السوريّون بين الخوف والرعب.. وحلم الحرية
في إهدائه لكتابه (من تدمر إلى هارفارد) يحفر د. البراء السرّاج إلى "والدتي (...)، إلى أصدقاء السجن (...) إلى شهداء سوريا.."
وفي تقديمه يقول: "قصّتي هذه واحدة من قصص آلاف السجناء عديمي الرأي والذين اُعتقلوا على يد عديمي الضمير..". وفي رواية (الساعة الخامسة والعشرون) لقسطنطين جورجيو، نجد الشخصيّة الرئيسيّة في الرواية تتنقل من معتقل إلى آخر، طوال فترة الحرب العالميّة. (لا يهم أي عالميّة هنا فكلّ الحروب الحاليّة عالميّة).
لكلّ الرايات، شعاراتها التي رُفعَت في الحرب معتقلات، اختبرها جميعاً، لا فرق بين معتقل راية وآخر سوى الشكل، فكلّها وباسم الإنسانيّة والتحضّر والتطوّر تعتقل ذلك الإنسان. وبختام الحرب ينتقل لمعسكر "الحريّة"، وفي المعتقل يطلب منه أن يبتسم للكاميرا...!
ولكل الحروب والثورات جانبها المظلم والكارثي، وحتى في العهود المغرقة في القدم، كان الإنسان البسيط هو الضحيّة والأضحية بالآن نفسه. ولكن في تلك العهود السابقة، لنقل الأولى للتجربة البشريّة، كان أمام قوى عمياء، وعليه وهو ضعيف عاجز وعارٍ بالمعنى المجازي، أن يتقرّب منها، فيقدّم لها أضحية، كان يحتاج لمأوى يقيه عُنف الطبيعة، ويحتاج لطعام ليبعد شبح الموت جوعاً، ويحتاج الأمان ليبعد المفترس من الحيوان، كما الجائع الآخر.
كان لثورة سبارتاكوس، أو ما يسمى ثورة العبيد الثالثة، وقع الزلزال على أعتى إمبراطوريّة في أوروبا حينذاك. انطلقت من حلبة مصارعة للعبيد في روما عام 73 ق.م، ببضعة عبيد، ولتصل في أوجها لحوالي 120 ألف مقاتل، لتُهزم عام 71 ق.م، ويصلب 6 آلاف منهم على طول الطريق إلى روما، كعبرة وتحذيراً بأبشع الصور، ضد المستعبَدين من قبل أسياد القوة والقهر.
وفي العصر الوسيط اندلعت ثورة الزنج عام 869 ميلاديّة، قادها "علي بن محمد" ضدّ الخلافة العباسية، وانتهت في أوائل الثمانينات من القرن نفسه.
وفي العصر الحديث قامت الثورة الهايتيّة عام 1791، في مستعمرة سان دمينجو الفرنسيّة، وانتهت بتأسيس دولة مستقلة.
بينما معاصراً فكانت ثورة أكتوبر 1917، الأشهر في تاريخ البشريّة، والأعمق أثراً، وطبعت القرن العشرين بطابعها.
وخلال حربين عالميّتين بين معسكرين متضادين، ذهب عشرات ومئات الملايين ما بين موتى وأشباه الموتى، من الناس البسطاء الذين لا ينشدون سوى لقمة عيش وكفاف يوم. بينما حصد أباطرة القوّة والمال، المزيد من تراكم الثروات والمزيد من القوّة، لتعميم البطش على الكرة الأرضية.
والسوريوّن أبناء القهر، ليسوا سوى أحفاد ضحايا ثورة الزنج، وضحايا السلطنة العثمانية، التي استعبدتهم لأربعة قرون، وضحايا الاحتلال الفرنسي، وورّثته من ملاك وإقطاعييّن، ليهجعوا بعدها وبالقوّة العسكريّة تحت جناح الذلّ والقهر منذ سبعينات القرن الماضي للآن.
السوري افتقد الشمس والحريّة منذ قرون، كما افتقد الهواء النقيّ، والعقل الحر، والخبرة والتجربة ومراكمتها، والعمل السياسي، المؤسسيّ العلني. فأنّى له عندما اندلعت شرارته الأولى، وحبا كالرضيع، أن يسير قُدماً وبخطى ثابتة.
وليت الأمر وقف عند هذا الحدّ، تكالبت عليه قوى إقليميّة ودوليّة، وأصبح عبداً مُمزّقاً بين مطرقة النظام وبكل ملحقاتها وأدواتها، التي طبّقت من خلالها الأسوأ مما قدّمته التجارب البشريّة السابقة، في إذلال وقهر الضعفاء، والسندان الذي اتخذ أشكالاً مختلفة ومحترفة، مارستها عليه قوى ميليشيات محليّة، وبدعم من النظام، كما بدعم من القوى الإقليميّة والدوليّة، سواء الراعيّة للنظام أو المناهضة له، صاحبة الأجندة في سوريا، وبدون استثناء.
عادة ما تُرسّخ الدكتاتوريّات سلطانها على قاعدة الخوف والرعب، صلب النظام شعباً بأكمله، وأرهب البعض ليتّعظ و يتطبّع الجميع، ودام له الأمر أربعين سنة، أجهد تجربة فيما سُمّي بالأدبيّات السياسيّة السوريّة ربيع دمشق في مهدها، في مُستهلّ القرن الجديد، ووأد الربيع، وابتدأت مسيرة التجويع بخطى مدروسة وبطيئة، فالجوع السوريّ تراكم عبر سنين، والخوف من الغدّ ترسّخ في النفوس، والرعب شلّ الحواس، والنظام السوريّ استشرس، جَوّع الشعب السوري، وحتّى لقمة الخبز التي افتقدها الفقراء والمهمّشين في التاريخ السوري المعاصر، أواخر الاستعمار العثماني، وكما الاستعمار الفرنسي، تلك الكسرة من الخبز المُكوّنة حينذاك من الشعير، ضنّ بها عليهم.
تفوّق النظام على أسياده، من عبّاسيين، وعثمانييّن وفرنسييّن. وكما يقول المثل العاميّ: "فرخ البط عوّام"، أضاف إلى التجارب الحضاريّة فنوناً جديدة في إخضاع المُهمّشين الجائعين، لم تخطر على بالهم، أو بالأدق لم يتوصلوا لها حينذاك.
فنون القتل لم تعد تُجدي، فنون التعذيب لم تحقّق المطلوب، إنشاء السجون والمعتقلات، أصبحت الأرض على امتدادها مُعتقلاً مفتوحاً وبلا جدوى، إذاً لا بد من فنون جديدة وأساليب مُستحدثة يتفتّق عنها ذهن بشريّ مريض، بوهم السلطة، بوهم القوّة، بوهم الحقّ، بأي وهم ممكن أن يخطر على الذهن البشري.
ولكن إرادة الحياة لدى هذا المقهور والمهمّش، أبت أن تستسلم، صحيح استسلمت لواقع وشرّ لا بدّ منه، ولكن لا بدّ لها أن تعيش.
رضخت واستكانت، وقبّلت المر ولم يرضى المُرّ بها، رضيت بالموت في سبيل الحياة، ولكنّ الموت وقف عاجزاً أمام كمّ الأرواح أمامه، حتّى الموت استسلم لها، ورفع يد الطاعة لإرادتها في الحياة، ولم ينل ذلك رضى النظام في سوريا.
حُلم صغير لطفل سوري، قال لأمّه: "ماما حلمت اليوم جبتيلي بيضة"..! كان الحلم أقوى وأعتى من كل أساليب النظام لقتل وتهجير وتجويع السوريين، كان الحلم هو المنطقة التي عجزت عنها كلّ قوى الموت والهمجيّة والدمار، سورييّن وغير سورييّن، نظاماً بالدرجة الأولى، وجماعات تاريخ عفا عليه الدهر، وقوى إقليميّة ودوليّة.
فالحلم السوري، عصيّ على التطويع، عصيّ على التنكيل والاغتيال والتمثيل، وعصيّ على قوى الظلام و"الحضارة" والرسالات، السماويّة والأرضيّة.
الحلم السوري "بدنا نعيش"