تأمُّلات في الحرية والسُّلطة والمواطَنَة
تبيَّنَ لنا، بالخبرة العملية، أن الحرية ليست نقيض العبودية أو التبعية، كما يقول القاموس، (راجع/ي، لسان العرب). فالترجمة الاجتماعية – السياسية والأخلاقية للعبودية هي الرعوية (من الرعاية والرعية)، التي وسمت جميع الأنظمة غير الديمقراطية، على مر التاريخ؛ ومن ثم، تكون المواطنة المتساوية في النظم الديمقراطية الحديثة هي النقيض الجدلي للعبودية أو التبعية، وتكون الحرية هي مرجع الحكم في الأنظمة الاجتماعية والسياسية، لها أو عليها.
يبدو أن التعارض التاريخي المقيم في حياة البشر، والذي يخترق جميع مجالات الوجود الاجتماعي، وتتعين بدلالاته الأفكار والمعارف والرؤى والعقائد المختلفة والمتخالفة، هو التعارض بين الحرية والسلطة، باعتباره شكلاً من أشكال التعارض الجدلي، (الديالكتي)، بين الماهية والوجود؛ إذ الحرية هي ماهية الإنسان وجوهره، هي قوام إنسانيته ونصابها وعمادها. والسلطة هي شكل من أشكال وجوده، بل لعل السلطة السياسية (سلطة القانون) أعلى أشكال وجوده.
وفق هذا التعارض الجدلي، إذا فُهم فهماً صحيحاً، يمكن القول: إن السلطة هي شكل من أشكال تعيُّن الحرية في العالم وفي التاريخ. لإيضاح هذه الفكرة ندعو إلى تلمس تعيُّنات الحرية أو تجلياتها، في النظم الاستبدادية والتسلطية، فنفترض وجود نموذجين من نماذج الحرية: أولهما حرية كثيفة، في مركز النظام، هي حرية الحاكم وبطانته، بل هي حرية مطلقة لشخص واحد، ليس مسؤولاً أمام أحد، فالمسؤولية قرينة الحرية، وحرية مقيدة لعدد من الأشخاص ذوي امتيازات تقابل ولائهم للسلطان. والشكل الثاني هو حرية هشة مبثوثة في نسيج النظام، على هامش نقاط القوة، ومركَّزة في هوامشه القصوى، وفي الحيِّزات التي لا تصل إليها السلطة المركزية، أو لا يكون لها سوى حضور ضعيف. (بهذا، يمكن استعارة مفهوم الإنتروبيا من الفيزياء). فمن البديهي أن يتوقف استقرار النظام، واستمراره على كثافة المركز وهشاشة الهامش.
ولما كانت السلطة ضرورية، لتنظيم الاجتماع البشري فإن علاقة الحرية بالسلطة تصير علاقة الحرية بالضرورة. ويصير تعارض الحرية والسلطة أحد أشكال التعارض الجدلي بين الطبيعي والاجتماعي، بين الوجود المادي أو الفيزيقي وبين أشكاله الاجتماعية - الاقتصادية والسياسية والثقافية والأخلاقية. وهذا من التعارضات التي تزداد تعقيداً كلما تقدمت الحياة الإنسانية، وارتقت على سلم الحضارة، ثم على سلم المدنية، واغتنت بخيراتهما.
وإذا ما ذهبنا مع ميشيل فوكو إلى أن السلطة، بوجه عام، والسلطة السياسية، بوجه خاص، علاقات قوة، نقاطها، التي يسميها "ميكروفيزياء السلطة"، مبثوثةٌ في الجسد الاجتماعي، تكون نقاط الحرية أو ميكروفيزياء الحرية مبثوثة هي الأخرى في الجسد الاجتماعي نفسه محمولة على تناقض السلطة السياسية ذاتها بين عموميتها الصورية وخصوصيتها الواقعية، حتى في النظم الديمقراطية، ومحمولة قبل ذلك وبعده على العلاقة التناقضية بين السلطة، وبين مصادرها الاجتماعية – الاقتصادية والمعرفية والثقافية والأخلاقية، وهو التناقض الذي يعبِّر عن مدى حيوية المجتمع المعني وعن إمكانات نموه، والذي يؤكد حقيقة العلاقة العكسية بين السلطة والحرية: كلما اتسع نطاق السلطة يضيق نطاق الحرية.
إن اعتبار السلطة، بوجه عام، والسلطة السياسية بوجه خاص، ضرورة تاريخية، يمنح أولوية منطقية لمناقشة التعارض بين الحرية والضرورة. فقد درج اليساريون على تعريف الحرية بأنها "وعي الضرورة"، وهو تعريف قاصر، يحصر الحرية في "الوعي"، والوعي يختلف من شخص إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى، ومن مجتمع إلى آخر؛ لأن الوعي بالتعريف هو الوجود مُدرَكاً، على نحو من الأنحاء، أو على وجه من الوجوه. فما يقال على "الوعي الاجتماعي" إنما يتعلق بما هو عام ومشترك في مدرَكات الأفراد، ومن الصعب تقدير نسبة المُدرَكات المشتركة إلى المدركات غير المشتركة، ونفترض أنها نسبة ضئيلة، بحكم التفاوت الاجتماعي المركب، المتعدد المستويات، أو بحكم عدم العدالة في توزيع الخيرات المادية والخيرات الاجتماعية والموارد المعرفية والثقافية، وعدم تكافؤ الفرص وتساوي الشروط.
كان هيغل قد قرن الحرية بالملكية، وبيَّن أن الملكية هي شكل تعين الحرية الموضوعية. وشاع بين الباحثين ارتباط السلطة بالملكية أيضاً. وقد ذهب فوكو في اتجاه مختلف إذ رأى أن السلطة هي إستراتيجية أكثر منها ملكية، ولا ترجع آثارها ومفاعيلها إلى تملك ما، بل تعود إلى تدابير وحيل ووسائل وتقنيات وأعمال"[1]. من دون أن ينفي وجود الطبقات وصراع الطبقات.
نعتقد أن فوكو قد عبر بهذا عما كان كارل ماركس قد طرحه باكراً، في كتابه، حول المسألة اليهودية، حين أشار إلى ما سماه الإلغاء السياسي للملكية الخاصة، أو "النفي الإيجابي للملكية الخاصة"، بحيث صار غير المالكين، وهم الأكثرية العظمى، يشرِّعون للمالكين، وفقاً لحق الاقتراع العام، فلم تعد الملكية شرطاً من شروط تولي السلطة والمشاركة في حياة الدولة، لأن الدولة الحديثة لا تقوم على أي افتراض مسبق غير سياسي، أي إنها لا تقوم على افتراضات إثنية أو دينية أو مذهبية أو طبقية أو جنسية .. إلخ. بهذا كان ماركس قد حدد مبدأ الدولة السياسية، الذي احتاج إلى وقت طويل لكي يتحقق، والذي بموجبه تكون السلطة سلطة القانون.
- السلطة، بصفتها علاقات قوة، ذات طبيعة تراتبية، شاقولية.
- وهي، بهذه الصفة، تنطوي على العنف.
- وتنطوي بالضرورة على فكرة الغلبة والقسر، وتقابلها المغلوبية.
- وهي ميالة دوماً إلى التوسع والسيطرة.
يذهب بورديو إلى أن السوسيولوجيا علم لا يُختزل البحث فيه إلى بحث عن سلطة واحدة؛ فالسلطة سلطات كل واحدة منها مرتبطة بالفضاء الذي تُمارَس فيه، فلا يسوغ الحديث عن السلطة إلا في نطاق الشروط الاجتماعية الاقتصادية والسياسية التي تجعلها ممكنة. "لا تحيا السلطة إلا في غفلة عن مسلماتها المخفية وقوانينها المستترة وخلفياتها الصامتة، التي تقوم مقام الضامن لتحقيقها وشرط إمكان معايشتها". على غرار فوكو لا يختزل بورديو السلطة في العنف، بخلاف التصور الماركسي، بل يربطها بالشرعية، ويدعو إلى تعرية أسَّ شرعيتها وتشريح آلياتها حتى يسقط قناعها القدسي. ويرى أنها لا تستوطن في مكان ما أو في مجال بعينه؛ إنها نظام من العلاقات المتشابكة، تؤدي، في نهاية المطاف إلى تشكيل نسيج كثيف وسميك يخترق جميع الأجهزة والمؤسسات والأفعال والعلاقات، إنها كالزئبق لا تستقر على حال.
السلطة الرمزية، بما هي أرقى أشكال السلطات، بصفتها سلطة ناعمة ومقبولة، هي الأفق الذي يمكن أن تتجه إليه السلطة المادية (الخشنة)، أي إن هذه الأخيرة يمكن أن تتخلص من خصائصها العنفية، ومن صورها القدسية في الوقت نفسه، (ثمة علاقة لا تنفصم بين القداسة والعنف)، فتغدو سلطة مقبولة طوعاً ومرغوباً فيها، لما تحمله من معاني الانتظام الحر، والتساوي في الكرامة الإنسانية والجدارة والاستحقاق. أي إن السلطة تُختزَل إلى ديناميات انتظام وانضباط ذاتي، وهذا أفق بعيد جداً على كل حال، ولكنه الأفق، بألف ولام التعريف.
هل تحتاج السلطة العادلة إلى كاريزما؟ إذا كانت الكارزيما مرادفة لرأس المال الرمزي، الذي يتعالق مع جميع أشكال رأس المال، ولا سيما رأس المال المعرفي ورأس المال الثقافي ورأس المال الاجتماعي (الأخلاقي)، فإن الكارزيما، تقترن بالشرعية أو المشروعية.
منذ اشترط ماكيافللي أن يكون الأمير مهيباً، لا محبوباً، اقترنت الكاريزيما بالهيبة، وهذه من الهياب والتهيب، تحيل على الخوف والحذر من "قوة الأسد ومكر الثعب". الكاريزما التي تقتضيها السلطة العادلة هي ما يجعل الشخص محبوباً وموثوقاً به ومأمون الجانب. فإن إضفاء الكاريزمية على أشخاص من أمثال هتلر أو ستالين وأمثالهم في تاريخنا القديم والحديث والمعاصر لهو نوع من الجهل. لا يمكن أن تتفق الكارزمية مع صفات من نوع قاتل وسفاح وطاغية ووغد وكذاب وغدار ... إلى آخر ما يتصف به هؤلاء وأمثالهم، لا يمكن أن يكون شخص معوق ومضطرب ذهنياً ونفسياً ووضيع أخلاقياً، صاحب كاريزما؛ لذلك لا يوالي أحدٌ مثلَ هذا الشخص ولاء خالصاً، سوى "رعاع الريف وحثالة المدن"، وهوؤلاء لا يفعلون ذلك إلا طمعاً وخوفاً. ولعل من يوالونه من غير الرعاع وحثالة المدن يحتقرونه، بقدر ما يحتقرون الأوضاع التي جعلته مثَلَهم الأعلى، وصورتهم الأخلاقية.
كل سلطة ناعمة، أي كل سلطة قوامها عنف رمزي، تتوفر على دلالات، تستطيع فرضها على أنها دلالات شرعية، إنما تخفي وراء هذه "الدلالات الشرعية" علاقات القوة، التي ولَّدتها، فتزيد بذلك على علاقات القوة المخفية قوتها الرمزية الخاصة.
هذا واقع الحال، ولكن كيف يمكن أن تكون السلطة الرمزية أفقاً للسلطة، التي قوامها علاقات قوة؟ نفترض أن هذا الإمكان مرهون بعودة علاقات القوة المؤسِّسة للسلطتين المادية والرمزية، أو الخشنة والناعمة، إلى نوع من علاقة الأب والأم بأولادهما وبناتهما، على اعتبار أن هذه العلاقة المركبة من علاقة طبيعية وعلاقة اجتماعية وإنسانية، هي ذاتها كانت قد تحولت إلى علاقة بطركية بإقصاء شطرها الأنثوي، حتى ليمكن القول إن إقصاء الشطر الأنثوي عن السلطة البطركية هو ما جعل هذه السلطة سلطة عنف مادي ورمزي، في الوقت نفسه. ولما كانت علاقة الأب والأم بأولادهما وبناتهما علاقة مركبة مؤلفة من القوة الطبيعية والمحبة الإنسانية كان استبعاد الشطر الأنثوي، الذي لم يكن ممكنا تعويضه إلا بمزيد من القوة، استبعاداً للمحبة من هذه العلاقة. ومن ثم، إن السلطة المختزلة إلى علاقات قوة هي سلطة الإنسان المبتور، الذي استبعد شطرَه الأنثوي وأمعن في اضطهاده، وسلطة المجتمع المبتور.
على الصعيد السياسي، تتعين الحرية في المواطنة المتساوية، وهذه، أي المواطنة، ليست مجرد عضوية كاملة في المجتمع المدني والدولة السياسية، وما تقتضيه هذه العضوية من حقوق متساوية، وما تعيِّنه من مسؤوليات قانونية وأخلاقية، لا من واجبات، بل هي عملية / عمليات إنتاج الوطن، وإنتاج الوطنية. المواطنة هي سيرورة / سيرورات ابتكار الوطن، يتشارك فيها جميع أفراد المجتمع المعني بوعي أو بغير وعي، فينتجون وطنهم على صورتهم ومثالهم. الوطن هو الإنسان مموضعاً، هنا والآن، وممكناً على الدوام.
لا نستطيع أن نعرِّف شخصاً بأنه نجار أو حداد أو فلاح إذا لم يكن يمارس النجارة أو الحدادة أو الفلاحة، لذلك لا نستطيع أن نعرِّف شخصاً بأنه مواطن إذا كان لا يمارس المواطنة، (الشخص ذكر وأنثى). المواطنة ممارسة؛ أجل، إنها جملة من المسؤوليات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والالتزامات القانونية ملقاة على عاتق شخص حر هو عضو كامل العضوية في المجتمع والدولة، عليه أن ينهض بهذه المسؤوليات، وأن يفي بالالتزامات. وفق هذه الرؤية يمكن تمييز المواطنة النشطة والفعالة من المواطنة الهادئة أو المنفعلة. الفرق بين هذه وتلك هو الفرق بين الفعل والانفعال، وليس فرقاً قيمياً أو معيارياً، بل هو تعبير عن واقع الاختلاف والتفاوت، فالانفعال شرط لازم للفعل، هو الذي يهيئ إمكان الفعل، قل هو فعل بالقوة. ومن ثم إن المواطنة الهادئة هي البيئة التي تنتج الفاعلين والفاعلات، وتهيئ شروط الابتكار والتجديد والإبداع.
[1] - جيل دو لوز، المعرفة والسلطة، مدخل لقراءة فوكو، ترجمة سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، 1987، ص 31.