العَلمانيّة والجنس.. الحقيقة المجرّدة
بما أنه أصبح من الواقعي أكثر بعد انطلاقة انتفاضات وحراكات الربيع العربي طرح العلمانية كمشروع عملي، فهذا يقتضي عند طرحها كحل توضيح العلاقة الحقيقية بينها وبين كل المسائل والقضايا الأخرى في الواقع الاجتماعي، وفي واقع محافظ كواقعنا تتصدر قضيّتا الدين والجنس هذه القضايا، وكثيراً ما يساء فهم الموقف العلماني الحقيقي منهما من قبل أنصارها أنفسهم، أو يشوّه جهلاً أو قصداً من قبل خصومها، وفي جميع هذه الأحوال تـُقدم العلمانية بصورة مزيفة سيئة، فيكرهها الناس معتقدين أنها تسيء إلى دينهم وأخلاقهم.
في هذه المقالة سيتركز الحديث -الذي سيكون صريحاً وبعيداً عن المواربة- عن موقف العلمانية من الجنس، وهذه بالطبع مسألة صعبة، فأي حديث عن الجنس في مجتمع محافظ يضع المتحدث في موقف حرج لما يقترن بالجنس من تابوهات وخطوط حمراء، وما من شك أن حساسية هذه المسألة ستتضاعف عندما يجمع هذا الحديث بين العلمانية والجنس، في وقت تـُبث فيه دعاية عدائية مغرضة ضد العلمانية، تصورها بأنها عدوّة الدين، وبما هي كذلك في هذه الدعاية، فهي تصبح تلقائياً في موقع معادٍ للأخلاق، لأن الدين يعتبر أساس الأخلاق الحميدة وسندها في الذهنية والخطاب الدينيَّين.
وهكذا يضع هذا الخطاب المسيّس المغرِض العلمانية دفعةً واحدة في خندق العداء لكل من الدين والأخلاق، وهو موقع كافٍ لإفلاس أي مشروع، فيما لو تم تثبيته فيه من قبل مسيئي فهمه أو متعمِّدي تشويهه، ولذا يجب على العلمانيين تقديم وتوضيح الصورة الحقيقية للعلمانية.. كي لا يتم تزييفها وتشويهها بشكل متعمَّد أو يساء فهمها.
في بداية الخوض في هذه المسألة لابد من التوقف عند مفهوم العلمانية نفسه، والإجابة عن سؤال "ما هي العلمانية؟"، كي يكون الحديث عنها دقيقاً.
ما هي العَلمانية؟
سيبدو للكثيرين أن طرح هذا السؤال لا طائل منه، فالجواب عليه واضح، وهو يتمثل في أن "العلمانية هي فصل الدين عن الدولة"
هذا التعريف -رغم ما فيه من صحّة- هو تعريف جد مختزل، وهو يختزل العلمانية في الكيفية التي تتم فيها عملياً وإجرائياً، لكن لا يتَّضح منه أي شيء عن المنهجية التي تقوم عليها العلمانية، والمنطق الذي تعتمد عليه، و لا الأسباب الموجبة لفصل الدين عن الدولة المستمَدَّة من المنهجية والمنطق العلمانيَّين، والنتائج والمفاعيل المرتبة على هذا الفصل.
وفقاً لذاك التعريف قد تـُفهم العلمانية ببساطة أنها مجرد عقيدة لادينية تسعى للحلول كعقيدة محل العقيدة الدينية كما حلّ الإسلام محل الزردشتية في بلاد فارس مثلاً، وهذا ما يتوهمه أكثرية الإسلاميين الذين يتصورون أن العلاقة بين العلمانية والإسلام هي "صراع عقائد"، وهذا الفهم أبعد ما يكون عن العلمانية، بل ويمكن القول بثقة أنه مناقضٌ لها، فلا شيء في العلمانية عقائدي بتاتاً، وهي بشكل رئيس "تستبدل العقيدة بالفكرة، وتضع التفكير محل الاعتقاد".
في المعتقدات كلها، تقوم القناعات على الإيمان التسليمي الذي لا يعتمد على الدليل والبرهان، وفي واقع الأمر البرهان والإيمان لا يجتمعان، فحيث يوجد البرهان لا يبقى مكان وضرورة للإيمان، وتقوم القناعة على معرفة يقينية، فالقول مثلاً بأن أحدهم يؤمن بصحة "علاقة فيثاغورث" وعدم إيمان صاحبه بها، هو لغو باطل تماماً، فهذه العلاقة مبرهنة ومثبتة، وهي حقيقة معرفية وليست قضية إيمانية؛ أما في الإيمان فلا تقوم القناعة على البرهان، فالإيمان يصنع القناعة حيث لا يوجد البرهان، وهو قناعة لا برهان عليها، فإن وجد البرهان تصبح هذه القناعة "معرفة حقيقية" ولا تعود إيماناً، وهكذا تكون المقولة الإيمانية "قناعة ظنية" وليست "معرفة حقيقية".
إن الفعل "يعتقد" يصبح بناء على ما تقدم هو، والفعل "يؤمن"، والفعل "يظن" ثلاثية متشابهة المعاني، وبما أن الدين هو عقيدة تقوم على الإيمان التسليمي، فهذا يجعل من كل المقولات الدينية "مقولات ظنية" وبعيدة بعداً شاسعاً عن "المعارف الحقيقية" و"الحقائق المثبتة"، وهذا يعني أنه عند حكم المجتمع على أساس ديني، أيا كان الدين الذي يحكمه، فعملية الحكم هذه تقوم على أسس وقواعد مستمدة من مصادر إيمانوية اعتقادية ظنية، أي أن كل هذه الأسس الدينية الحاكمة للمجتمع لا تكون في هذه الحالة أكثر من اعتقادات وإيمانات وظنون، وكما هو واضح في هذه العملية يقيـّد دور العقل في أطر هذه الاعتقادات والإيمانات والظنون، ما يجعله دوراً ثانوياً أو هامشياً، والعقل هنا مُصادر الخيار والقرار، فتلك الاعتقادات والإيمانات والظنون لا تعرف، ولا تعترف بأنها ما هي في طبيعتها عليه، وهي ترى نفسها فقط في صورة الحقائق المقدسة المطلقة الكاملة، وبما أنها كذلك فهي لا تقبل بتاتاً بأي اختلاف عنها أو خلاف معها.
لكن أمام هذه الحقيقة الصارخة كان لا بد وأن يأتي اليوم الذي يثور فيه العقل الحر رافضاً هذا الأسلوب اللاعقلاني في حكم المجتمعات، ليقرر أن ينتزع حقَّه المسلوب، ويأخذ زمام المبادرة في تنظيم وقيادة المجتمع، ولذلك قرر العقل إبعاد الدين عن الدولة، بصفتها المؤسسة القائدة للمجتمع، وبدلا ًعن الدين قرر العقل أن يعتمد على نفسه، وعلى العلم، وعلى الغاية الإنسانية كأسس لتنظيم وإدارة المجتمع وبناء الدولة، وأن يعمل منطلقاً من الواقع وفي حدود الواقع، وألا يقحم في عمله هذا الغيبيَّات والماورائيات والمسلَّمات، وهذا الأسلوب في العمل لبناء الدولة وإدارة المجتمع أسماه أصحابه من العقلانيين بـ "العلمانية"، والمصطلح مشتق عربياً من كلمة "عـَلـْم" التي تعني "العالم"، الذي لا شكَّ في حقيقته ووجوده وقابلية قوانينه للمعرفة وحقائقه للإثبات، وهو اشتقاق موفق يعطي في معناه نفس المضمون العام الذي يحمله مصطلح "Secularism" الغربي الدال على العلمانية، التي يمكن تعريفيها باختصار بناءً على ما تقدم بأنها "المنهجية العقلانية الإنسانية الواقعية في التعامل مع الإنسان والمجتمع والدولة".
العلمانية والدين
بعد تحقيقه الانتصار في ثورته ضد حكم الدين، لم يتعامل العقل الحر مع الدين كعدو مهزوم، ولم يقضِ عليه، فيطرده خارج المجتمع، بل على العكس من ذلك، اعتبره بكل بساطة شريكاً اجتماعياً، وتركه يلعب دوره الممكن في المجتمع بشرط ألا يتدخل في الشأنين الجمعي، على مستوى المجتمع كجماعة إنسانية منتظمة منظمة والرسمي، على مستوى الدولة كمؤسسة قائدة للمجتمع، ولذلك أُحيل الدين إلى "النطاق الفردي" وأصبح حقاً من حقوق الإنسان، يمارسه على صعيده الشخصي كيفما شاء بشرط ألا يتسبب بأي أذى لنفسه أو لغيره أو للدولة أو المجتمع، وبما أن الدين أصبح حقاً من حقوق الإنسان، فهذا الحق لا يختص بدين أو معتقد دون سواه، وصار بإمكان كافة الأديان والمعتقدات أن تستفيد بشكل متساو من هذا الحق، بشرط حياديتها الجمعية والرسمية وسلميتها، وصار بإمكان كل متدين أن يمارس طقوسه، ويعيش وفق تعاليم وأخلاق دينه دون أن يضطهده أحد، طالما أن هذا لا يتناقض مع قوانين الدولة، ونواظم المجتمع العلمانية القائمة على العقل.
التعدُّدية وحريَّة الاختيار
التعددية وحرية الاختيار هما قضيتان متكاملتان جوهريتان في العلمانية، فالعقل الحر الذي يحترم حريته يعي تماماً أن هذه الحرية لا بد وأن تنتج اختلافاً يقترن بحقيقة اختلاف العقول، ولذا فإن احترام العقل الذي يقتضي احترام العقول المختلفة، لا بدّ وأن يتجسد في احترام اختلاف العقول، الذي يصنع التنوع في مواقف وخيارات ونشاطات ونتاجات العقول المختلفة، وهذا ينسحب على كل ميادين ومجالات الحياة، وهذا ما تعنيه "الديمقراطية" في معناها الحديث الأصيل، وفي إطارها تدخل حرية الاعتقاد وحرية النشاط السياسي وحرية الاجتماع، وسواها من الحريات التي تدخل بينها بكل تأكيد "الحرية الجنسية".
المبدأ العلماني في الموقف من الجنس
كما رأينا، الحرية هي النتيجة الحتمية للعقلانية التي تقوم عليها العلمانية، وهذا ينطبق على كل ميادين الحياة، والجنس ليس قطعاً استثناء، وهذا يعني أن الموقف من الجنس في العلمانية لا بد وأن يحكم الجنس بالحرية العقلانية، التي تقتضي إعطاء الإنسان العاقل كامل الحرية ليختار بعقله وإرادته الحرة "شكل الحياة الجنسية" الذي يريده.. دون أي فرض أو منع طالما أن خياره هذا لا يتسبب بأي أذى للنفس أو للغير أو للمجتمع، وهذه الحرية المعقلنة التي يناط بها القيام بهذه المهمة الخيارية على المستوى الجنسي، هي نفسها التي تقوم بالاختيارات على المستويات الأخرى، وكما يكون من حقّ الإنسان أن يختار الدين الذي يريد أو الإلحاد أو الإيمان الحر، وأن يختار المذهب السياسي الذي يعجبه، فيكون ليبراليا أو اشتراكيا أو قوميا أو غير مسيّس، ويختار من يمثله على المستوى الحكومي والنيابي والبلدي والنقابي أو يقاطع الانتخابات، وسوى ذلك، يصبح من حقه أيضاً أن يختار الشكل الجنسي الذي يريده، ويمكنه أن يختار الزواج أو الجنس الحر أو التبتل أو سوى ذلك دون حرج أو عاقبة، فهذا كله يعتبر شأناً فردياً وحقاً من حقوقه كإنسان.
شرعيَّة العلاقة الجنسية
مبدأ شرعية العلاقة الجنسية في المنهجية العلمانية هو ليس "عقد الزواج" بل "حرية إرادة" الشريكين الجنسيين في أن تكون بينهما علاقة جنسية، أما الزواج في المجتمعات الليبرالية العلمانية فلا يعتبر لا ترخيصاً ولا تشريعاً للعلاقة الجنسية، وهو ليس رخصة لممارسة الجنس كما هو الحال في المجتمعات المحافظة، ولكنه إجراء ذو غاية اجتماعية يهدف إلى "تكوين أسرة".
هذه الشرعيّة أساسها العقلانية، فعند الاحتكام إلى العقل، فالعقل سيعطي للإنسان العاقل حق الاختيار بعقله، وسيرفض أن يـُفرض على هذا الإنسان أية فروض قادمة من مصادر لا عقلانية سواء كانت أدياناً أو أعرافاً أو غير ذلك مما يأتي من بوابة اللا عقل أو يفرض من خارج العقل والإرادة الذاتيين.
وهنا يمكن القول أن شرعية العلاقة الجنسية تقوم علمانياً على "عقد الإرادة العاقلة الحرة"، وليس على عقود خارجية يفرضها العرف أو الاعتقاد أو السلطة أو سواها...
الحرية الجنسية والديمقراطية الجنسية
ما تقدم يطلق عليه تسمية "الحرية الجنسية"، وهذه الحرية غالباً ما تتم مماهاتها مع "الجنس الحر" أي "الجنس بدون زواج"، وهذا ليس صحيحاً، فهذه الحرية لا تتضمن الجنس الحر فقط، وأبسط مثال على ذلك أن المجتمعات الليبرالية ما يزال فيها حتى اليوم محافظون لا يقبلون بالعلاقات غير الزوجية، وما يزال فيها رهبان وراهبات لا يمارسون الجنس، وبالمقابل هناك العلاقات التي تشبه الزواج حيث يلتزم رجل وامرأة بعلاقة حصرية بينهما دون عقد زواج رسمي، وهناك أيضاً العلاقات العابرة الخالية من الالتزامات، وهذا كله يدخل في عداد "الحرية الجنسية"، التي يصح هنا اعتبارها "ديمقراطية جنسية" طالما أن الديمقراطية تعني القبول بالاختلاف والتنوع والمساواة التامة بين المختلفين، أما قرن "الحرية الجنسية" بـ "الجنس الحر" أو "الجنس بلا زواج" فهو يشبه إفراغ الديمقراطية السياسية من التعددية السياسية وحصرها في تيار سياسي محدّد، وهذه عندها ستكون شمولية سياسية وليس ديمقراطية، والأمر في الجنس مشابه، فمماهاة "الحرية الجنسية" بشكل نشاط جنسي واحد هو "الجنس الحر"، سيكون "شمولية جنسية"، ولن يختلف في المبدأ مع "شمولية الكبت الجنسي" السائدة في المجتمعات القمعية رغم التناقض التام والشديد الكبر في المضمون.
العلمانية ليس لديها إيديولوجيا جنسية
ظهر في الجنس قديماً وحديثاً مذاهب عديدة مختلفة، منها ما رفعه إلى درجة القداسة، ومنها ما أنزله إلى دركة النجاسة، ومنها ما اعتبره مجرد حاجة طبيعية كباقي حاجات الكيان البشري، وسوى ذلك، والعلمانية لا تأخذ بأي رأي من هذه الآراء حصريا، فهي لا تتبنى أية إيديولوجية محددة في الجنس، كما هو الحال في باقي مجالات الحياة، وهي منهجية بلا إيديولوجيات، ولكنها تقبل تعدد الإيديولوجيات دون أن تتأطر في أية إيديولوجيات، ونبقى دائماً منهجية عقلانية مفتوحة تتجاوز كل الإيديولوجيات.
وفي الجنس.. العلمانية تقول للناس: "أنتم كائنات جنسية، والجنس مكون أصيل أساسي من طبيعتكم، وممارسته حق طبيعي من حقوقكم الإنسانية، وأنتم كائنات عاقلة فمارسوه وفق ما تمليه عليكم عقولكم وإراداتكم، وضعوا له آدابه المناسبة كما تضعون آداباً للطعام، وغيره من الحاجات والممارسات، ولكن لا تفرضوا آدابك على غيركم، واحترموا هذه الآداب وأصحابها، وجادلوهم بالحسنى"!
العقل هو الحكم
العلمانية لا تقبل باعتماد أية عقائد تدعي "التنزيل" على مستوى المجتمع والدولة، أما على مستوى الفرد فهذا يعتبر شأن الفرد وحده، وله فيه أن يقرر ويختار بعقله وإرادته ما يشاء، وهذا ينطبق على كل مجالات الحياة.
ولذا تقول العلمانية للناس: "اصنعوا خياراتكم بعقولكم وإراداتكم، وتقبلوا واحترموا اختلافاتكم، وبغير هذا لن يتحقق السلام بينكم، ولن يعرف عالمكم التقدم والازدهار.
العقل هو السبيل الوحيد إلى الفضيلة، وكل فضيلة لا تقوم على العقل، هي فضيلة باطلة، فإن كنت تخاف من خيار العقل فما هو بديلك؟
إن أي بديل آخر، بما في ذلك "التنزيل" المفترض، حين يخرج من نطاق العقل، يصبح خارج العقل ويقع في اللاعقلانية، وفكرة التنزيل حين تتعالى وتستعلي على العقل هي خروج من نطاق العقل إلى اللاعقلانية، وهذا يجعلها باطلة!
أما إذا احتكم التنزيل المفترض إلى العقل، فعليه عندها أن يستجيب لقوانين وشروط العقل، وفي مقدمتها الاعتراف بالتعددية وقبول الاختلاف.
ومن يخاف من خيار الحرية بذريعة أن الناس إن أُعطوا الحرية فسينتشر بينهم الإلحاد والإباحية، فهو يعترف سلفاً بأنه يفرض ما لديه من قوانين قسراً على الناس، فبأي حق يفعل هذا؟! ومن أعطاه هذه السلطة والوصاية عليهم؟!
إن لدى الآخرين عقولهم كما لديه هو نفسه عقله، وإن كان عقله يعترف بالتنزيل ويعتبر بموجبه أن الإلحاد والحرية الجنسية شران، فله ذلك، ولكن ليس له أن يصادر ما تراه العقول الأخرى في هذه الشؤون، والتي قد تتفق أو تختلف معه فيها في القليل أو الكثير! ولا يحق له أن يفرض عليها ما يراه مهما كان الاختلاف بينه وبينها!
وما يقوله لك عقلك أنه صواب، لا يعني حكماً أنه فعلياً الصواب، فالعقول الأخرى لديها أيضاً أقوالها في الخطأ والصواب، وعندما لا يرضيك رأي سواك.. فعليك قبل كل شيء أن تعتبر صاحب هذا الرأي ندّاً لك في الإنسانية، ثم تحاوره في ما تختلف معه فيه وتنتقد ما لديه باحترام، وتتقبل منه بدورك الانتقاد، وتتقبل أية نتائج يصل إليها هذا الحوار"
وَهْم الإباحيّة
عادة الأكثرية الراجحة لدينا تصف الغرب جنسياً بالفسق والفجور، وتصمه بـ "الإباحية" التي تأخذ هنا معنى "انعدام الأخلاق والقيم والنواظم"، وهذه الأحكام التي نطلقها على الغرب هي أحكام تنطلق من تقاليدنا وأعرافنا وقواعدنا، وهي كلها لا تقوم على العقل ولا تحتكم إلى المنطق، وليست أكثر من ثمار لثقافة مأزومة ولاجتماع مترد على كافة الصعد، يتمظهران على صعيد الجنس من خلال منظومة "كبت جنسي" شرسة مهيمنة.
تقوم تقاليدنا الجنسية وسواها على الأعراف السلفية الموروثة والمعتقدات الغيبية، وهي لا تصدر عن عقل حرّ ومنطق فاعل، أما نمط الحياة الجنسية الغربية المعاصر، فهو يستند من حيث المبدأ إلى ثقافة متحررة معقلنة، فمن حيث المبدأ الغرب يعتمد مبدأ "الحرية الجنسية" التي تشكل جزءاً رئيساً من منظومة الحريات المتكاملة، التي لا يمكن للعقل إلا أن يقرّها ويعترف بها بتمامها وكمالها.
لكن إن كان الأمر كذلك على مستوى المبدأ النظري، فالأمر جد مختلف على مستوى الواقع العملي، والغرب المعاصر يعاني بدوره اليوم من أزمة جنسية كبيرة، لكنها مناقضة تماماً لأزمة الكبت السائدة لدينا، فالغرب اليوم يعاني من تفشي وسواد وتضخم الاستهلاكية الجنسية، التي تشكل بدورها أحد جوانب الأزمة الاستهلاكية العامة التي باتت تطغى اليوم على الحياة الغربية.
لكن رغم هذه الاستهلاكية المتفشية اليوم، فالغربي الذي يتبع نظاماً جنسياً كالجنس بدون زواج مثلاً، يفعل هذا وهو مقتنع تماماً بأنه لا يخرق خـُلقاً ولا يرتكب إثماً، وأن ما يفعله هو أمر سليم سلوكياً، ما يعني أن هذا الغربي عند ما يمارس الجنس الحر لا يخالف ضميره الأخلاقي الإنساني الخاص، فبأي حق وأي منطق نقوم نحن بالدوس على ضمير هذا الغربي، ونسقط عليه قالب ضميرنا الخاص، وهو قالب شديد التدني إنسانياً، ونَصِمُ الغربيّ بموجبه بالحِطّة السلوكية؟
وهم المؤامرة
كثيراً ما تُعزى تلك الإباحية الغربية المزعومة إلى مؤامرة خبيثة، عادة ما توضع خلفها "الماسونية الشريرة"، وهذا لا يقوله إسلاميون ومحافظون فقط، بل ويقوله أيضاً علمانيون وحتى شيوعيون، فأنصار "أسطورة المؤامرة" لدينا كثر ومختلفون وكل منهم يُفَصِّل هذه المؤامرة كما يرضيه ويخدمه، وبالنسبة للكثيرين من سُدنة وعبَدة "صنم المؤامرة" .. العلمانية كلها جزء من المؤامرة الماسونية الخبيثة، التي تضم أيضاً الديمقراطية والاشتراكية والقومية والنسوية وحقوق الإنسان، وتدخل فيها الثورات كالثورتين الفرنسية والروسية، والنظريات العلمية كنظريات التطور ونشأة الكون والنظرية الاجتماعية، وسوى ذلك مما قد تطول قائمته كثيرا!
في هذا الذهان... يصبح الواقع الاجتماعي كله مجرد عجينة كُليَّة السلبية تعجنها إرادة الماسونية الشيطانية على هواها وبما يناسب مآربها الجهنمية! وهنا -في هذه المقاربة المؤامراتية- لا وجود بتاتاً لقوانين الاجتماع والتاريخ الموضوعية، ولا قيمة للعلم ولا دور للعقل، فكل ما يجري هو مؤامرة تاريخية عالمية.. يترأَّسها ويديرها الشيطان الماسوني وأتباعه في المحفل الشيطاني الغربي!
هذه السخافة المريضة لن يتوقف عندها عاقل حقيقي، فهذا العاقل سينظر إلى كل التطورات التي حدثت وتحدث في الغرب منذ بداية عصر النهضة وحتى اليوم، وما يشبهها ويتكامل معها من تطوّرات أخرى في العلم، كحركات اجتماعية تاريخية تقوم على عوامل واقعية وتحكمها قوانين اجتماعية موضوعية، لا تختلف في قانونيتها عن قوانين الطبيعة، وما لا شك فيه أن هذا العاقل سيرى الدور الجوهري لكل من العقل والعلم في هذه الحركات الذي يتكامل مع أدوار بقية العوامل، وهذا العاقل لن يرى في نموذج الجنس الغربي المعاصر بكل إيجابياته وسلبياته إلا جزءاً غير متجزِّئ من حركة التطور العالمي الشاملة التي دشنها الغرب مع مطلع نهضته!
وهذا العاقل سيقول لكل من يرى في الغربي الذي يمارس الجنس الحرّ مثلاً ضحية للماسونية: "أنت تحكم على هذا الغربي بأنه إمّعة مغسولة الدماغ تقودها الماسونية كالشَّاة كما تشاء وإلى حيث تشاء، لكن هذا الغربي نفسه يعي تماماً ما يفعله، ويستطيع تماماً الدفاع عنه بعقله ومنطقه، فهل أنت -سواء كنت إسلامياً غيبياً أو شيوعياً دوغمائياً أو ما شابه- أكثر وعياً أو عقلاً أو معرفة من هذا الغربي، الذي أنجبته بيئة مجتمعية ينتشر فيها العلم وينشط فيها العقل، لترمي عقل هذا الغربي في حاوية النفايات وتسقط عليه قوالب ذهنيتك التي أفرزتها ثقافة ما تزال تتفشى فيها وتهيمن عليها مواريث الجهل والغيب والتعصب؟! وبأي حق يمكن لعقلك الذهاني المحكوم بالغيب والجمود العقائدي أن يحكم على عقل يستند إلى التفكير المنطقي الحرّ والمعرفة العلمية المثبتة، فهل أنت إلا خاسر بامتياز عندما تقحم نفسك في مواجهة مع مثل هذا العقل؟".
الإفساد الرأسمالي
الليبرالية هي أحد كُبْرَيات الإنجازات العظمى في التاريخ البشري، فهي النظام الاجتماعي الذي يحصل الإنسان على حريته التي من دونها لن يحقق إنسانيته.
لكن الليبرالية تعرضت إلى إفساد جد كبير من قبل الرأسمالية، بما في ذلك جانبها الجنسي أو "الليبرالية الجنسية"، فالرأسمالية هي نظام جشع متوحش، ولإشباع توحش جشعه الذي لا يعرف الشبع.. دفع بالحياة في المجتمعات التي يسطر عليها إلى درجات مفرطة من الاستهلاكية (وثقافة اللاثقافة)، وهذا ما أصاب الجنس كما أصاب سواه من ميادين الحياة المختلفة، وهذه الاستهلاكية المتضخمة اختزلت الإنسان إلى مجرد "مستهلك"، وحولت الجنس نفسه إلى "استهلاك".. وبدلا من أن تكون العلاقة بين الشريكين الجنسيين علاقة تواصل مشترك تنمي أبعاد إنسانيتيهما كما يفترض بها عقلانياً وإنسانياً أن تكون، أصبحت العلاقة بينهما علاقة استهلاكية بين مستهلـِك ومستهلـَك، وتحول كل منهما إلى مجرد أداة استهلاكية لقضاء حاجة استهلاكية عند الآخر!
واليوم كما يتنفس البشر في الغرب بسبب التوحش الرأسمالي هواء ملوثاً ويتناولون طعاماً ملوثاً ويشربون شراباً ملوثاً، فأمرهم في الجنس لا يختلف، وهم يمارسون جنساً ملوثًا، لكن ممارستهم لهذا الجنس ليست آثمة ولا فاجرة أكثر من استخدامهم لكل من ملوث الهواء والماء والغذاء!
بالطبع هذا لا يعني أن كل العلاقات في المجتمعات الغربية هي فاسدة تماماً، وينطبق عليها كل ما تقدم من وصف، فهناك علاقات راقية إنسانياً بكل تأكيد، وهناك علاقات تتدرج في استهلاكيتها، لكن ما تقدم من وصف ينطبق بشكل عام على الحالة السائدة من الجنس في الغرب اليوم.
انحسار الدِّين في المجتمع الغربي وتأثيره على الجنس
ليست العلمانية هي من قلّص دور الدين في المجتمعات الغربية، بل العقلانية والعلم، فالعقلانية والعلم هما من قلص دور الدين ووسع دور العلمانية لأن ذلك يتفق ويتوافق مع قوانين العقل وحقائق العلم الحديثين!
وبالطبع، فتقلص دور الدين لعب دوراً هاماً في تطوّر الليبرالية الجنسية وسواها من الليبراليات، فهذا التقلص.. كان ولا بد أن يتبعه تقلّص مماثل في التقاليد الجنسية القائمة على الدين، لكن الليبرالية الجنسية لا تنحصر فقط في إطار ردة الفعل السلبية الناجمة عن تراجع الدين وانحسار الأخلاق الجنسية المرتبطة به، فالأهم فيها هو أنها من ناحية الفعل هي منهجية تقوم على معطيات العقل الحديث وفكره العقلاني الحر!
فإن كان لدينا مثلاً شخصان يريدان ممارسة الجنس بحرية دون أية عقود عُرفية أو دينيّة أو رسميّة، وكان لدينا آخران يصران على حصر الممارسة الجنسية في إطار الزواج، وكان ثالثان يريدان الرهبنة واعتزال الجنس، فهل ثمة إذا أبعدنا الأعراف والعقائد واحتكمنا إلى العقل، ما يمنع العقل من الاعتراف بكل هذه الخيارات وقبولها والمساواة بينها وشرعنتها؟
خلاصة الكلام
سيرى كثيرون في هذه المقالة انحيازاً وترويجاً لما يسمونه "إباحية جنسية"، وهذا ليس غريباً على ذهنية لا تتفاعل مع العقل ولا تتعامل به، لكن فعلياً غاية هذا المقال هي الدفاع عن العلمانية، وتوضيح موقفها الحقيقي من الجنس، الذي يقوم على حرية الاختيار المعقلن والاعتراف بالتعددية والتنوع الذي ينتج عن هذا الاختيار، وهذا ما ينسجم مع المنهجية العقلانية التي تنتهجها العلمانية في كل ميادين الحياة ومواقف القرار.
وما تسعى هذه المقالة لبيانه، هو أن العلمانية لا تتبنى قطعا لا الإلحاد ولا الجنس الحر، ولكنها تسمح تماماً بهما وبغيرهما من المذاهب في الدين والجنس التي تختلف أو حتى تتناقض مع كل منهما، ما يعني تماماً أن العلمانية بحد ذاتها لن تفرض لا هذا المذهب ولا ذاك على أي مجتمع من المجتمعات في أي ميدان من ميادين الحياة.
بالطبع من حق المتدين المحافظ أن يخاف على دينه وتقاليده ومحافظته، ومن حقه أيضاً أن يسعى للدفاع عنها، وهذا الحق تعترف به وتحفظه وتضمنه تماماً له العلمانية، بل وتدافع له عنه أيضاً، ولكنها بالقدر نفسه تحفظ نفس الحق لكل الآخرين المختلفين عنه مهما بلغت درجة الاختلاف، وهي لا تسمح بصراع المختلفين أو عسف أو جور بعضهم على بعض!
لذلك فالعلمانية لن تفرض الإلحاد أو الجنس الحر على مسلم أو مسيحي أو بوذي أو حتى علماني أو سواهم، وهي تحفظ الحقوق الثقافية للجميع، وهذا الحفظ لحقوق الجميع هو ما يجعلها تمنع أياً منهم من السعي لفرض ثقافته بالقوة على الآخرين، أو التعامل بأي شكل من أشكال العنف مع المختلفين، فكل المختلفين هم في العلمانية متساوون، ولهم نفس الحقوق، وبإمكانهم أن يتنافسوا ويتواجهوا في ما يختلفون فيه وبه بشكل سلمي!
وهذا يعني أن العلمانية لن تحرم متدين من دينه، أو ترغم محافظ على ترك محافظته، لكنها بكل تأكيد تمنعهما بمنتهى الحزم من القيام بأي عنف يرتبط بالدين أو المحافظة، كما تمنع سواهما من استخدام أي عنف يرتبط بهوية أو معتقد! ما يعني أن العلمانية ستقف بصلابة وتمنع بحزم العقاب بسبب الكفر والتمييز والانتقاص بسبب المعتقد كما ستمنع جرائم الشرف، وتعنيف من تتزوج بدون موافقة ولي الأمر، والعنف بذريعة الزنى وهلم جرى...
وهي تقول بكل جلاء لكل مختلف: "عش في اختلافك بأمان وسلام.. ودع غيرك من المختلفين مثلك أيضاً فيهما يعيش، وحين لا يعجبك اختلاف، واجهه بالسلم والحسنى"!