info@suwar-magazine.org

من يومياتِ حكومةٍ فاجرة

من يومياتِ حكومةٍ فاجرة
Whatsapp
Facebook Share

 

 

ما سيتمُّ الحديثُ عنه في هذا المقال هو قصص حقيقية تماماً لأشخاصٍ يعرفهم الكاتب حقَّ المعرفة، وهذه القصص لا تشكل بتاتاً قصصاً خاصّة، ولكنَّها عيّناتٍ نموذجيّة من واقعِ الحياة اليوميّة، التي يعاني فيها المواطنُ السّوريّ أشدّ المعاناة، ليسَ فقط بسبب آثار الأزمة الكارثيّةِ التي أصبحتْ في عامها العاشِر، بلْ وبسببِ الأسلوب الكارثيّ الذي تتعامل فيه الحكومة السوريّة مع من يُفتَرضُ أنهمْ مواطنيها، فتعامِلهم بكل عسفٍ واستهتار ودون أيّةِ مبالاة بمعاناتهم وحقوقهم، وكأنّهم ليسوا مواطنين لديها بلْ أسرى!

 

وما سنتحدث عنه من حالات، هي حالات حدثتْ في الآونة الأخيرة، وهي بالطبع غيضٌ من فيض، وهي حالاتٌ نموذجيّةٌ تنطبق على أعدادٍ لا تحصى من المواطنين.

 

الحالةُ الأولى: مهندسٌ موظّفٌ في القطّاع العام منذ أكثر من ثلاثة عقود، ويحملُ عدّة شهاداتٍ جامعيّةً ودراساتٍ عليا، ولأنَّه نزيه وغير مدعوم، لم يترقَّ قطعاً في الهرم الوظيفيّ، ولم يستفدْ بتاتاً من أيّة (امتيازاتٍ) أو بعثاتٍ -أي طلعات- داخليّة أو خارجيّة أو ما شابَه، فهذه وما سبقها كما يعلم الجميع، حكرٌ على المدعومين والانتهازيين مهما كانوا فاسدين في كفاءاتهم وأخلاقهم المهنيّة.

 

هذا المهندس بعد سنواتٍ من الشنططة والبهدلة في بيوت الإيجار متدنيّة المواصفات، اشترى هو وزوجته الموظفة بدورها بيتاً، ولكيْ يسددا ثمنه اضطرا لأخذ عدّة قروضٍ قصيرة وطويلة الأجل من المصارف العامّة، من بينها ما يسمى بالقرض "العامر"وهو قرض لتملُّك عقاراتٍ سكنيةٍ أو تجاريةٍ بتكلفةٍ مخفضةٍ اعتباراً من 5 بالمئة على رصيدٍ أطلقه المصرف التجاريّ السوريّ في عام 2011،  وضمانةُ القرض هي العقار نفسُه.

 

استلم الموظّفُ القرضَ في بداية عام 2012، ومبلغه كان 700 ألف ل. س، ومدته 20 عاماً، ولأنّنا لسنا في دولةِ قانون، وبعدَ توقيعِ عقدِ الاقتراضِ، وقبلَ تسليم القرضِ بأيام فقط قام المصرِف من طرف واحد برفع قيمة الفائدة من 7% إلى 11%، وهذا الإجراء غير القانونيّ بعد توقيع عقدِ الاقتراض تسّبب بزيادة قدرها 400 ألف ليرة على فائدة القرض، التي بلغتْ في المجملِ أكثرَ من مليون ليرة، أي أنَّ مبلغَ القرض مع فوائده تضاعف بنسبة 250%! وكانَ عليه القبولُ بهذا الإجحاف كي يجد بيتاً يأويه، وهذا منْ أبسط حقوقِ الإنسان. وكانَ على صاحبنا هذا أنْ يدفعَ قِسطَاً شهريّاً يتجاوز الأربعين بالمئة من راتبه حينها، وقد التزم بالدفع، ولكنْ بسببِ انهيار قيمةِ الليرة، وقيمةِ الراتب معها، تعثّر في تسديدِ بعضِ الأقساط دون أنْ يتجاوز عددَ الأقساط المسموح به، وبقي على هذه الحالة إلى أنْ  أصدر "مجلس النّقد والتّسليف" في مصرف سوريا المركزيّ في أواخرِ آذارَ من العام الحاليّ قرارًا سمح بموجبه تأجيلَ أقساطِ القرضِ المستحقّة على العملاء لمدّة ثلاثةِ أشهرٍ في محاولةٍ لتقديم نوعٍ من التّسهيل أثناء الحجر الصّحي، وتمّ الإعلان عن ذلك على شاشة التلفزيون الرسميّ.

 

 

 بعد هذا القرارِ توقّف صاحبنا عن التسديد ظنّاً منه أنّ القرار سينفذ، إلى أنْ فوجِئ باتصالٍ منَ المسؤولِ عن قسم القروض في المصرف ينْذره بأنّه يجبُ عليه أن يسدّد ثلاثة أقساطٍ مستعجلة خلال ساعتين فقط، وإلا سيحوّل ملفّه إلى المحكمة بذريعة عدمِ التّسديد، وعند مراجعة المصرف أعلموه أن المصْرف التّجاري وسواه من المصارف لمْ يلتزموا بقرار "مجلس النّقد والتسليف" بذريعة أنّهم لم يتمكنوا من تعديل البرامج الإلكترونية للقروض.

 

 وليس هذا وحسب... بل وسخروا منه أيضا ً لأنه "صدّق التلفزيون الرسميّ"، وهم رغم صفاقتهم هذه محقون في ذلك، لأنّه لا يٌفترض بعاقلٍ في سوريا أن يصدّق الإعلام الرسميّ أو يثق بما يصدر عن الجّهات (المسؤولة) من قراراتٍ إلّا إذا كانت تضرّ بمصلحة المواطن.

 

هكذا حُوّل الملفّ إلى المحكمة، ورغم أنّه خلال الشّهرين التاليين قام صاحِبُنا، الذي يبلغُ راتبه أقلَّ من 60 ألف ليرة، ويحتاج إلى عشرة أضعافها على الأقلّ لتأمين الحدّ الأدنى من ضرورات الحياة، وفقَ تقديرات الموالين أنفسهم وليس المعارضين، -قام- بشق الأنفس، وهو الذي يعاني من أكثرَ من مشكلةٍ صحيةٍ ملحّةٍ، بتسديد كاملِ الأقساطِ وغراماتها، إلا أنَّ المصرفَ رفض التّراجع عن إحالةِ الملفِ إلى المحكمة، وأخبره أنّه أصبح مُلزماً بتسديد كاملِ المبلغ المتبقي من القرض والبالغ 580 ألف، وإلا سيستولي المصرف على المنزل، وأنَّ أيَّ تأخرٍ في التّسديد سيخضَع لغرامةٍ إضافيةٍ قدرها 15% في السّنة، أي حوالي 90 ألفاً في السّنة توزّع بشكلٍ ربعيّ!

 

وما يثير أشدّ الاستهجان والاشمئزاز أيضاً أنّه بعد دفع أقساطٍ شهريّة قيمة كل منها 7300 ل.س. لمدة ثمانيّة سنواتٍ ونصف من أصلِ عشرين، كان المبلغ المتبقي من القرض هو 580 ألف من أصل 700 ألف، فأين ذهبتْ وكيفَ حُسبت كل تلك الأقساط المدفوعة؟!

 

والخلاصة هي أنّ صاحبنا هذا، بعد خدمة أكثر من ثلاثين سنة في الدّولة، والذي يحصل على أقلّ من عشر الراتب الضروري لحدّ الكفاف، أصبح مطالباً بأن يدفع مبلغاً يعادل عشرة أضعافِ راتبه تقريباً، وإلا سيخسر بيته مع دفع غرامةٍ سنويةٍ تعادل مرّة ونصف من راتبه! مع أنّ مجموع ما دفعه حتى الآن يتجاوزُ القرض الذي استلمه كلّه!!!

 

فتصوروا.. أفما كانَ الأرحم لصاحبنا هذا أن يقترض من المرابي شايلوك، مصاص الدماء في مسرحيّة تاجر البندقية، بدلاً من أن يقترض من "حكومته" هذه!!!

 

القصّة الثانية، بطلها نفس الشخص أيضاً، الذي أصبح ملزماً بشراء حتى الماء لتأمين حاجاته اليوميّة، وعند مراجعة دائرة المياه في مدينته، أجابه المدير بأنّ مؤسسة المياه تعاني من نقصٍ حاد في المياه، وحارته ككلّ حارات المدينة تُضخّ إليها المياه مرةً واحدةً في الأسبوع ولمدّة ساعتين فقط، وعندما اعترض صاحبنا بأنّ هذا الضخّ لن يغطي حاجة يوم واحد، أجابه المدير باستعلاء "يسواك ما يسوا غيرك، والمدينة كلها عم تشتري ماء من عشر سنوات"، وعندما واجه هذا المدير بحقيقة أن كلّ ما يتمّ شراؤه من مياه وهو يكفي حاجة المدينة، يتم شراؤه من نفس آبار المؤسّسة، وليس من آبار القطّاع الخاص غير الموجودة أصلاً، فكيف يتوفّر الماء الكافي للبيع عند المؤسسة، ولا يتوفر للتوزيع النّظاميّ على المواطنين، حذّره المدير بأحد اللهجات من مغبّة مثل هذا الكلام.

 

علِم صاحبنا من الكواليس بأن هناك اتفاقاً ضمنياً بين مسؤولي المدينة وأصحاب صهاريج المياه لبيع الماء، وبعد التداول في الأمر مع أهل حارته، قرّر الرجال الذهاب بمظاهرة مطلبيّة إلى دائرة المياه، لكن في الموعد المحدّد حضر غيره ثلاثة أشخاص فقط، لكنّه لم يعتب على أحد، فمن لم يحضر كان خائفاً إنْ هو تظاهر -حتى في مظاهرة مطلبيّة- من أن يُعتقل ويُحوّل إلى (المحكمة) بتهمة مساندة الإرهاب كما سبق أنْ حدث مع بعض متظاهري السويداء.

 

والآن باتَ صاحبنا مضطراً لشراء برميل المياه بـ 300 ليرة، ما يعني أنّه صار عليه وسطياً أن يدفع تقريباً سدس راتبه المزري سلفاً، لتأمين الحدِّ الأدنى من حاجته من المياه.

 

اقرأ أيضاً:

 

كيف تتحايل الأُسر السّوريّة على العيش مع أجورٍ مُتآكلة؟

 

القصّة الثالثة بطلها أيضاً موظفٌ مشابه لصاحبنا الأول، ولأنّه (يتصرّف مثل أبناء الحرام) فيستخدم الكهرباء للطبخ وللتدفئة، لأن "الحكومة المقاومة الممانعة" لا تستطيع أن تؤمنّ له أقل ما يلزمُ من الغاز والمازوت، فوجئ صديقنا هذا بأن فاتورته الكهربائيّة عن دورة مطلع العام تبلغ "أكثر من سبعين ألف ليرة" وهذا أكثر من راتبه بكثير بالطّبع!

 

هذا مع العلم أن نسبة مدّة التقنين الرسميّة كانت 50% في تلك الفترة، أمّا عن الانقطاعات التي تحدث خلال فترة تواجد الكهرباء، فحدّث ولا حرج، ما يجعل مدة توفر الكهرباء الفعليّة ليس 50%، ولا حتى 25%، وبمواصفاتٍ سيئةٍ كثيراً ما تتسبب بعطب الأجهزة الكهربائيّة.

 

 

إذاً، صاحبنا هذا عليه الآن أنْ يدفع فاتورة كهرباء عن شهرين شتويّين تبلغ سبعين ألفاً، وإن لم يدفع لن تـُقطع عنه الكهرباء فقط، بل سيُصادَر "عدّاده" أيضاً!

 

القصّة الرابعة بطلها أيضاً موظف، وهو أقدم من سابقيه في العمر الوظيفيّ، ولأنه ليس من "المدعومين" أو "الدفـّيعين"، رُفض طلبه التقاعديّ بعد تجاوز خدمته الثلاثين عاماً عدّة مرّات، وبعد أن يئس من التقاعد بشكل قانونيّ، ترك العمل من تلقاء نفسه، فتمت محاكمته بـ "جُرم ترك العمل"، وحُكم عليه بدفع غرامةٍ تبلغ مئات الألوفِ من اللّيرات وبالسجن لعدة سنوات!

 

ما تقدّم من قصص، وهو ينطبق كلياً أو بمعظمه على أغلبية الموظفين السوريين، يوصلنا إلى المشهد الإجمالي التالي:

 

إن كنت موظفاً سورياً، تعطيك حكومتك راتباً تحتاج إلى عشرة أضعافه كحدّ أدنى لتأمين حاجاتك الأساسيّة، وعدا عن ذلك فهي لا توفّر لك أدنى حدٍ لازم من الماء والغاز والمازوت، بل وحتى الخبز، وعليك مما تبقى من "عِشر الراتب أو الأقلّ" الذي تحصل عليه، أن تدفع أثماناً غاليةً للماء والمحروقات، ودعك من الدواء إن مرضت، واللباس والأثاث، ومصاريف تعليم أبنائك إن كنت متزوجاً، ولا تفكّر بالزواج وتأمين المنزل إن  كنت عازباً فهذا أصبح من الخيال.

 

عليك رغماً عنك أن تبقى في وظيفتك الأقل من مزرية ومخزية مادياً ومعنوياً، وإن لم تفعل فالغرامةُ الباهظةُ (قياساً على راتبك) والسجن بانتظارك.

 

من راتبك (التافه) عليك تسديد فواتيرك كلها، فهذا (حق الدّولة المقدّس) الذي يجب عدم المساس به، وعليك أن تدفع للدّولة فواتير الكهرباء الباهظة (بسبب استخدامك غير الشرعي للكهرباء بدلاً للغاز والمازوت)، وعليك أن تدفع لها أقساط بيتك، وأن تدفع فواتير المياه رغم أنّك تشتري المياه بنفسك وبتكلفةٍ ثقيلةٍ على دخلك المنهار، وإن لم تفعل، فستصادر حكومتك بيتك، وتقطع عنك الكهرباء والمياه إن لم تكن مقطوعة.

 

 لا أحدَ من مسؤوليك يبالي بك إن أصبحت في الشّارع، أو أصبحت بدون كهرباء أو ماء، فهم أصلاً لا يبالون بك عندما لا يكفي راتبك لعُشر الحدّ الأدنى من حاجاتك، وهم لا يبالون بك عندما تكون بلا دواءٍ أو بلا لباسٍ مناسبٍ أو بلا محروقات، وهلمَّ  جراً... وهذا ليس غريباً عليهم، فهم لا يبالون بالكارثة الكليّة التي أوصلوا إليها البلاد ككلّ حفاظاً على مواقعهم ومصالحهم الخبيثة.

 

والمهمّ أيها الموظّف التّعيس أن تلتزم بوظيفتك بأقل من عُشر راتب، وأن تدفَع ما يفرض عليك دفعه، من أين؟ حكومتك غير معنيّةٍ قطعاً بهذه المسألة (التافهة)، وما يعنيها هو أنّه عليك أن تدفع، حتى لو اضطررت لأن تسرق أو تشحذ أو حتى تبيع نفسك، وستدفع! بـ (الصرماية) ستدفع!

 

وعليك بعد كل هذا أن تطبّل وتزمّر وتتغنى بالبطولات والإنجازات (الوطنيّة)، وإلّا ستُطرد من وظيفتك، هذا إن لم يُحكم عليك بجريمة (دعم الإرهاب)!

 

هذه الحالة ُلا تنطبق فقط على الموظَّفين، فهي تنطبق مثلهم على كلّ الذين يسمون بذوي الدّخل المحدود، الذي أصبح فعلياً (الدّخل المشؤوم)، وهؤلاء يمثّلون الأكثرية السّاحقة من الشعب السّوريّ!

 

وبعد...

 

حكومة تتصرف بهذا الشّكل، ماذا يمكنُ أن نسميها؟

 

هناك مثلاً تسميات مثل "الحكومة الفاشلة" و"الفاسدة" و"الظّالمة" وغيرها...

 

ولكن حكومة لا تعطيك حقك، وتمنعك بالقوة من أن تبحث عن حقك عند سواها (أي لا ترحمك ولا تدع غيرها يرحمك)، ثم تأخذ منك (بالصرماية) أيضاً ما تزعم أنّه حقها رغم أنّها ترى كلّ بؤسك ومعاناتك، مع أنّ كلّ ما تقدم من صفاتٍ وسواها من الصفات المخزية ينطبق عليها، فربما أنسب ما يجب أن توصف به هو "الحكومة الفاجرة"!

 

مع ذلك، فالمشكلة الرئيسية هي ليست في وجود مثل هذه الحكومة، فهذه الحكومة هي مجرد أداة تنفيذيّة تمثّل نظامها، و"كلّ حكومة هي سرّ نظامِها"!

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard