info@suwar-magazine.org

بحثاً عن فستان سعاد حسني

بحثاً عن فستان سعاد حسني
Whatsapp
Facebook Share

 

شغلني سؤال:

ـ ماذا تفعل لتعود صالحاً من جديد؟

الأمر يُفضي إلى استخلاص بأنك كنت صالحاً، ثم غادرت صلاحك.

ودون شك، فبالقدر الذي سيكون السؤال صحيحاً فالإجابة مُلتبسة، مُضلِّلة، وربما تحمل شيئاً من الصحّة.

مع مكاشفة النفس، سيكون هامش الصحّة فيها ضيّقًا، فالذين بنوا (صلاحهم)، إنما بنوه على واحد من رصيفين:

ـ إما الإذعان لوقائع الحياة، ومن ثم الفوز عبر الإذعان، وهذا الفوز يحدث غالباً لمحترفي الوظيفة العامة، أو السياسيين المخادعين، أو ربما رجال الأعمال من النبهاء منهم.

ـ أو أن تلاكم الجدران، ولا تقول الكثير، وتقع في الغرام من اللحظة الأولى.

بالحقيقة أنت لاهذا ولا ذاك، وفي الوقت نفسه، لا تقبل أن تكون الأول، ولا تستطيع أن تكون الثاني، فالأول يتطلب الكثير من التفاصيل.. تفاصيل قلّما يمكن رسم تاريخ لها، من مثل:

ـ تبتسم بالقدر المطلوب، تنتحب بالقدر المطلوب أن تنتحب، وفوقها أن تكون في الملاءة.. لا دونها، ولا فوقها، فمن هو دونها، بائس، وحزين، ولاهث في البحث عنها، ومن هو فوقها، لن تشغله الأسئلة الصعبة، فلديه من أسباب الرفاهية مايسهّل كل الإجابات، بما فيها الإجابة عن سؤال:

ـ لما كل هذا الصراخ والصفع؟

الصالحون، جيوش من الكتبة، من الموظفين العموميين، ومن الأزواج الذين يتقنون ترتيب خزانة ملابسهم والتقيد بمواعيد الغداء، هؤلاء موعودون بالجنة، فالله لايحتمل أولئك المتسائلين، المتشككين، أولئك الذين يظنون أنفسهم آلهة وهم يقبعون في فقاعة هذا الكوكب، وللعلم فالله لا يلعب مع لاعبي لَيّ الأذرع.. لا ينزل إلى حلبتهم وسط صرخات جمهور ينحاز للّاعب الأفضل، الله، لا يفعل كل ذلك، فلديه مطرقته، تلك التي رافقته منذ أن انتصب الإنسان على ساقيه وفرّ من عالم القردة، ليخلق الله الذي يعيد خلقه من صلصالٍ مادته الخيال.

إذا اقتضى الأمر، وعاد اليك سؤال:

ـ لتكون صالحاً.

هذا يعني أن عليك أن تختار قاطرة الصلاح تلك، وبما أنك لست موظفاً عمومياً، ولست زوج يطوي جواربه باحترام في صندوق الملابس الخفيفة، فسيكون عليك أن تختار قاطرة أخرى للصلاح، ولكن، يالها من قاطرة قاتلة.

قاطرة اختارها بشر من مثل:

ـ تشايكوفسكي، هنري ميللر، دستيوفسكي، ايرين باباس، أنطوني كوين، بل ربما رسل مثل محمد، وقد حوّل الزمان إلى خمسة أزمنة، هي مواعيد الصلاة.

 

ـ نقول تشايكوفسكي وبهذا الاستسهال؟

يحق لك الاستسهال، فعالم اليوم منحك الاستسهال.. بضغطة زر واحدة تدخل محركات البحث، وتستطلع آخر منتجات التكنولوجيا، الآداب، منتجات السوق، وبظهور سريع، وربما يفتقد إلى الجاذبية، بوسعك أن تجوب عالم "الفيس بوك" ليكون ملاءتك الواهمة، ملاءة منتج إعجاب من هذا، وتعليق ساذج من ذاك، فكيف لك أن تكون دستيوفسكي، وقد غرق لخمس سنوات مضنية ليترك للبشرية كونشيرتو البيانو الأول؟

 

اقرأ أيضاً:

 

من وصيّة حيوان

 

وكيف لك بعدها، أن تغرق في "بحيرة البجع" و"كسارة البندق" و "الجميلة النائمة"، و "ملكة السباتي"، ومن بعدها «روميو وجولييت»، والتي يقال إنه كتبها حزناً على تلميذ له قام بالانتحار.

 

لا وقت لديك لكل هذا، أنت الوقت السهل، الوقت المسكون بفوبيا الألم، أنت تخاف الألم، وتخاف النهايات الغامضة، وتخاف على نفسك من الشقاء، ومن الموت بكأس ماء مغلي.

 

وهذا وعلى وجه الدقّة والتحديد، يعني بـ (الزبط)، ما لم يحسب له تشايكوفسكي حساباً، ربما لأنه مات منتحراً، وهو الانتحار الذي لم يسجّل في دوائر البوليس، وهو الشريك المؤسس لعالم بوّاح بالعذابات المُضمَرة.

 

هذا ليس حاله بمفرده، ومن جهتي لا أظن أن بوسع رجل من مثل هنري ميللر، أن يؤلف كتابه "كابوس مكيّف الهواء"، لو كانت آلامه كسولة، فاستكشاف الكوكب، يتطلب رجال أشدّاء، يذهبون بالسؤال حتى آخره، لا ليزيلوا قلق السؤال، بل ليولدوا من قلقه قلقاً جديداً في سلسلة من الأزمان المقلقة، لايتصالحون معها أبداً، ولا يتصالحون حتى مع أنفسهم، ولولا ذلك لما وقع أبو الطيب المتنبي بتلك الحيرة، ذاك التناقض، وهو القائل:

ـ أنام ملء جفوني عن شواردها.

ومن بعدها، لا ينام، ولو نام، لما قال تلك القصيدة الفاحشة التي قادته إلى حتفه:

ـ يا ابن ضبّه.. وأمّه الطرطبة.

لم يكن صالحاً، كان قتيلاً، فهذا النوع من الصلاح لا يعني سوى القتل.. القتل العَمْد، وقد فعلها فان كوخ، تاركاً الكثير من الرسائل.. رسائل ترسم نهاياته بقدميها، مثل:"التبغ يحترق، والحياة تتسرب.. للرماد طعم مر بالعادة نألفه، ثم ندمنه، كالحياة تماماً: كلما تقدم العمر بنا غدونا أكثر تعلقاً بها.. لأجل ذلك أغادرها في أوج اشتعالي.. ولكن لماذا؟! إنه الإخفاق مرةً أخرى.. لن ينتهي البؤس أبداً… وداعاً يا ثيو، سأغادر نحو الربيع".

 

فعلها الرجل، ليس بسبب الإخفاق على حد زعمه.. لا .. فعلها كما يفعلها النسر وهو يلتهم ريشه، ليتعرّى ويموت بضربات الصقيع، أو أنه يطير إلى ارتفاعات عالية، ثم يضم جناحيه إلى صدره ويقفز منتحراً.. ثم يسكن ليسقط سقطة الموت بكبرياء.

ـ يفعل ذلك كي لا يكون رجلاً صالحاً، ثقوا بما أقول.

 

"عزمي موره لي"، فيلسوف الرؤى المجهول، كان يقولها.. يقولها لي وربما لغيري:

 

ـ أنا مستأجر عند الله.. لن أسمح له بأن يخليني من سكني بقوّة القانون.. سأغادر بيته بإرادتي.

 

كل ذلك وتجاوز "عزمي" التسعين، ولم يُخلِ بإرادته كما فعل فان كوخ، أو كما فعل راقص الباليه الروسي العظيم فاسلاف نيجينسكي، ذاك الواثب حتى يبدو وكأنما كاسر أمواج قانون الجاذبية، لينهي مهزلة حياته بـ "الانتحار"، ودون أن يترك رسالة يخبرنا فيها كيف يتسنى للراقص أن لا ينهك وهو يقطع المسافات في الزمن على أصابع قدميه.

 

نحن فريق المشاهدين، المسمّرين إلى مقاعدنا، لا نرى من راقصات الباليه سوى أجسام رشيقة وتوازن مستحيل، غير أننا لن نلاحظ أقدامهن المليئة بالدم والرضوض وموت أظافر الدم وظهور المسامير فيها، فالبنات إياهن يخفين دماءهن برفضهن ارتداء الصنادل أو الأحذية المكشوفة، وهن اللواتي يعشن على المسكّنات لاخفاء آلام أقدامهن.

 

هؤلاء الذين يقطعون تلك المسافات على أصابع أقدامهم بخفقات قلوبهم، هن البنات شديدات البأس، كما الرجال الأشداء، رجال لا يسمحون لأنفسهم بالوقوع بـ "العار".. عار إطالة الحياة، ولولا ذلك لما وقف سقراط أمام خمسمائة قاض، ومازلنا نسمع صرخته:

ـ يا أثينا.

 

بعد جلسة علنية لا يسمح فيها لغير الرجال بالحضور، صرخ سقراط، أما الطقس ، فقد كان جميلاً، "مما ادخل الارتياح الى نفوس الجميع وجعلهم يأملون بجلسة كاملة لا يربك مجراها مطر يهطل على الرؤوس، أو برد يعطل تواصل الأفكار" كما ينقل المؤرخون. ومن يومها مازلنا  نتذكر أننا في اثينا ، في صباح من أصبحة ربيع عام 399 قبل الميلاد .

 

"أثينا هذه التي قدمت الديمقراطية للعالم ، تعيش فترة عصيبة، لقد هزمتها سبارطة في حرب دامت بينهما سبعاً وعشرين سنة، وفرضت عليها شروطاً قاسية، منها نظام "الثلاثين مستبداً " بقيادة أحد أبنائها، كرينياس، الذي تخلص منه الإثنيّين منذ وقت ليس ببعيد".

 

كان التاريخ قد سجّل حماقة سقراط، وكان على المؤرخين أن يضيفوا "في هذا الجو من القنوط الوطني،  كَثُرتْ الأحقاد وتعددت حوادث تصفية الحسابات لكن العدالة ظلت تعمل والقضاة في أثينا، وعددهم ستة آلاف، مواطنون متطوعون يجري اختيارهم سنوياً بشكل عشوائي.

 

كان للمحاكمة ما ليس لسواها، لأنه سقراط، لا لأن عدد القضاة قد قلّ بسبب الاستقالة أو التنحي عن القضية أو الموت، فأمامهم كان سقراط، متّهم، شيخ ذو لحية بيضاء وثياب رثّة.

 

لقد اتهموه بالكفر بالآلهة وبإدخال شياطين جديدة إلى المدينة وإفساد الشبيبة، ولكن من هو سقراط هذا؟ إنه رجل بلغ السبعين من عمره، قبيح المنظر بعينين جاحظتين وأنف أفطس ووجه ممتلئ ناهيك عن ثيابه المهملة، والمكونة من معطف صوفي لا أزرار له، ولا حزام . وفوق كل ذلك، فأنه لا يمشي إلا حافي القدمين، في الصيف كما في الشتاء.

 

ليس كما ألفيس بريسلي، ذو الشعر الأسود الشهير، المصنوع على أيدي صبّاغ، والأناقة وقد طافت الدنيا حتى بات علينا التظاهر بمواجهة الخياطين الذين عجزوا عن صناعة ما يساويها أو يضاهيها أو يقاربها، إنه "الفيس"، وطالما قالوا بأنه مات بجرعة زائدة من المخدرات، مع أن قلبه الذي توقف عن مهامه، خبّأ لنا أغنية تحتل الصدارة، إنها أغنيةٍ "Heartbreak Hotel"، في كل مكان، على الراديو، التلفاز وحتى في السينما نبحث عنها.

 

لم يمش الفيس حافياً، ولا أشعث، ولا أفطس الأنف، ذكورته توازي أنوثة مارلين مونرو، كلاهما صناعة ارتكبتها الطبيعة كما لو أجمل آثامها، هو الأمر كذلك مع مارلين مونرو، أنهكتها الحياة، يقول عنها المخرج بيلي ويلدر:" Billy Wilder: "ستكون الأعظم لو أنها تسير مثل الساعة"، ويضيف "لدي عمتي ميني دقيقة جداً، لكن من يدفع لقاء مشاهدة عمتي ميني؟".

ليست مارلين عمته، ولا عمتنا، ليست من الصالحين لتحمل لقب:

ـ أم / أخت / عمّة/ زوجة أب / زوجة.

كما الغيمة يكفيها اسم واحد:

ـ غيمة.

ثم يبدأ وصفها "ماطرة"، "عابرة"، "غيمة صيف" أو الجو غائم.

 

مارلين ليس لها سوى اسمها، ومن بعده بوسعك وصفها، كأن تقول :"صوتها لاهث، ومظهرها جذّاب"، كما تضيف: "كل نساء الكوكب مشين على قدميها.. مادونا، الليدي غاغا، مشيتا على قدميها، تلك المرأة التي اكتنزت أسرار اللؤلؤ، وقرأت فيودور دوستويفيسكي، وجورج برنارد شو، وجيروم سالينغر، وإرنست هيمنغواي، وليو تولستوي، ومارك توين وغيرهم، فالفتاة الشقراء لم تكن "غبية" على الإطلاق!

 

هكذا جاء وصفها ربما ممن يعرفها، وربما ممن يخيّل له أنه يعرفها، وفي كل الأحوال، لن تعرف مارلين مونرو فهذه المرأة لاتختلط ببقية الطيور.. هي تتعرى من ريشها ثم تسقط فوق سريرها بكبرياء، دون أن تسمع هتافنا:

 

ـ أهلاً أيها المهزوم.

 

نحن أغبياء، ولو لم يكن الأمر كذلك، لهتفنا للحرية:

ـ أهلاً أيها المهزوم.

ليس كما هتف الإسبارطيون:

ـ أهلاً بالمنتصر.

 

لم تكن مارلين مونرو امرأة، كانت فصيلة بحد ذاتها، فصيلة ليست من فصائل الثدييات التي نحن منها، ولا من فصيلة الفراشات الطائرة، كانت كل ذلك، ولم تخل من الذباب الأزرق.

 

ـ  فما بالك حين نبحث عن فستان لسعاد حسني؟

أنا وبدءاً من اليوم، سأبحث عن فستان سعاد حسني.

 

أنا في الطريق إليه، مُبتل بالالم، أقف على حافة النهر أراقب ضفتيه بانتظار القارب الذي سأجد نفسي داخله بحثًا عن:

ـ سعاد حسني.

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard