في العقلانيّة السياسيّة والمشروع الوطنيّ
قد يبدو ما سيطرح في متن هذه السطور القليلة، على قدر مقالة رأي، صادماً. وربما مجازفةً سياسية! ففي عالم السياسة الحالية، عالم التشنُّج والمشاريع الدولية التي تهدِّد بكارثة عالمية من جهة، ودون الوطنية التي تهدد بهدر كل الثمانية أعوام ونيف التي خلت من جهة أخرى، لكن وتبعاً لأرسطو ([1]): "إن الحياة الخالية من التأمّل، والنظر لحياة لا تليق بالإنسان"، وهذا المسمّى تأمل في الفلسفة المثالية، هو محاولة للتفكّر في معطيات اليوم وقوام إمكاناته السياسية والواقعية المعقلنة ضرورة، والتي لا يمكن إيضاحها تفصيلاً في مقالة كثيفة واحدة، بل ضمن دراسات عدة ومتتالية على الضالعين في هذا الحقل من السوريين طرحها بجرأة وعلنية...
إن حجم التضحيات التي قدمها السوريون في ويلات الحرب الكارثية، والحصار ولعنة التهجير والتغيير الديموغرافي. المعتقلون وملفاتهم الكبيرة والضخمة، وجرائمها الفاضحة الإنسانية، وكم الصبر الذي عاشه السوريين وقد فاق صبر أيوب ويوسف، وأنماط الحروب التي مورست على حلمهم بمشروعهم الوطني، التغول العسكري العالمي بقيادة روسيا البوتينية الباحثة عن مجد عالمي لها على حساب ملايين السوريين، بمقابل مزيد من تغليب المصالح البراغماتية، كفلسفة تاريخية سياسية، يمارسها الأمريكان، وتنازع في المشاريع الإقليمية على وفي سوريا، ويمكن عدّ ما لا يحصى من المؤشرات على حجم الكارثة السورية، ومع هذا تجد لليوم ألاف مؤلفة من الفرضيات في الحل السوري وإمكاناته، وأوهامه معاً:
- حلٌّ دوليّ تتنازعه روسيا بمرجعية سوتشي ([2]) مع الحل الأممي بمرجعية قرار جنيف/1 وأقله القرار 2254/2015([3]).
- حلٌّ عسكري جذري يقوِّض كل مقررات الأمم المتحدة، ويفرض سطوته العسكرية والأمنية.
- وثمّة من يحاول الحصول على أقل المكاسب السياسية الممكنة في خضم المعادلات العالمية الشائنة والمتضاربة حول سوريا، مفاده حلٌّ تفاوضي على لجنة دستورية بضمانة أممية تحاول التغيير الجزئي في بنية النظام، وتمثِّله المعارضات السياسية السورية بكل صنوفها ممثَّلة في وفد الهيئة العليا للتفاوض.
- وثمة من لازال يرفض كل الحلول المطروحة، ويبعث في نفسه حلم التغيير الكلّي، والجذري على مستوى بنية النظام كاملة.... وهذا الحلم والرغبة حقٌ ولكن!
ما لم تنتجه بعد السياسة السورية بمعارضتها وسلطاتها الحاكمة أيضاً، وعلى أقل تقدير، هو إمكانية القراءة العقلانية بشقها الواقعي للمرحلة الحالية، وإن تمكنت من ذلك لم تستطع بعد إقناع الشارع المحلي بصنوفه، أو حتى مصارحته علناً بوثوقية ومنهجية تحليلية متكاملة، وحيث لم يتمكن أحد بعد من شطريها الوصول إلى القول بأن المرحلة الحالية بتناقضاتها الدولية قد استنفدت خياراتها، وأن العقلانية والواقعية السياسية تفترض إعادة مرحلة العمل السياسي على مراحل زمنية تعيد إنتاج المسألة السورية بحلم مشروع الدولة الوطنية بنهايتها لا بمقدمتها، تبدأ أولى مراحلها بترسيخ الحل الأممي على حدوده الممكنة التي يمكن فرضها على الروس بمرجعية ضغط السياسة الدولية، لتليها مرحلة انتقالية تضمن التغييرات الجزئية في بنى النظام الأمنية والعسكرية وفتح إمكانية العمل السياسي والمدني ضمناً، وهذا ما يجب أن يتضمنه الدستور الحالي المزمع صياغته، والتي من الممكن التفصيل به كثيراً.
ثمة مأثرة للعقلانية السياسية التي حاولت وتحاول التأسيس لسياسة بلا وهم، بلا أيديولوجية، بلا انتفاعية صرف، الكلمات الثلاث التي تصر على هزيمة الصيغة الحديثة للمشروع الوطني والثوري معاً، ففي كتابه (الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة) لياسين الحافظ ([4]) يقول: "في المشروع الثوري، مهما بلغ من عقلانية وواقعية، مهما انغرزت جذوره في العالم الاجتماعي، ثمة لحسة أيديولوجيا، أو شيء من حلم، يهدّد في حال تضخمه وحجبه تضاريس الواقع، إلى تحويل الأخير إلى طوباوية مبتورة الجذور عن الواقع العياني. إن العقلانية في العمل الثوري تنطوي على الدوام، على ضرب من توتر وتنابذ بين الأيديولوجي والواقعي، وبالتالي فإن السياسية الثورية إما أن تتحول لتكون عقلانية تامة، أو أن تتحول إلى خيال سيكوزفروني ([5]) تارةً أو لفظة ثورية تارةً أخرى"، وهو ما نحاول إلقاء الضوء عليه فكرياً، وسياسياً في المقدمة والمتن المتاح.
ثمة ضرورة اليوم أن يعلَن إمكانية تأخير المشروع الوطني السوري في تحقيق حلم الدولة الوطنية، ونقطة إسناده في ثورته المكلومة، هذه الضرورة قد لا تلقى كل الرضا عند ملايين المظلومين السوريين، وستجد الكم الهائل من الرفض عند الأيديولوجيين، والحالمين في تحقيق الكل الفكري، والحل السحري في الواقع دفعة واحدة، دون التدقيق في معادلات الواقع وإمكانياته، ومسارات الزمن الحالي ومراحله، وما من عاقل يقول إن أحلام البشر ورغباتها ليست حق، بل هي أصل النمو والتقدم كما العمل والممكن، لكنها اليوم باتت حق مؤجل سياسياً!
مأثرة جمال عبد الناصر التاريخية، على ضرورة نقده كمؤسس للدولة الأمنية التسلطية في المشرق العربي التي نحصد ويلاتها الكارثية اليوم، هي أنه بعد هزيمة 1967 طرح وبكل جرأة استئخار المواجهة مع إسرائيل، ريثما يعاد بناء المجتمع بناء عصرياً يمكنه مواجهة مجتمع عصري كإسرائيل، وإن كانت مقاربة هذه النقطة تحتاج للكثير من الجهد السياسي والفكري للتفنيد والمقاربة، لكن ويلات الحالة السورية بكوارثها العالمية، وتداخل المصالح الدولية القذرة فيها، وفورتها العسكرية وتفوقها البارز في إدارة المسألة السورية المباشرة وغيرها عبر منتجاتها نفسها سواء من طرفي النظام أو المعارضة السورية، كما وافتقاد أية مقومات للحل الممكن السوري الخالص، مثلما كانت في زخم ثورتها حتى أواخر عام 2013، وذلك قبل أن تبرز للسطح موضوعات الإرهاب القاعدي والداعشي، والمشاريع دون الوطنية وتحويل مسار الثورة لمستنقعات محلية تتمثل بمناطق حصار كاملة، مترافقة مع تمدُّد للمشاريع الإقليمية الإيرانية والتركية والخليجية بمقابلها، والتي تُوِّجت بالسطوة العسكرية لروسيا في نموذج متغوِّل للحرب. هذ المعطيات لم تأتِ فقط على إمكانية العمل السياسي الداخلي وفقط؛ بل ظهرت ويلاته عند كل السوريين تهجيراً وقتلاً وويلات..
السوريون وقد ابتلوا بكل صنوف الموت والتأخُّر التاريخي المكثَّف في سياسيهم وآلاف من أحزابها، ومنصاتها ومحاورها وكل يحاول أن يقول إنه "حلم الشعب"! والشعب كان في كارثةٍ أخرى ومسارٍ آخر، وهذا ما يفقد أي مشروع وطني حاضر اليوم معظم مقوِّمات حضوره الحالية، ويستلزم البحث بين طياتها عن مقدمات أخرى ممكنة وواجبة.
إن "التمييز بين الفكر كأداة وبين الفكر والمضمون هو ذاته التمييز بين العقل والمعقولات" حسب محمد عابد الجابري ([6])، هو ضرورة سياسية اليوم تلقي بقتامة وجودها على المشهد السياسي، وبالضرورة على الوطنية السورية أن تختار بين:
- إمكانية تأجيل تحقق مشروعها الوطني وفق خطة مدروسة وممرحلة زمنياً تسير بين كم المتناقضات المشار لها أعلاه.
- أو العودة لفكرها الماضوي الحنينيّ كل في مضماره سواء في قبول نموذج أدلجة السلطة المتغولة من جهة، وحلم الأيديولوجيات الأخرى في قدرتها على التغيير الكلي جزافاً في أخرى، وذلك في أصعب لحظاتنا الوطنية اليوم وربما غداً.
هل ثمة خيار آخر؟ سؤال بطعم العلقم والمرارة، ما يستوجب العلنية والعقلانية والبحث عن الممكن الفعلي في السياسة اليوم مع التمسك بتقليل نتائج الهزيمة العسكرية لكلية المجتمع السوري، الذي يحاول بشعبه الجبار أن يغالبها، لكن ثمة ما يجب أن يقال في عالمي السياسة والفكر في حاضرهم اليوم، فمن الممكن إعادة ادراجه في المستقبل القريب إذا كنا على قدر المسؤولية التاريخية من ثورة بحجم الثورة السورية وتضحياتها.
[1] - أرسطو، "دعوة للفلسفة"، كتاب مفقود لأرسطو قدمه للعربية مع الشرح والتعليق عبد الغفار مكاوي، دار التنوير للطباعة و النشر والتوزيع، بيروت، 2006.
-[2] https://ar.wikipedia.org/wiki/مؤتمر_سوتشي
[3] -https://undocs.org/ar/S/RES/2254(2015) الأمم المتحدة، مجلس الأمن.
[4]- ياسين الحافظ، "الهزيمة والأيديولوجية المهزومة"، دار الطليعة، بيروت، 1987.
[5]- السكيزوفرينيا (حسبما وردت بالمصدر) Schizophrenia وأيضا (الشيزوفرينيا) هو اضطراب نفسي يتسم بسلوك اجتماعي غير طبيعي وفشل في تمييز الواقع. تشمل الأعراض الشائعة الوهم واضطراب الفكر والهلوسة السمعية بالإضافة إلى انخفاض المشاركة الاجتماعية والتعبير العاطفي وانعدام الإرادة. وتمت استعارة المصطلح للتعبير هنا عن وصف حالة الفصام الفكري النظري عن الواقع السياسي بمعطياته.
[6]- محمد عابد الجابري، "قضايا في الفكر المعاصر"، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 1، 1997.