدم فيها هوية الجماعة على هوية الإنسان كإنسان، لكن لو نظرنا إلى العالم المعاصر، فسنجد أن جل اليوم أوطانه تتماهى فيها الدولة والوطن، ولكننا مع ذلك لا نستطيع القول بشكل مفتوح أن "مفهوم الوطن المعاصر يقترن بالدولة"، فماذا لو كانت هذه الدولة دولة احتلال، أو كانت دولة عنصرية متعصبة، أو كانت دولة ديكتاتورية؟
لا شك بأن تعريفاً عصرياً للوطن يماهيه مع الدولة الحديثة، سيكون مقبولاً تماماً بالنسبة لمعيارية عقلانية إنسانية حديثة، ومثل هذه الأوطان هي اليوم الأكثر وجوداً في العالم، فالأوطان في أوروبا الحديثة، والأمريكيتين وأوقيانوسيا وقسم كبير من آسيا، هي بشكل عام من نموذج "دولة وطن"، ومفهوم الدولة فيها حتى في حالة الدولة المرتبطة بأُمَّة، لم يعد قومياً عنصرياً، لأن هذه الدول الحديثة صارت اليوم تدمج المهاجرين إليها فيها، وتعتبرهم مواطنين كاملين فيها، دون اشتراط ذوبانهم القومي أو الثقافي فيها، فساركوزي البولوني الجد حكم فرنسا بدون إشكالية، وكذلك كان حال أوباما الكيني الأب في الولايات المتحدة، وقبلهما كارلوس منعم السوري الأصل في الأرجنتين.
وبالتالي إذا عدنا إلى الأمثلة المطروحة في الإشكالات التي تحدَّثْنا عنها أعلاه، فيمكننا القول أن دولة ديمقراطية علمانية حديثة تستطيع حلَّها جميعاً، ولكنها بنفس الوقت تشترط استجابة مماثلة من قبل كل الأطراف الداخلة في الخلاف.
في الدولة العلمانية الديمقراطية الحديثة، لم تعد "القومية" تحدد هوية الدولة، والقومية فيها أصبحت شأناً خاصاً مثل الدين، وهي تدخل في نطاق الثقافة وليس السياسة، فالياباني الأمريكي بقي أمريكياً حتى أثناء الحرب العالمية الثانية، وكذلك الشيوعي الأمريكي أيام الحرب الباردة.
وهكذا لن يكون ثمة تعارُض أو تناقض بين بريطانية واسكتلندية السكوتي، وبإماكنه بيسر أن يعتبر كلاً من بريطانيا واسكتلندا وطنه، بحيث تكون مثلاً بريطانيا شكلاً وطنياً موسعاً بالنسبة له، شيء من هذا القبيل مرشح للحدوث في روسيا الاتحادية، ولكن هذا يحتاج إلى بعض الوقت، لأنَّ النُّضج السياسي في روسيا نفسها، والاجتماعي في مناطق الأقليات فيها ما يزال أقل من نظيره في بريطانيا.
أما الكردي الذي يعيش في ألمانيا أو العربي الذي يعيش في البرازيل أو الأرمني والصيني في أمريكا، فكل منهم إن كان بدوره يحمل ثقافة عصرية، فهو في هذه الدول الحديثة يستطيع أن يعتبر كل من دولة معيشته ودولته الأصل وطناً، فيكون لديه وطنان بنفس الوقت.
هذه التعددية في الوطنية هي اليوم شكل من أشكال التعددية المتنوعة، التي تعتبر اليوم صفة حضارية تتميز بها المجتمعات والدول الحديثة، والفرد الحديث، وهي بالطبع سِمَة أساسية من سمات النظام والثقافة الديمقراطيين، ولكنها أمر غير ممكن التحقيق في الدول الاستبدادية أو العنصرية، أو في الثقافات المنغلقة المتعصبة، ولذا فما ينطبق على السكوتي وبريطانيا ما يزال أمراً صعب التحقيق مثلاً بالنسبة للكشميري المسلم والهند، فرغم أن الهند هي من الناحية السياسية دولة علمانية ديمقراطية، لكنها ليست كذلك بما يكفي من الناحية الاجتماعية، حيث ما تزال الثقافة التقليدية قوية بما يكفي لإنتاج توترات، وعصبيات انتمائية وهويوية فئوية لدى الهندوس والمسلمين وغيرهم من الجماعات، وهذا بدرجة ما ينطبق على وضع الكردي في تركيا، التي ما تزال النزعة القومية الطورانية فيها عالية بما يكفي لبقاء تناقضات وتوترات الفعل ورد مع القوميين الأكراد حادة إلى درجة تمنع تشكل هوية وطنية حديثة مستقرة.
فإذا عدنا إلى سوريا، سنجد أن الرابط الفعلي الذي يجمع اليوم بين عربي حوران وكردي القامشلي هو فعلياً "الدولة السورية" الراهنة، وهي عملياً "شبه دولة"، فهي لا تملك هوية وطنية اجتماعية متبلورة، وما تزال الهويات الفئوية فيها حادة وقوية إلى درجة تشكيل تهديد حقيقي لهذه الدولة الهشة على كافة الصُّعُد، والتي ما تزال تتبنى خطاباً قومياً تقليدياً، وتتبنى هوية قومية، وما تزال عاجزة عن تحقيق نقلة علمانية حقيقية، وهذا مرتبط بطبيعة النظام الاستبدادي الحاكم فيها.
وفي هذه الحالة من التردي المستفحل الشامل الصُّعُد، وتحت نير حكم ديكتاتوري يجمع بين القمع والفساد، وما يترافق معهما من تدهور اقتصادي وثقافي، تزداد الهويات الفئوية حِدَّة وتشنجاً، وما يزيده سوءاً تبني السلطة لإيديولوجية قومية وسياسة محاباة إسلامية متَعَمَّدة، ولأغراض مصلحية خاصة، ما يمنع تطور المجتمع والدولة إلى نموذج وطني عصري حقيقي، وهكذا يبقى المجتمع مُشرذَماً في فئويته، في ظروف من القمع السلطوي والتردي الاقتصادي والثقافي، وهدر حقوق الإنسان، والتمييز في المواطنة، الذي يزيد بؤسه التدني الشديد لمستوى هذه المواطنة نفسها والحقوق المترتِّبة عليها بحد ذاتها.
في مثل هذه الظروف تتحول الوطنية إلى مجرد خطاب شعبوي عاطفي وحالة من الإيمان الغيبي مثلها مثل الدين تماماً، وتصبح مهمتها الحقيقية التغطية على سياسات الاستبداد والفساد، أو الاستخدام كوسيلة تجييشية لمواجهة مفاعيل هذه السياسات، التي تأتي إما كحراكات وطنية بناءة، وهذه هي الحالة الأقل، أو عكس ذلك، وهذه هي الحالة الراجحة.
الدولة الديكتاتورية هي ليست دولة وطنية حقيقية حتى في حال كانت ذات هوية جماعوية واحدة، لأننا إذا ابتعدنا عن الإيمان الغيبي، والعاطفة العمياء في التعامل مع مفهوم الوطن، فسنجد عندها أنه على أرضية إنسانية واعية عاقلة، لا يمكن أن يكون للوطن أي معنى قيّم، إن لم يكن مرتبطاً بتحقيق إنسانية الإنسان، فيصبح تعريف الوطن في هذه الحالة بأنه المجتمع الذي يستطيع فيه الإنسان تحقيق ذاته كإنسان، وتجسيد حقوقه الإنسانية في واقع إنساني حقيقي مُعاش. فإن لم يكن الوطن كذلك، فهو ليس أكثر من وثن يستخدم لاستعباد الإنسان، حتى ولو كان هذا الوطن هو أرض أو أُمَّة أو دولة الأجداد أو الجماعة الأم.
بهذا المعنى لن تكون أية دولة ديكتاتورية وطناً حقيقياً لشعبها، حتى وإن كان هذا الشعب كله من هوية واحدة، فما بالك عندما تتعدد الهويات، وتضيف مشاكلها الخطيرة إلى المشاكل العويصة الموجودة في النظم الديكتاتورية والثقافات التقليدية.
بالمعنى الإنساني، لا يمكن لأي عربي اليوم في أية دولة عربية أن يقول بأنه لديه "وطن حقيقي"، وهذا بالطبع ينطبق على سوريا، فلماذا إذاً على الكردي -مثلاً- أن يعتبر سوريا أو العراق مثلاً وطناً له، مع ما كان يعانيه فيهما من معاناة قومية خاصة إضافة إلى المعاناة الاجتماعية العامَّة التي يعانيها الكل، وما ينطبق على الكردي ينطبق بالطبع على غيره من أبناء الأقليات، الذين يعانون من الانتقاصات بشكل أو بآخر.
وهكذا نكون قد وصلنا إلى النتيجة التالية:
في الوقت الذي لن يجد فيه عربي حوران وكردي القامشلي -كمثال- الرابط الوطني الذي يجعهما على أساس وحدة الجماعة، وما يرتبط بها من أرض أو تاريخ، لن يبقى أمامها إلا الرابط الوطني الاجتماعي السياسي المرتبط حصرياً بالدولة والمجتمع الحديثَين، وهذا ما هو غير مُحقَّق بدوره بعد، وبالتالي إذا ما تحلَّينا بالعقلانية والصدق والجرأة بقدْرٍ كافٍ، فيجب أن نعترف، بأنه حتى الآن ليس هناك رابط وطني حقيقي، وليس هناك وطن حقيقي، وما هو موجود هو في أحسن الأحوال "شبه وطن" أو "مشروع وطن".
عند هذه النقطة على العربي أن يتعامل بمنتهى التفهم والاحترام مع الكردي، إنْ هو فكر بإقامة "دولة كردية مستقلة"، وليس له قطعاً أن يصِمَه بـ"الخيانة" أو "خيانة الوطن السوري المفترض"، فهذا الوطن هو غير محقق بعد بالنسبة للعربي نفسه على الصعيد الإنساني الاجتماعي، وهو عدا عن ذلك غير محقق بالنسبة للكردي على مستوى الهوية الكردية التي يجب أن تحترم بما لا يقلَّ عن الهوية العربية.
مع ذلك، وبما أن "الوطن والوطنية" هما مفهومان متعدِّدا الأبعاد، وهما في شكلهما الحديث المرتبط بالدولة الحديثة لا يتنافيان مع الشكل التقليدي المرتبط بـ "الجماعة البشرية التقليدية"، وبما أن "الوطن الكردستاني" هو أيضاً مشروع كـ "الوطن السوري"، فعلى العربي السوري إذاً أن يقدِّم مشروعه "الوطني السوري" بشكل لا يجد الكردي نفسه مغبوناً فيه، فيبحث عن مشروعه الخاص البديل.
من الناحية الواقعية العملية، ورغم صعوبة دمقرطة الدول المتعددة القوميات التي يتواجد فيها الأكراد مع غيرهم من القوميات، فهذه الدمقرطة هي المشروع الأصلح للجميع، فمشروع إقامة دولة كردية، رغم عدالة طرحه من حيث المبدأ، أسوة للأكراد بغيرهم من الشعوب المجاورة من عرب وفرس وترك وسواهم، الذين لديهم دولهم الخاصة، إلا أنه في ظل التعقيدات البالغة للظروف في الشرق الأوسط يبدو واضحاً أنه ليس حلاً واقعياً بتاتاً، والتركيز عليه سيبقي الحساسيات والتوترات عالية بين الأكراد وجيرانهم، وسيستمر حدوث الصدامات معهم، وفي المحصلة هذا لن يخدم أحدا، بل سيكون عاملاً قوياً من عوامل عرقلة تطور الديمقراطية في المنطقة ككل، التي يحتاجها الجميع، والتي ثبت عمَلِياً على أرض الواقع أن الأكراد أنفسهم ليسوا في أوضاعهم الداخلية الاجتماعية والسياسية أكثر قرباً منها من أي من جيرانهم، ما يعني أن التفكير العقلاني والعملي يجب أن يتجه بالأكراد نحو المشروع الديمقراطي، وليس نحو المشروع القومي، الذي لن يكون إلا تلبية لبعض عواطف الهوية والانتماء بعائد عملي سلبي، لا يخدم الحق القومي للأكراد من ناحية، ولكنه من ناحية أخرى يعرقل الاستحقاق الديمقراطي.
إذاً البديل الآخر هو التعاون على بناء الوطن المتربط بالدولة الحديثة المتجاوزة لكل الهويات الجماعوية، "الدولة الوطنية الديمقراطية".
وعندها مثلاً في "سوريا وطنية ديمقراطية"، لن يحس الكردي أو الآشوري أو الأرمني أو سواهم بأنه ثمَّة فرق بينه وبين العربي، ولن يكون ثمَّة فرق بين مسلمٍ ومسيحي ومُلحِد وما شابه، أو بين بعثي وشيوعي وقومي سوري وليبرالي وغيرهم، فالكل مواطنون، والكل يتمتع بحقوق متساوية، وتُحترَم حقوقه بدرجة كافية.
هنا لن يشعر أحد بأنه غريب، أو أنه مواطن من الدرجة الثانية أو أدنى من ذلك، وسيشعر الجميع بأنهم في وطنهم الإنساني الحقيقي، وهذا لن يمنع الأرمني من أن يعتبر أرمينيا وطنه الآخر بنفس الوقت، ولا الكردي من أن يعتبر كردستان بدوره وطنه الآخر، وهما في هذا لن يختلفا عن السوري المواطن في أستراليا أو كندا أو فرنسا أو سواها من الدول العصرية، الذي ليس لديه أية إشكالية، أو تناقض بين وطنيته السورية ووطنيته في وطنه الذي يستوطنه ويعيش فيه من هذه الدول، وما يماثلها من الدول الحديثة.
بهذا الشكل نكون قد أعدنا فعلياً تأسيس "الوطن السوري" على أُسسٍ عقلانية حديثة، بحيث لا تكون هوية هذا الوطن وجنسيته إلا "سوريَّة" بالمفهوم الوطني الحديث، وليس بالمفهوم القومي التقليدي، وهذا يقتضي الفصل التام بين الدولة والدين والدولة والقومية، بحيث لا يتضمن دستور الدولة، أو قوانينها أية فقرات أو إشارات دينية أو قومية، فيما تضمن الدولة الحقوق الدينية والقومية لجميع المواطنين بشكلٍ متساوٍ بصفتها حقوقاً شخصية تندرج في إطار حقوق الإنسان.
عندما يشعر أي إنسان بأنه في وطنه الحقيقي، فهو سيعمل بكل قواه على صونه وحمايته والدفاع عنه، ولن يسعى إلى تقسيمه كما حصل في السودان، الذي ما كان جنوبييه ليسعون إلى تجزئته لو أنهم كانوا يلمسون فعلياً أنه وطنهم الحقيقي.
بالنسبة للإنسان العصري، الذي يحيا في دولة وطنية حقيقية حديثة، تصبح المواطنة واحترام حقوق الإنسان هي الأساس الذي تقوم عليه وطنية هذا الإنسان وتربطه بـ"الدولة الوطن".
أما في حال وجود مَساعٍ انفصالية، فهذا يعود إلى الأسباب التالية:
إما أنّ الدولة فاشلة ولا تشعر الانفصاليين بأنهم في وطنهم الحقيقي، ولكنها تشعرهم بالغبن والاضطهاد.
أو أنّ الانفصاليين ما يزالون في مستوى متدنٍّ من التطور الاجتماعي، وما تزال الهوية الغوغائية هي التي تتحكم بهم.
أو أنّ كلا العاملين السابقين يعملان معاً.
وفي حالة دولة ديمقراطية حديثة، تتلاشى العصبية الغوغائية بقدر يتناسب مع التطور الاجتماعي الديمقراطي، وعند الوصول إلى درجة راسخة من هذا التطور، لا يبقى من العصبيات الدنيا إلا بعض الاستثناءات، التي لا تؤثر على سلامة واستقرار المجتمع والدولة الديمقراطيَّين، وعندها تصبح كل أشكال الاختلاف روافد تعددية تغني ثقافة المجتمع وتطوِّرها، بدلاً من أن تكون عوامل خطورة، وتهديد كما هو الحال في النُّظُم الديكتاتورية، ومجتمعات الثقافة الأحادية المغلقة.