info@suwar-magazine.org

بيت الحكايا.. عندما يكتب الأطفال قبحنا

بيت الحكايا.. عندما يكتب الأطفال قبحنا
Whatsapp
Facebook Share

 

 

قرابة عشر سنواتٍ مضت منذ الحرب المعلنة على المجتمع السوري، ومازال يسدّد فواتيرها الباهظة، وليس الأطفال بمنأى عن ذلك، ولكن كان لهم حسابهم الخاص لدفع هذه الفواتير في بنوك الخوف والقهر والترقب، "حلم وحكاية" المجموعة القصصية الصادرة عن دار آرام في ريف دمشق/سورية، طبعة 2020م، توثق بعضاً من فواتيرهم، تضم ثلاثين قصة وشذرة، خطتها أنامل مجموعة أطفال، تتراوح أعمارهم ما بين ست سنوات واثني عشر سنة، إنها من ضمن نشاطات ورشة بيت الحكايا في محافظة السويداء/ مدينة شهبا، وقد وصلت إلى القرّاء بعد حفل توقيعٍ للكتاب في 26/11/2020م، ما يميز هذا النتاج الأدبي ليس كونه التجربة الأولى من نوعه، فهناك العديد من هذه التجارب عالمياً وعربياً ومحلياً، بل في قدرة هذه التجربة على تخطي الظرف المتردّي للواقع السوري المنهك، الذي من شأنه أن يخنق أي نفسٍ إبداعي. وهذا ما حدا بمشرفتي بيت الحكايا "منتهى ناصيف" و"سهام عامر" "للاقتداء بالضفدع الأصم، الذي لم يكن يسمع لأحد وهو يتسلق الجبل".

 

تفوح رائحة العقائد في غالبية الأعمال التي يكتبها الكبار للصغار، فالعديد من هذه الأعمال يروّج للأنماط السياسية والاجتماعيّة والدينية المهيمنة على الواقع، ما يساهم في انحسار الكثير من الملكات لدى الطفل ومنها المخيّلة، ولكن ستختلف الصورة كثيراً عندما يكتب الأطفال لنا أو يكتبون أنفسهم، حيث سنقرأ الاتساع المدهش الذي انكمش في قلوبنا إلى خوفٍ وزيف، "موشوشةً الشمس: هل تعيريني أشعتك ليومٍ واحدٍ فقط؟ وأنا أعدك أن أعيدها لك قبل أن ينتهي سحر هذا الكون". "لماذا يطلقون النار على الحيوانات؟ لا تخافي يا صغيرتي إنه تمثيل، لكن يا جدي الحيوانات لا تعرف التمثيل". "لا أحد يفهمني لكن أنا من أخمد الحريق". "هبت عاصفة بعثرت الأزهار عن ثوبي، فصحتُ بأعلى صوتي أين أزهاري". "اقتربَ من الأرض، وحاول إعادة غصنٍ ملوي إلى مكانه علّه يورق".

 

 

إذا كانت كتابات الأطفال هي هربُ الأطفال الأخير اتجاه طفولتهم، ذلك لأننا منحناهم عالماً هرماً ينخره الخوف والجوع، وحشوناهم بالقذارة التي صنعناها، ثم جلسنا ننتظر نضوج براءتهم على أغصان العنف والتعصّب والقبح، لهذا كان الهرب إلى الطفولة في كتاباتهم، الصرخةَ الأكثر احتجاجاً للبراءة وهي تحاول العثور على ما أضعناه، لقد وضعناهم في قوالب ما نتوقع منهم، أو ما نريد أن يكونوا، ولم نفتح لهم الأبواب على ما الذي يريدونه، أو أن يكونوا ما يريدون، وهذا ما تقوله حكايتهم: "كان هناك عصفورٌ ضامر الجناحين، دعت الأمّ بومة تحقق الأمنيات كل سنة، وطلبت منه أن يتمنى في نفسه شيئاً ليتحقق في الغد، وفي اليوم التالي استيقظت الأم متفاجئة من منظر ابنها لتسأله مستغربة: لماذا لم تتمنى أجنحة للطيران؟ أجابها بخجلٍ: أحبّ الريش الملوّن فهو جميلٌ جداً".  

 

الأطفال لا يكتبون لنا فقط، إنهم يكتبون قبحنا، ويوثقون طفولتهم قبل أن تتمزق في معترك التلقين الذي يشدّها بين أقطاب التربوي المزيّف والتعليمي الكاذب، لقد قررنا سلفاً أن يشبهنا أطفالُنا، وإلّا كيف سنتمكن من توريثهم تركات الكبار القاسية، وصناعة الموت التي نتقنها، "كنا نشاهد التلفاز فرأينا البيوت تنهار تحت القصف، والناس تصرخ هاربة، فانهارت معها أعصابنا ودُمرت ذكرياتنا، آه إنها قريتنا وأسفاه، بدأتُ أصرخ يا قريتي". في ليلةٍ سوداء هجم الأشرار على قريته الغافية، فأسرع لحمل بندقيته ناسياً مرضه، هجم كالوحش محاولاً إنقاذ طفلٍ خائف، فأصابته رصاصة عمياء، وخيم الحزن والظلام على القرية". "لم يستطع أن يرى شيئاً بسبب الدخان الكثيف، وعندما استيقظ من غيبوبته أسرع محلقاً إلى العش، فلم يجد إلا رماداً ووردة حمراء". "وجعنا كلنا كبير، صحيح أنهم أحرقوا جذور القمح، لكنهم لم يحرقوا بذور الأمل في داخلنا". هل حقاً تركنا لهم أي أمل؟ وماذا عن ذاكرتهم وذكرياتهم؟

 

الاعتياد الذي أسسته الحرب لمشاهد الموت، لم ينجح في خنق الدهشة في عيون الأطفال، التي مازالت ترى "الموجة دمعة البحر والطفلة تبكي، قصص الموت المسكينة ما أبشعها". ونفسها الحرب التي اختزلت حياتنا إلى مجرّد الصراع على البقاء، وجعلت من التفاصيل الحميمة التي تشكل إنسانيتنا، خارج مرمى أنظارنا، فشلت أمام تعلّق طفلٍ بلعبته حتى ولو انتصرت واقعياً،" استيقظنا على صوت الرصاص، وكانت أمي خائفة، أبي حملنا وركض بنا مسرعاً، كانت لعبتي تنظر إليّ بزاوية الغرفة وتستنجد مرعوبة، لكني لم أستطع أخذها معي، فالقذائف تنزل على المكان والخوف يملاً قلوبنا، لا زلت أحلم كل ليلة بالعودة لأضمّ لعبتي الخائفة". لو كان هذا العالم يمتلك الإحساس الذي رأى دمعة الطفلة بحجم موجة، أو تمكن من رؤية الخوف في عيني لعبة، لكانت أقلام هؤلاء الأطفال الآن تتسلق أشجار المخيلة، وتبني أكواخاً بين أغصانها، وتلعب لعبة الاختباء مع فراشة.

 

اقرأ أيضاً:

 

"قانون قيصَر" وحكاياتٍ جديدةٍ لأطفال الشّوارع

 

الجميع يعد الأطفال بالنعيم، بينما لم نجهّز لهم مكاناً سوى الجحيم، لقد جعلنا من أحلامنا كوابيساً لهم، وعلّمناهم كل الأكاذيب ليصدقوا أن هذه هي الحياة: "أشعر بالأمان بوجودنا معاً في ظلّ والدينا"، قد تتكشف هذه الجملة عن أقصى طموحات الطفل، الأمان في ظل والديه، لا يمكن مقارنة هذا الطموح البسيط بطموحات العالم المعقدة، لكنه مع ذلك بات يحتاج إلى معجزةٍ كي يتحقق، فمع طموح العالم في السيطرة والتملك، لا يمكن لرغبات الأطفال البسيطة أن تنمو، فزعزعة أمانهم هو وقود طموحاتنا، وإلّا كيف لهذا العالم أن يذهب إلى الحرب، إلى أي حرب؟

 

قد يكون حكايةً أخرى، ما كتبه الأطفال عن بيت الحكايا في نهاية مجموعتهم القصصية، حيث يشكّل هذا البيت مكاناً مضاداً للعنف الذي يحاصرهم، إنه المكان الذي تتجول فيه مخيلاتهم بحرية وبصوتٍ مرتفع، حيث الإملاء الوحيد فيه: لا تقل إلّا ما يدور في قلبك، وقلوب الأطفال أوسع بكثير مما نعتقد: "عندما دخلتُ لبيت الحكايا تغيرت الأشياء حولي، وصار الطريق أجمل". "كنت أبحث عن مكانٍ يضمني أنا وأفكاري ومخيلتي، وبيت الحكايا كان هو ذاك المكان". "بعد أن هربتُ مع عائلتي من الحرب، كنتُ دائماً أخاف أن أفكر بما حصل، ببيت الحكايا بدأتُ أحكي وأتحدث دون خوف, وعندما كتبتُ أول قصصي حصل شيءٌ سحري، نعم ارتحت وشعرت أنني أستطيع أن أوقف تلك الحرب بقلمي". "في بيت الحكايا نبت لي جناحان وصرتُ كالفراشة، وغداً سأكون نجمة أو شمس وكل ما أشاء". من الواضح أنّ شدة انجذاب الأطفال لهذا المكان، تتناسب طرداً مع شدة القبح خارجه، فعندما لا يجد الأطفال وطناً, تصبح الحكاية وطنهم.

 

هذا العام كما في كل عامٍ مضى، لم يصفف أطفالنا شعرهم، ولم يرتدوا ثياباً جديدة للاحتفال باليوم العالمي للطفل في الشهر الفائت من 20 تشرين الثاني/2020م، فحين كان هناك من يحتفل في هذا العالم، ويخط شعاراتٍ عن أمنهم وسلامهم، كان لديهم ما يشغلهم هنا، فالكثير منهم لم يلتفت لهذا اليوم لأنه كان يستجم في جمع الحطب، أو كان يصطاف عند سواحل الحاويات، ويصطاد البلاستك من أعماقها، أما من كانوا يمدون أياديهم لا ليلمسوا قطرة مطر، بل لأنّ الجوع أراد لهم أن يتذوقوا نعمة التسوّل وكرم الشوارع، لقد كان الأطفال مشغولين في سرد حكاياتهم التي توثق زيفنا، وفي غمرة انشغالهم لم ينسوا أن يُدرّبوا عضلات وجوههم، من أجل إبداع ابتسامة أمام كاميرا جاءت تقتات على بؤسهم، الابتسامة العذبة التي ستبقى إدانة دائمة لعالمنا الموحش ولكلّ احتفالاته الكاذبة.

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard