info@suwar-magazine.org

إشكاليّة المستقبل السّوري في استمرار غياب الرّافعة الوطنيّة

إشكاليّة المستقبل السّوري في استمرار غياب الرّافعة الوطنيّة
Whatsapp
Facebook Share

 

 

من المعروف أنّ الأزمات التي تصيب المجتمعات والدول لها تأثير سلبي كبير على الوضع المعنوي والأخلاقي فيها، والعكس بالعكس، ولذا من الطبيعي أن تتنامى هذه الحالة، وتصبح واضحة للعيان في المجتمع السوري الراهن الذي يعاني منذ أعوام أزمة كارثية لا يبدو حتى الآن أن نهايتها اقتربت على المدى المنظور.

 

هذه الأزمة تظهر آثارها الأخلاقية والمعنوية على صُعُد شتّى، سواء في علاقات وتعاملات الناس بين بعضهم البعض، أو في سلوكيّاتهم في مؤسسات الدولة والقطَّاع العام، أو مواقفهم من المشاكل التي تعاني غالبيتهم منها، أو في نظرتهم الشديدة الاسْتلاب أو التشاؤم إلى مستقبل بلدهم،  وهلمَّ جرى...

 

وهذا ما نرى مفاعيله مثلاً في ازدياد وتيرة الجريمة، وانتشار الاحتكار والغش والجشع، وتنامي التسيّب واللّا مبالاة في القطاع العام، واستمرار السلبية واللامبالاة عند شريحة واسعة تجاه الوضع العام، والأخطر من هذا كله هو الإحساس بالعجز عن تغيير الوضع الكارثي الراهن المقترن بنظرة سوداوية محبَطة إلى المستقبل.

 

وفي تفسير هذه الظواهر يحاول البعض إما عمداً أو جهلاً أن يحيلَها إلى عوامل أخلاقية، وكأنَّ سببها يعود إلى جذورٍ أخلاقية سيئة، يعاني منها بالفطرة عموم السوريين، لكن بما أنه لا يمكن لعاقل متعلم أن يقبل اليوم أن هذه الحالة الأخلاقية المتردية هي نتيجة وساوس من عمل الشياطين الرجيمة تستهدف الشعب السوري، أو نتيجة جينات أخلاقية سيئة يختص بها هذا الشعب، فالتفسير المنطقي البسيط لهذه الحالة يكون عبر ربطها بالظروف والأوضاع الاجتماعية التي يتعرَّض لها الشعب السوري الآن، والتي كان يتعرَّض لها قبل الأزمة، فجذور الأزمة الأخلاقية، وأسبابها واحدة قبل وأثناء الأزمة العامة الراهنة، والمظاهر الأخلاقية المتدنِّية التي تفاقمت اليوم هي الأُخرى تمتدّ إلى ما قبل الأزمة، وهي بدرجة ما لعبت دوراً فاعلاً في نشوء هذه الأزمة.

 

مما لا شك فيه أن الأوضاع المعيشية المتردية يكون لها عادةً انعكاسها السلبي المؤثر على الحالة الأخلاقية في مجتمعها، لكن هذا لا يعني حُكْماً أن الأخلاق والمعنويات تنهار بشكل كامل، وبـنَفْسِ السَّوِيَّة في كل الظروف المعيشية الصعبة، فانعكاس هذه الظروف يختلف بشكل جذري وفقا لاختلاف أسباب هذه الظروف، وللإمكانات الموجودة في المجتمع نفسه خلال هذه الظروف.

 

فمثلاً بعد الحرب العالمية الثانية، ورغم الدمار الكبير، تمكنت كلّ من ألمانيا واليابان والاتحاد السوفييتي من إعادة إعمار ما دمرته الحرب، وتجاوز آثار هذه الحرب، والتقدم إلى مستويات عالميَّة عالية.

 

هذا يعود إلى استمرار وجود روح وطنيّة عالية عند شعوب هذه البلدان.

 

واستمرار هذه الرُّوح ارتبط بعاملين:

  • وجود هذه الروح من الأساس قبل الحرب.
  • وجود دولة وطنيَّة قبل وبعد الحرب.

 

فرغم عنصرية الأنظمة في ألمانيا واليابان، واستبدادية النظام السوفييتي، فهذه الأنظمة كانت تُشعِر شعوبها بشكل عمَليّ بأنها أنظمة تعمل من أجل بلدانها، وليست أنظمة فاسدة تَستعمِل وتَستغِلّ بلدانها في سبيل مصالحها الخاصة، وبذلك توفَّرت لدى هذه الشعوب روافع قومية أو وطنية أو اجتماعية، وإنْ تكن هذه الروافع قد انحرفت كثيراً عن المسار الإنسانيّ الصحيح، ومضت في سبل غير سليمة.

 

اقرأ أيضاً:

 

في العقلانيّة السياسيّة والمشروع الوطنيّ

 

قبل الحرب، في تلك الدول كانت الدولة الوطنية موجودة، وإن كانت دولة قومية متطرفة في كل من ألمانيا واليابان، وشمولية متطرفة بدورها في الاتحاد السوفييتي، ما يعني أن الحالة الوطنية - رغم ما فيها من مثالب- كانت عالية في هذه الدول، ومترافقة بروافع قومية في ألمانيا واليابان وبرافعة اجتماعية في الاتحاد السوفييتي.

 

وبعد الحرب، لم يُصَب الشعبان الألماني والياباني بالإحباط واليأس نتيجة الحرب الكارثية والهزيمة العسكرية اللتين أدت إليهما السياسات القومية المتطرفة، بل امتصّا الصدمة، وتعلَّما من التجربة القاسية، وحافظا على العِزَّة الوطنية، وتحوَّلت إعادة بناء البلاد لديهما إلى حالة من التحدّي الوطني، وإعادة إثبات الوجود وحضور الذات عالمياً، فنجحا في إعادة بناء الدولة وتطويرها، وهذا يعود إلى استمرار الحالة الوطنية عند هذين الشعبين، وإلى وجود القيادتين الوطنيتين الحقيقيتين بعد الحرب، اللتين قادتا الشعبين في عملية إعادة البناء هذه، وحافظتا على الروح الوطنية الموجودة لديهما، وصححتا مسارها.

 

 

أما الاتحاد السوفييتي، فقد اعتبر نفسه منتصراً في حرب وطنية دفاعية عادلة، بقيادة وطنية حقيقية، واعتبرت خسائر الحرب ثمناً مستحقا لهذا النصر الوطني، ورغم فداحة الخسائر وصعوبات المعيشة، فقد غدا هذا النصر نفسه جزءاً كبيراً من حافز إعادة إعمار ما دمَّرتْه الحرب والاستمرار ببناء الدولة المتقدمة.

 

في هذه الدول لم تتحول صعوبات المعيشة إلى عامل مُحبِط يشلّ إرادة الناس، ويمنعهم من العمل في سبيل بلدهم، وسبباً لنمو الفساد فيها، فقد تحمَّل الناس هذه المعاناة المعيشية، وعملوا من أجل أوطانهم، لأنهم كانوا يشعرون بوجود استحقاق وطني حقيقي للعمل الوطني، وجدوى حقيقية من هذا العمل الوطني بوجود قيادة وطنية حقيقية، وهكذا تحول المشروع الوطني لإعادة بناء المجتمع والدولة نفسه إلى رافعة معنوية وطنية مكَّنتْ الشعوب في هذه الدول من النجاح في هذا المشروع نفسه، والفضل في هذا يعود إلى وجود حالة وطنية مسبقة، ودولة وطنية قائدة في مرحلة إعادة الإعمار الْتفَّ الشعب حول قيادتها، وبشعور كبير بالمسؤولية الوطنية والجدوى الوطنية أعاد بناء بلاده.

 

هل هذا ممكن التحقيق في الحالة السورية؟!

 

هذا لا يمكن تكراره في الحالة السورية الراهنة، بسبب فقدان هذه الرافعة الوطنية، وهذا ليس عائداً إلى نقص في الجينات الوطنية عند الشعب السوري بالطبع، لأن مثل هذه الجينات ليس لها وجوداً بيولوجياً، فالحالة الوطنية هي حالة معنوية، وهي والحالة الأخلاقية مسألتان اجتماعيتان مرهونتان بالظروف المجتمعية وسواها من الظروف الواقعية.

 

نكذبُ كثيراً على أنفسنا إن قلنا أنه قبل عام 2011 كانت السوية مرتفعة وطنياً وأخلاقياً عند الشعب السوري وغيره من الشعوب العربية، ووجود هذه السويّة يحدَّد بمدى فاعليتها كواقع قائم، وليس ككمون أو كوجود بالإمكان، وسبب عدم وجود هذه السوية العمَلي عائد بشكل رئيس إلى عدم وجود الدولة الوطنية، فالدولة القائمة سورياً وعربياً، كانت دولة غارقة في الفساد، والوطنية المزعومة فيها لم يكن لها من وجود إلا الوجود المسرحي، وهذا ما أدى إلى انتفاضات الربيع العربي، ومن ثم إلى تعثُّر بعضها، وتحوّل بعضها إلى أزمات مأساوية كحال سوريا واليمن وليبيا.

 

في الحالة السورية، لم تؤدِّ الأزمة الكارثية إلى أي تغيير إيجابي في منظومة الحكم القائمة، التي ما تزال قائمة بكل فسادها واستبدادها.. اللذين ازدادا كمَّاً وكيفاً، وهذا يعني ليس فقط استمرار تدني مستوى الرفع الوطني الذي كان سائداً قبل الأزمة، بل يعني تفاقم هذا التدني بسبب الدمار الذي سبَّبته الأزمة واستمرار وتنامي فساد وقمع المنظومة الحاكمة، والإحباط المرتبط بفشل أي تغيير بنـّاء حتى اليوم.

 

إن الكلام عن أية إعادة إعمار تحت هيمنة المنظومة السائدة، هو استمرار في تسويق الأوهام الوطنية، فهذه المسألة مرتبطة بشكل جذري بإيجاد بديل وطني قيادي حقيقي ليقود الشعب في عملية إعادة إعمار، وتحديث وتطوير الدولة والمجتمع.

 

هذا البديل يمكن أن تشكله منظومة حكم ديمقراطية، عندها يمكن للشعب أن يستعيده روحه الوطنية على مستوى الفعل، وإلا ستبقى هذه الروح في حالة كمون، ووقف تفعيل.

 

بوجود منظومة حاكمة وطنية حقيقية تقود الشعب، يجد الشعب عندها أنّ مشروعه الوطني المتمثل ببناء الدولة الوطنية الحديثة قد أصبح أمراً واقعياً ممكن التحقيق، وليس مجرد حلم أو غاية خيالية، وعندها يتحول هذا المشروع الوطني بحد ذاته إلى رافعة وطنية ترفع الروح المعنوية والأخلاق العامة عند الناس، ويتولد لديهم شعور بناء بجدوى العمل الوطني والسلوك الأخلاقي، وأهميتهما المبدئية والعملية في بناء الدولة المأمولة، رغم كل الصعوبات وقساوة الظروف، أما بوجود منظومة حكم مستبدَّة فاسدة، فعدا عن كل الخذلانات والخيبات التي تصيب الإنسان وما يتولد عنها من ارتكاسات معنوية سلبية، فتنتشر أيضا حالة من الشعور بلاجدوى أي عمل وطني أو سلوك أخلاقي، لأن كل هذا سيضيع في حالة الفساد المستشرية، التي يكرسها وينميها الاستبداد.

 

وهذا يعني أن الشعب السوري في اللحظة الراهنة ما يزال يفتقد إلى العاملين الأساسيين اللذين مكَّنا الألمان واليابانيين والسوفييت من النجاح في إعادة الإعمار والتقدم، وهما توفر الروح الوطنية العالية ومؤسسة الدولة الوطنية القيادية، وكل عامل منهما يرتبط بشكل تفاعلي تكاملي وثيق بالآخر، لكن رغم ذلك، ورغم عدم وجود السوية المعنوية العالية قبل الأزمة، كما كان الحال لدى تلك الشعوب، فالشعب السوري ما يزال لديه الكمون الوطني والأخلاقي الكافي، ولتحويل هذا الكون إلى فعل، لابد من تحقيق مؤسسة دولة وطنية حديثة، وعندها وبقيادتها يصبح مشروع بناء الدولة والمجتمع الحديثين أمراً واقعياً، ويصبح هذا الأمر نفسه هو الرافعة المعنوية اللازمة لإنجاح هذا المشروع، واستعادة المستقبل الضائع، الذي سيزداد ضياعاً ما دامت المنظومة المستبدة الفاسدة الراهنة هي المسيطرة على البلاد والمتحكمة فيها!

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard