info@suwar-magazine.org

السّخريّةُ على مواقعِ التّواصلِ الاجتماعيّ.. تحريرٌ للغةِ وانتصارٌ للعبارةِ

السّخريّةُ على مواقعِ التّواصلِ الاجتماعيّ.. تحريرٌ للغةِ وانتصارٌ للعبارةِ
Whatsapp
Facebook Share

 

"إنّ جدّيّة السّخريّة ليست جادةً، إن ما يقوله السّاخر قد يكون جاداً بحيث يبدو كلامه صادقاً للمستمع، لكن هذا المستمع عندما يكون عارفاً بما يقصده السّاخر، فإنّه يشاركه ذلك السّرّ الدّفين الذي يكمن خلف هذا الكذب، ومن ثمّ يتمّ إلغاء السّخريّة، أو نفيها مرّةً بعد مرّة" كيركجارد

 

المضحك ليس بالضّرورة هادفاً، قد يكون استهزاءً أو فكاهةً بهدف الضّحك فقط، وقد يأخذ أشكالاً أخرى كالكوميديا في المسرح والدّراما، والتي تُنتَج بعد بحثٍ ودراسةٍ لتطرح مقولةً أو قِصّةً بطريقةٍ مضحكةٍ، خلال السّنوات الأخيرة في سوريا انتشر ضحكٌ من نوعٍ آخر وسخريّةٌ لاذعةٌ يوميّةٌ ومباشرةٌ، تصلنا عبر وسائل التّواصل الاجتماعيّ، ميزة هذه السّخريّة أنّها حاضرةٌ وسريعةٌ، ومواكبةٌ لجميع الأحداث أيّاً كانت، اجتماعيّةً سياسيّةً أو اقتصاديّةً، سخريّةٌ تبحث بسرعةٍ عن مفارقاتٍ تكمن في هذه الأحداث وتطرحها بأسلوبٍ مضحكٍ.

 

الضّحك المنتشر الآن ضحكٌ مبطّنٌ ناقدٌ وناقمٌ في بعض الأحيان، هدفه خلخلة المقدّس إنّ كان سياسيّاً أو اجتماعيّاً وانتهاك حرمته المفروضة منذ سنين، ليصبح متاحاً وفي متناول الجميع.

 

تحمل السّخريّة دوماً في داخلها رغبة في التّغيير، وذلك بدءاً بالسّخريّة على صعيد الأشخاص وانتهاءً بالسّخريّة التي تستهدف السّلطة والمفاهيم المجتمعيّة القائمة، فهي تضيء على الأفعال والأقوال التي نراها مكرّرة ولا قيمة لها، تقدّم لنا نقداً بطريقةٍ مبطّنةٍ وبعيدةٍ عن الوضوح لكنّها هادفةٌ.

 

السّخريّة اليوم على مواقع التّواصل الاجتماعيّ تفتح أمامنا فضاءاتٍ من التّأويل، قد تبدو في بعض الأحيان غياباً لموقفٍ سياسيٍّ واضحٍ لدى السّاخر ولجوئه لأساليب غير مباشرةٍ في التّعبير عن رأيه ورفضه للسياسة القائمة، مع ضمان عدم تعرّضه للمساءلة فهو ساخرٌ، واللّغة التي يستخدمها لا تحمل طابع الهجوم الواضح، هي لغةٌ واسعةٌ وغير محدّدةٍ، تتجاوز الخطاب المدروس لتكون مفتوحةً وتنتج تفاعلاً بين عقل السّاخر وعقل المتلقي وفهمه وتحليله لما يقال، يدرك السّاخر قدرته على أن يُطلقَ ما يشاء من الصّفات على رمزٍ دينيٍّ أو سياسيٍّ، أو على مفهومٍ أو ظاهرةٍ عامّةٍ وأن ينتقده دون أن يبدو متعصباً أو يجابه بالإقصاء، فهدفه هو الإضحاك، وهذا ما يدفعنا مهما كانت توجّهاتنا للتواطؤ معه وتقبل ما يقصده لأنه يضحكنا، هذا التّواطؤ المتّفق عليه ضمناً؛ هو اعترافٌ منّا حتّى وإنّ كنّا نخالفه بالرّأي علناً باحتمالية صدق ما يقوله، وضحكنا هو بمثابة تأكيدٍ على فهمنا ودخولنا معه في دائرة النّقد والتّشكيك.

 

من جهةٍ أخرى يمكن اعتبار السّخريّة شكلاً من أشكال التّأقلم مع الواقع المفروض والذي لا إمكانية لتغييره،  فسوريا اليوم مكانٌ يصعب العيش فيه بجدّيّةٍ، لن تستطيع تحمل تداعيات الحرب وسوء الوضع الاقتصاديّ والوباء، دون اللّجوء لما يخفّف من شدّة الضّغط النّفسيّ الذي تعيشه، لذلك نرى الكثيرين اليوم يلجؤون للسخريّة من أيّ تصريحٍ سياسيٍّ أو اقتصاديٍّ أو صحيٍّ، في مشهدٍ يبدو غريباً ومضحكاً إذا ما قارناه بالواقع المعاش وصعوبته، هدف هذه السّخريّة بشكلٍ أساسيٍّ إظهار مدى التّناقض المتمثّل  فيما يقال من خطاباتٍ والسّلوكيات والأفعال التي تتبعها، هدفها هنا مساءلةٌ غير مباشرةٍ لأصحاب هذه الخطابات والتّشكيك بمصداقيتها، وإبراز بُعدها عن الواقع ومدى التّناقض الذي تحمله بداخلها، أصبح هذا النّشاط اليوميّ منتظراً مع كلّ جديدٍ، فالأكثريّة يلجؤون لمتابعة الصّفحات السّاخرة عوضاً عن الأخبار، ليحصلوا على المتعة والخبر في وقتٍ واحدٍ.

 

اقرأ أيضاً:

 

عن المونودراما

 

أحد الأسباب التي ساعدت على ظهور السّخريّة على مواقع التّواصل، هو غياب أشكال النّقد المباشر للسلطة في سوريا منذ السّبعينيّات، أو اقتصارها على محاولاتٍ خجولةٍ، فالمؤسّسات الإعلاميّة والثّقافيّة الموجودة؛ هي مؤسّساتٌ حكوميّةٌ تنطق خطاب السّلطة بشكلٍ دائمٍ، لا وجود لإعلامٍ مستقلٍّ يضيء على الحركة السّياسيّة والاقتصاديّة من وجهة نظرٍ مغايرةٍ، وينتقد ما يراه غير مناسبٍ، الإعلام السّوريّ يفتقد لشروط الصّحافة الحرّة، فهو تابعٌ وبوقٌ لشعاراتٍ فارغةٍ من المعنى، يعرض فقط كلّ ما يصبّ في مصلحة السّلطة من برامج ووجهات نظرٍ وآراءٍ، وينزّه هذه السّلطة في نفس الوقت عن ارتكاب الأخطاء، فهي كاملةٌ ومقدّسةٌ بنظره، مع غيابٍ كاملٍ للبرامج التّرفيهيّة التي تلامس معاناة الشّعب وتخفّف من شدّتها، حتّى أن هذا الإعلام لا ينقل صورة الواقع كما هو، بل يجمّلها وهذا ما يعرّضه هو نفسه للنقد والسّخريّة.

 

في نفس الوقت تُحكِمُ الرّقابة قبضتها على المسرح والسّينما ودور العرض، فالفنّانون السّوريّون لا يمكنهم عرض عملٍ لا يحمل الولاء للسلطة، أو يحمل مقولةً تنتقد وتهاجم الخطاب السّلطوي، فكلّ نصٍّ يتمّ العمل عليه يمرّ على عددٍ من الفاحصين والمراقبين للتنقيب عن ما يحمله بين طياته، ويتمّ حذف ما هو غير مناسبٍ وناقدٍ للمنظومة القائمة ليفقد العمل الفنّيّ قيمته ويصبح مبتذلاً وغير متجدّدٍ، وبهذا نواجه صنماً ثقافيّاً إعلاميّاً سياسياًّ متقن الصّنع لا يمكن الحفر فيه أو إزالته، يُمارَسُ التّقييد على لغتنا وأشكال تعبيرنا الفنّيّة ليحصرها ضمن قالبٍ جامدٍ، لا إبداع فيه.

 

يشترط ظهور السّخريّة في أيّ مجتمعٍ، وعياً جديداً لمجريات الأمور، وشكّاً دائماً بحقيقة ما يحدث، وافتراضاً لسيناريوهات محتملةٍ لما يحدث خلف الكواليس ويُنتج لنا هذا المشهد السّياسيّ والاقتصاديّ الحالي، أو الكشف عن التّناقض بين القول والواقع، هذا الوعي والشّكّ يؤدّي إلى مساءلةٍ للمعتاد والمطروح والضّحك منه، والإضاءة في ذات الوقت على سلبياته وهفواته، لا يمكننا القول بأنّ السّخريّة اليوم في سوريا قد تأتي بنتيجةٍ، فهذا صعبٌ جداً، هي سخريّةٌ تضيء المظلم والمخفيّ فقط وتُظهره للعلن وتضحكنا وتخفّف من صلابة واقعنا، لكن لا نتيجة بعيدةً تترتّب عليها كتغييرٍ أو تحسينٍ، نتابعها لأنّها تحقّق لنا المتعة والضّحك بعيداً عن صلابة المنطق، فائدة السّخريّة هي في الانفعال المرافق لها والذي يترك تأثيراً واضحاً على حالتنا النّفسيّة، بالإضافة لتطوير قدرتنا على الإدراك والوعي لما يحدث ومحاولة البقاء على مساحة منه دون التّأثّر به بشكلٍ كبيرٍ.

 

وإذا ما رصدنا المساحات الأولى لانبثاق السّخريّة في مجتمعنا، وذلك التّحوّل الذي طرأ وأصبحت فيه جزءاً من هويتنا، وانقلاباً واضحاً في مفهومنا عن واقعنا وحياتنا السّياسيّة والاجتماعيّة، نجد بأنّ تلك المساحات تكوّنت بالتّوازي مع تحرّرنا لغويّاً ولفظيّاً من شعاراتٍ اعتدنا على تكرارها، وسماعها، أيّ بعد بدء الحراك في سوريا وما أنتجه من خطابٍ مضادٍّ لخطاب السّلطة ولغةٍ مختلفةٍ للتعامل معها، والذي وبشكل من الأشكال كسر الخوف الذي قيّد لسنواتٍ طويلةٍ أسلوبنا في التّعبير عن أنفسنا، وكَبَتَ ميزةَ النّقد لدينا والرّغبة في التّحسين كبشرٍ، بهذا تكون السّخريّة شكلاً من أشكال التّمرّد وعمليّة تحريرٍ للغتنا التي عانت من التّضييق والمحدودية بما يتناسب مع القول الرّسميّ ويجاريه، وينفي رأينا الخاصّ وفرديتنا وقدرتنا على التّواصل مع بعضنا ومع هذه السّلطة.

 

لا نحتاج الكثير لنخرج من جدّيّة وصرامة الواقع الذي نعيشه في سوريا، ما نحتاجه هو الضّحك من أنفسنا وممّا أصبحنا عليه، ومن انعدام الحلول وحتمية الواقع.

 

ولكي تكون ساخراً بحقٍّ تحتاج وعياً كافياً، وضلوعاً باللغة، ومهارةً في استخدام العبارات، وسلطةً خرقاء ترتكب الحماقات بشكلٍ يوميٍّ.

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard