info@suwar-magazine.org

"سوريا الأسد" وطَوْر الفَنَاء

"سوريا الأسد" وطَوْر الفَنَاء
Whatsapp
Facebook Share

 

 

من المعروف للمُهْتَمِّين أو الدارِسين لفلسفة التاريخ عند ابن خلدون، أنّ الدولة تتأسَّس برأيه على العصبيّة القبليّة، وأنها تمرُّ بأطوار ضرورية وحَتميّة، فبعد التأسيس وحيازة المُلك، يأتي طور الازدهار والمجد، ثم طور الهرَم والفناء. وقد أبدع ابن خلدون في وصف أطوار الدولة الثلاثة، والتغيرات التي تحصل في كل مرحله من مراحلها.

 

كما من المعروف أيضاً أن ابن خلدون لم ينشئ فلسفته التاريخية من تنظيرات وتأملات، بل يعدّ من المؤسسين لهذا العلم "علم التاريخ"، من خلال ربط الأسباب بالنتائج، قياساً بالعلوم الطبيعية، وذلك بعد ملاحظاته ودراساته للدوَل التي قامت في عصره واندثرت.

 

عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون (1332 - 1406م) المشهور "بمقدمته" عاش حياته، وأنتج فلسفته للتاريخ قبل ما يقارب السبعمائة عام، لكنه رغم هذا الزمن البعيد مازال شاهداً ومعاصراً، ومازالت فلسفته صالحة لقراءة الواقع السياسي لكثير من الدول، وإن كانت تحت مسميات مختلفة سواء إمارات أو ممالك أو جمهوريات رئاسية.

 

لا بد من التأكيد أولاً أن المفهوم التاريخي للدولة كان مرتبط بالعصبية القبليّة/ العائلة، المؤسِّسة للمُلك، ولا علاقة له بالمعنى الحديث لمفهوم "دولة المواطنة" التي لم تصل إليه مجتمعاتنا بعد، كأن نقول: الدولة الأموية، أو العباسية، أو الأيوبية أو الشهابية...الخ.

 

دعونا نلقي القليل من الضوء على شرحه لطور الفناء، وانهيار الدولة، والتغيّرات التي تصيبها في هذا الطور الأخير. يصف ابن خلدون حال الدولة قبل سقوطها بالتالي: "تلجأ الأسرة الحاكمة إلى القوى الأجنبية للدفاع عن امتيازات عمرانها ورفاهيتها، ينتشر في الدولة البذخ والترف، وفساد الأخلاق والطِّباع، ينقلب التناصر إلى تنافر، والتعاضد إلى تخاذل، والكفاح المشتَرَك من أجل المصلحة المشتركة إلى نزاع وصراع من أجل مكاسب شخصيّة، ومصالح خاصة، فيظهر الظلم إلى جانب الترَف، وهما مظهران من مظاهر خراب العمران وسقوط الدولة". كما يرى ابن خلدون أن "الحضارة تحمل في طياتها بذور الفساد، فتهرم الدولة وتسقط، وتفسح المجال لقيام دولة جديدة تمر بالمراحل نفسها". وأن العصبيّة تحفر قبرها بيدها عندما تسعى للمُلْك وللسلطة، ولذلك فإن الانهيار حتمي لأن الأساس الذي تبنى عليه الدولة هو ما سيقضي عليها أي العصبيَّة.

 

من خلال قراءةٍ معاصرة لما سبق، نستطيع توضيح ثلاث نقاط أساسية:

 

الأولى: إن منطق ابن خلدون وحتميته التاريخية تظهر واضحة جليَّة في نموذج "سوريا الأسد"، وكل المؤشرات تدل على أنها ووفقاً لفلسفة ابن خلدون في طور الانهيار. فالاستعانة بالقوى الأجنبية، روسيا، إيران، حزب الله، بدأت منذ أن تهددت سلطة العائلة الحاكمة، وبدأ معها عهد التنازلات منذ تلك الفترة، ولم تنتهِ بعد، حتى أصبح الرئيس ضعيفاً إلى درجة مخزية أمام من استعان بهم لتثبيت سلطته. ولا حاجة إلى التفصيل في قضايا انتشار الفساد، والفقر والانهيار الاقتصادي، والظلم والصراعات الداخلية، وتضارب المصالح داخل العائلة الحاكمة، وخروجها للعلن. وقضية رامي مخلوف الواجهة الاقتصادية للعائلة الحاكمة، تعدّ توصيفاً مهماً للانشقاقات الخطيرة ضمن هيكليّة السلطة وأذرعها الاقتصاديّة، ويوضح حالة التشظِّي التي أصبحت عليها.

 

إن سوريا ووفقاً لكثير من الدراسات تعدّ دولة هشَّة وضعيفة بالمعنى السياسي والاجتماعي والمؤسِّساتي منذ استلام الأسد الأب للسلطة بانقلاب عسكري، وتكريسه سلطة حكم الفرد الواحد والأقلية الطائفية.

 

اقرأ أيضاً:

 

تأمُّلات في الحرية والسُّلطة والمواطَنَة

 

 وهي اليوم بعد خمسين عاماً في عهد الأسد الوريث للجمهورية، وقياساً بكل المعايير السياسية والاقتصادية والاجتماعية، دولة فاشلة. ذلك أن غياب شرعية ومصداقية نظام الحكم، وفقدان السيطرة على كثير من المناطق، وانتشار الميلشيات، وارتفاع أعداد المواطنين الذين يعيشون تحت خط الفقر إلى أكثر من 80%، مع غياب تام للطبقة الوسطى، التي تُعتَبر مؤشِّراً لاستقرار الدولة. وفقاً لهذا كله، ولتنوع وتعدُّد الاحتلالات، والتدخُّلات الخارجية أصبحت سوريا تتصدر القائمة العالمية كدولة فاشلة تنهار، وبتسارع كبير.

 

الثانية: إنَّ العبقريّة الخلدونيَّة في قراءة التاريخ ليست هَدْياً دائماً للتاريخ، وليست تفسير أبدياً لسيرورة نشوء الدول وتطورها ثم فنائها، غير أنّ المقدمات التي بُنيَت فلسفة ابن خلدون عليها مازالت قائمة، ولا سبيل لتغيير هذه الحتمية التاريخية سوى بتجاوز الأسباب التي تصنعها. ومن المعروف أن الحتمية تعني أن تكرار الأسباب ذاتها في الظروف ذاتها تؤدي إلى النتائج ذاتها بالضرورة. وبالتالي فإن كل الدول التي يشدّ عصبها الولاء للفرد أو للعشيرة أو للطائفة هي بمثابة دول فاشلة تنتظر الانهيار عاجلاً أم آجلاً كيفما كان شكل نظام الحكم فيها، ومهما أظهرت من مشاريع وطنية أو قومية، فهي لا تلبث أن تتفكَّك مخلِّفة كوارث إنسانية واجتماعية واقتصادية لا حصر لها.

 

الثالثة: ليس مستغرَباً بعد هذا أن يكون انهيار النظام الحاكم في سوريا مترافقاً مع انهيار كامل للدولة ولمؤسساتها، وللمجتمع ككلّ، طالما أن العائلة الحاكمة تحتكر كل إمكانات الدولة ومقدراتها، وبالتالي فإن سقوط النظام الحاكم مرتبط بسقوط الدولة، مثلما أن سقوط الدولة بهذه الحالة مرهون بسقوط السلطة الحاكمة المستلِبة للدولة. إن أقرب مثال تشخيصي لفهم طبيعة دولة "سوريا الأسد" وما يشبهها من أنظمة هي نموذج الهرم المقلوب، حيث ترتكز الدولة، وكل مؤسساتها وبنيتها الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والأمنية على شخص واحد هو الرئيس، الشيء الذي يقضي على كل إمكانية للتغيير أو للتنازل السلمي عن السلطة. وفي هذه الحالة سيكون خيار المقاومة والتمسّك بالسلطة حتى النهاية، مع ما تجلبه هذه المقاومة من خراب ودمار واستنزاف للمقدَّرات، هو الخيار الوحيد الذي تستطيع هذه الأنظمة والسلطات الحاكمة أن تفعله.

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard