info@suwar-magazine.org

المنتظر المأجور

المنتظر المأجور
Whatsapp
Facebook Share

 

 

قبل الحرب كان معظم السّوريّين يعملون بدوامين لتأمين معيشتهم، وكانت فرص العمل متوفّرةً إلى حدٍّ ما، بغضّ النّظر عن طبيعة هذا العمل وسلبياته، فقد يضطرّ أستاذ المدرسة أن يعمل بعد دوامه سائق تكسي يملكها جاره.

 

مع السّنوات الأوّلى للحرب أصبح النّاس يشتكون من تناقص فرص العمل... هل بالفعل تناقصت فرص العمل؟ هذا كلام يردّده الكسالى، أما الحقيقة هي عكس ذلك تماماً، فعلى سبيل المثال هناك أشخاصٌ لا يمكنهم الوقوف لساعاتٍ في طابورٍ طويلٍ للحصول على ربطة خبزٍ، بسبب وضعهم الصّحّيّ، أو قد يكونون ملتزمين بعملٍ ما، عدم قدرة هؤلاء على الانتظار خلق فرصة عملٍ لبعض الأُسر التي لا عمل لها وأصبحت مهنتهم الانتظار، حيث يقفون في الطّابور مع أولادهم إلى أن يأتي دورهم ليشتروا الخبز، ثم يقومون ببيعه بسعرٍ أعلى... ويعودون مرّةً أخرى إلى الطّابور.

 

 وبالطّبع هناك فرصٌ كثيرةٌ من هذا النّوع لمن يرغب بالعمل كمنتظرٍ مأجورٍ، فمنذ أشهرٍ قام معظم المدخنين باستبدال التبغ الأجنبيّ الذي ارتفع سعره بالتّبغ الوطنيّ، والذي كان يُباع بسعرين، أحدهما مرتفعٌ في الدّكاكين، والثّاني منخفضٌ في مراكز بيع المؤسّسة العامّة للتبغ التي عانت من الازدحام أيضاً بهدف الحصول على علب سجائر رخيصة الثّمن، مرةً أخرى العاطلين عن العمل يقفون في طابورٍ طويلٍ ليحصلوا على علب التّبغ ثمّ يقومون ببيعها بسعرٍ أعلى من المؤسّسة، وأقلّ من الدّكاكين... وفي مراكز بيع الغاز يتكرّر ذات المشهد.

 

أما في أزمة الوقود التي تُعاني منها البلاد بين الحين والآخر وبالرّغم من الازدحام الذي تسبّبه، لم توفّر فرص عملٍ كالتي كانت في طوابير الخبز والغاز والتّبغ، فلا مجالٌ هنا للعاطلين عن العمل أن يكسبوا لقمة عيشهم من الانتظار المأجور، فأصحاب السّيّارات سينتظرون  في طابورٍ طويلٍ إلى أن يأتي دورهم ليملؤوا سيّاراتهم بالوقود، وقد يدوم الانتظار لعشر ساعاتٍ، وأحياناً يضطرّون للنوم في سيّاراتهم إلى اليوم التّالي ...  ولكن رغم ذلك استطاع الكثير من أصحاب الأعمال الحرّة إيجاد سوق تصريفٍ جيّدٍ لبضائعهم، وكان المستهلك هم سائقو السّيّارات الذي يشعرون بالضّجر والملل ولا يمكنهم ترك سيّاراتهم، حيث انتشرت عربات الفول والذّرة، وبائعي القهوة والدّخان، واليانصيب، والفطائر، وغزل البنات، وبذور عباد الشّمس المحمّصة، وأيضاً بائعو رصيدٍ للموبايلات ينادون: " تحويل رصيد للموبايل.. تحويل رصيد للموبايل " وقد زاد مدخول هؤلاء، بحسب قولهم، مقارنةً مع الأيام التي تخلو من أزمة الوقود!

 

 

 كل هذا الكدح والتّعب والذّل لا يكفي لسدّ الجوع، رغم ذلك السّوريّ لم ييأس ويستسلم، ووجد فرصة عملٍ أخرى، وهي أن يصبح مخترعاً، فالحاجة أمّ الاختراع،  ولشدّة حاجته، أصبح من أهمّ المخترعين على هذا الكوكب، ففي ليالي الشّتاء يخفّف عن أطفاله البرد باختراع الحكايات عن سلبيّات الصّيف والأمراض التي يسبّبها، والحرارة التي تمنعهم من اللّعب، وللأطعمة اخترع أسماءٍ توحي بالشّبع، مثل: "حساء الأبطال الدّسم"، والذي يتكوّن من حبة بطاطا مفرومة بشكلٍ ناعمٍ وملحٍ وماءٍ بل الكثير من الماء، تُخلط المقادير مع بعضها وتوضع على نارٍ هادئةٍ ثم تُقدّم ساخنةً مع الخبز. حتّى في حالات اليأس والإحباط؛ اخترع تعويذةً سحريّةً لبثّ الأمل في نفسه، ونفوس أفراد أسرته، حيث يردّد ربّ الأسرة: الغد سيكون أجمل، فتردّد الأسرة خلفه: "الغد سيكون أجمل"، ثمّ يذهبون إلى النّوم.

 

فيما مضى كان للسوريّ أحلامٌ قليلةٌ وبسيطةٌ؛ الآن تغيّرت لتصبح حُلماً واحداً: كيف أبقى على قيد الحياة، ولا أموت من الجوع أو القهر أو برصاصةٍ طائشةٍ؟ كلّ شيءٍ تغيّر، ساعات العمل والأجر، وعدد المرّات التي يأكل فيها لحمةً وسمكاً وفاكهةً خلال الشّهر أو الثّلاثة أشهرٍ، وعدد المرّات الّتي يرغب فيها بممارسة الجنس، وأيضاً عدد المرّات التي ينجح فيها بالوصول إلى النّشوة الجنسيّة، كلّ شيءٍ تغيّر حتّى مناماته، يُقال: إذا أكلت في اللّيل حدّ التّخمة قد تُعاني من الأحلام المزعجة. السّوريّ غيّر هذه الجملة، وأكّد بطلانها على أرض الواقع، فهو أكثر الأحيان ينام بمعدةٍ فارغةٍ ولا يرى إلا الكوابيس. في المنام يأتي شخصان وكأنّهما توأمان بسلاحٍ فرديٍّ، يسأله الأوّل: مع من أنت؟ فيقول له: معك. فيطلق الثّاني الرّصاص على رجله اليسرى، ويقول له: والآن... مع من أنت؟ فيقول: بالطّبع معك. فيطلق الأوّل الرّصاص على رجله اليمنى. يحاول أن يستيقظ من الحلم فيفشل، ولشدّة الألم والذّعر يقول: أنا حياديٌّ! فيطلق الاثنان الرّصاص على جهة القلب، رغم ذلك لا يموت ولا يستيقظ من هذا الكابوس.

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard